Wednesday, May 9, 2012

عين ولي الفقيه الصفوي على مصر

جاسر عبد العزيز الجاسر
وسط انشغال الأجهزة الأمنية، والسلطة السياسية العليا في مصر (المجلس العسكري الأعلى) في إدارة الأوضاع الداخلية في بلد كبير وفي ظل تنافس شرس من القوى السياسية التي أنهكت الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة التي حمّلوها أكثر مما تحتمل، مما أتاح لجهات لا تخفي عداءها لمصر من استغلال هذه الأوضاع الشاذة لتؤسس إلى اختراق خطير في البنية الأساسية للأمن القومي المصري.
ولأن العدو الأكبر لمصر وللأمة العربية هو الكيان الإسرائيلي رغم توقيع ما يسمى بـ(معاهدة السلام) إلا أن إسرائيل تظل وستبقى العدو الأكثر تهديداً للأمن القومي المصري الذي يعاني من (ضعف) في الجبهة العسكرية المواجهة لإسرائيل، فشبه جزيرة سيناء التي تقلص الوجود العسكري المصري فيها بسبب بنود اتفاقية كامب ديفيد، كما أن تلك القيود قد أضرت حتى بالتواجد الأمني مما أدى إلى تنامي قوى مسلحة استغلتها جهات لا تريد الخير لمصر فقد لاحظ المتابعون أن هناك عملاً منظماً لتسهيل وصول الأسلحة الليبية المهربة إلى سيناء، فقد تنامت شكوك الأجهزة الأمنية في القاهرة في تمويلٍ إيراني لعمليات تهريب الأسلحة الليبية التي تحوي أسلحة نوعية متقدمة كصواريخ جراد والصواريخ المضادة للطائرات التي تطلق من على الكتف، ومدافع الميدان والرشاشات المتوسطة إضافة إلى الأسلحة الخفيفة التي هُرّب جزء كبير منها إلى القاهرة نفسها ومدن القناة وبعض هذه الأسلحة ظهر في المواجهات والاعتصامات التي شهدت ميادين القاهرة.
العبث الإيراني في الأمن المصري القومي لا يمكن إخفاؤه؛ فالإيرانيون ومن يقبض أموالهم بالإضافة إلى أن هناك للأسف بعضاً من العملاء الذين يذهبون إلى طهران وإلى الضاحية الجنوبية في بيروت يعودون وحقائبهم مملوءة بالأموال وبالتعليمات التي وإن ظهرت بعض آثارها السلبية في سيناء وفي المواجهات التي حصلت في ميادين القاهرة ومدن القناة، إلا أن القادم سيكون أخطر إن لم يتدارك المصريون الأمر، وقد لاحظ المتابعون توجه من يسمونهم في إيران ولبنان والعراق بالمراجع الشيعية للذهاب إلى مصر في رحلات مجدولة، وعقدهم لندوات ومحاضرات في الشقق والمنازل، أي بعيداً عن الأماكن العامة وعن مراقبة الأجهزة المختصة، وذلك بهدف نشر الفكر الصفوي بنفس الأسلوب الذي بدأوا فيه نشر فكرهم المنحرف في صعدة وشمال اليمن وفي سوريا، فكانت النتيجة إقامة دويلة في جنوب لبنان وجيب في شمال اليمن ومراكز للتشيع الصفوي في سوريا.
هذا التحرك المشبوه شجبه الأزهر الشريف إلا أنه ظل دون تفعيل؛ فما زال المرجفون يذهبون ويعقدون الندوات والمحاضرات وما زال الإيرانيون يرسلون الأسلحة المهربة إلى سيناء وإلى المدن المصرية في عمل فاضح لاستهداف مصر وإلحاقها بدائرة ولي الفقيه.

في حرب التطهير المذهبي

زهدي الفاتح
نظام بشار الأسد العلوي، يعي جيداً، أن ليس بمقدوره على الإطلاق أن يربح حرب التطهير المذهبي، التي يشنها بضراوة خبيثة ضد أكثر من ثلاثة وعشرين مليون إنسان سوري.
واضح أن النظام الباطني يستدرج، بإلحاح مُمنهج أهل السنة، إلى حرب أهلية مذهبية، تقود سورية إلى التشرذم، ومن ثم إلى التقسيم، فيما إسرائيل تتحدث عن إقامة مخيمات في الجولان السورية، التي تحتلها منذ أربعين عاماً، لحماية مئات الألوف من العلويين السوريين، المتوقع أن يهربوا من حمامات الدم، إذا ما ازداد سعير الحرب الأهلية المدمرة.
فعلياً، لا ظاهرياً، تتمنى إسرائيل بقاء بشار الأسد، وتعمل بأساليبها الخاصة، على نجاحه في سحق مناوئيه. إذ ترى أن ليس من الحكمة مساعدته، مباشرة، خشية أن تؤذيه، وتزيد من مصاعبه.
وهو بدوره، ليس بإمكانه، خاصة في الظروف الراهنة، كما طيلة أربعين عاما منصرمة، الهروب من مواجهة الثورة السورية إلى «شن» حرب على تل أبيب، لأن لا أحد سيصدقه أو يقف إلى جانبه، يحميه من نتائج هذه الحرب التي ستؤدي إلى تدمير سورية.
هل، فعلاً، يقوم علويون، مُتحكمون بسورية، طوال العقود الأربعة الماضية، بحرب تطهير مذهبي مُمنهج ضد أهل السنة في سورية، وفي المنطقة، سعياً إلى إقامة دولة علوية صافية، تتماثل مع الدولة اليهودية الصافية؟
معتقدات الملّة العلوية الأساسية، معتقدات باطنية سرية، رصد ما عرف عنها ابن تيمية، فانتهى إلى الفتوى بأن العلويين، من بين سائر الفرق والملل الباطنية، هم «أكفر من كثير من المشركين، وضررهم أعظم من ضرر الكفار المحاربين..».
يؤمن العلويون بأن سلمان الفارسي (الفارسي؟)، رضي الله عنه، هو من علّم القرآن الكريم لنبينا محمد، صلى الله عليه وسلم. كما أن الله، تعالى عما يأفكون، تجسّد في الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وأن هذا «الإله!» علي هو من «خلق!» محمدا!!!
يحتفلون، سنويا، في التاسع من ربيع الأول، فرحاً وشماتة، بما يُسمونه (يوم دلام)، الذي يُصادف يوم استشهاد الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بيد أبي لؤلؤة الفارسي!!
نشأت أصول الملة العلوية، انطلاقا من الطريقة الصوفية المعروفة باسم (القزلباشية)، أي أصحاب الطاقيات الحمراء، في القرن السادس عشر الميلادي، في أذربيجان، ومن ثم انتشرت هذه المعتقدات في جنوب تركيا، التي على أساسها قامت الدولة الصفوية الشيعية في فارس.

من وحي النكبة.. الصهيونية عقيدة عنصرية

يوسف عبدا لله مكي
اتكأ مشروع الصهاينة الاستيطاني، على خرافات وأساطير، استحضرت من خارج التاريخ والمكان، ترى أن فلسطين وفقا لتنظير الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض
بعد أيام قليلة، تمر الذكرى الرابعة والستون لاغتصاب فلسطين، وإعلان تأسيس إسرائيل، خنجرا مسموما، في القلب من الوطن العربي، يحول دون وحدة الأمة وتقدمها. في 14 مايو 1948، أعلن المجلس اليهودي الصهيوني قيام الكيان الصهيوني. وكان معنى ذلك تمكن الصهاينة، من تحقيق مشروعهم الذي أعلنوا عنه، في أواخر القرن التاسع عشر، بإقامة وطن قومي لليهود على أرض السلام، بينما لم يتمكن الفلسطينيون من تحقيق حلمهم في الحرية وتحرير فلسطين وإقامة دولتهم المستقلة فوق ترابها.
وبديهي استحالة تحقيق المشروعين، في تلك اللحظة من التاريخ. فقد بدت ضمن الواقع الموضوعي وتوازن القوة، وموقع العرب في الخارطة الدولية، استحالة قيام الدولة الفلسطينية.
فالفلسطينيون الذين عاشوا في وطنهم في سلسلة ممتدة، دون انقطاع، لآلاف السنين. وعلى أرضها شيدوا حضارتهم ومقدساتهم وأماكن عبادتهم وثقافاتهم وفلكلورهم. لم يكونوا، تحت أي ظرف، على استعداد للتفريط بحقوقهم الطبيعية والتاريخية في فلسطين. وقد أكدت ثورتهم منذ مطالع العشرينات، مرورا بانتفاضتهم في نهاية العشرينات، وثورتهم عام 1936، استعدادهم الثابت لبذل الغالي والنفيس والتضحية بأنفسهم من أجل الدفاع عن حقوقهم القومية والوطنية. وقد اعتبروا مرحلة الانتداب البريطاني لفلسطين، محطة عبور قصيرة، ينالون في نهايتها حقوقهم في التحرر والاستقلال، وعودة فلسطين حرة عربية.
أما الصهاينة، فإن مشروعهم الاستيطاني، اتكأ على خرافات وأساطير، استحضرت من خارج التاريخ والمكان، وقامت على نفي لحقائق الجغرافيا والتاريخ معا، فنفت جملة وتفصيلا وجود أي شعب على أرض فلسطين، وأن فلسطين وفقا لتنظير الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، كما هي تصريحات رئيسة الحكومة الإسرائيلية.
وكانت خرافة الاصطفاء قد جعلت من اليهود شعب الله المختار، الذي اختير من بين شعوب الأرض، لعمارة الأرض، فهم وحدهم الذين يملكون حقوقا تاريخية في فلسطين، منحت لهم من قبل النبي إبراهيم الذي وعدهم بحيازتها. وهم أيضا شعب عصي على الاندماج بالشعوب الأخرى، في المجتمعات التي عاشوا بها عبر التاريخ، بسبب فراداتهم وخصوصية ثقافتهم. وعلاوة على ذلك، فإن اغتصابهم لفلسطين سيؤمن لهم وطنا قوميا، يلغي حالة النفي والاغتراب، ويزيح عنهم حالة الاضطهاد المستمر، وحملات الإبادة التي يتعرضون لها باستمرار، وبشكل خاص في أوروبا الشرقية.
وحين يقر بعض الصهاينة، بالوجود الفلسطيني، فإن ذلك يتم بهدف ممارسة نوع آخر من النفي، مستخدمين أقذع التوصيفات العنصرية بحق هذا الوجود. فالمؤرخ بني موريس يصف الفلسطينيين ببرابرة العصر الحديث، وأن إسرائيل تقف مع العالم المتحضر، في جبهة صدام الحضارات بين الغرب ومفاهيمه، والعرب والمسلمين بمفاهيمهم. والمشكلة من وجهة نظره، تكمن في أن الإسلام عالم يحمل قيما مغايرة... عالم ليست فيه لحياة الإنسان القيمة ذاتها الموجودة بالغرب، فالحرية والديمقراطية والانفتاح والإبداع أمور غريبة على المسلمين. ويأتي هذا التوصيف متسقا مع رؤية صامويل هانتنغتون في صراع الحضارات.
وتجد قراءة المؤرخ اليهودي، لبني موريس المعاصرة جذورها في عمق فكر مؤسسي الحركة الصهيونية. فمؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل، يرى أن تأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، سيشكل جدارا متينا عازلا بين الحضارة الأوروبية وبين العرب البرابرة.
وبهذا التوصيف، يبرر هرتزل وموريس، قتل العرب وإبادتهم، وفي أحسن الأحوال، طردهم من فلسطين لأن ذلك ضرورة لانتصار الإنسانية. وهذه القراءة ليست استعادة للتاريخ. فالدعوة لطرد الفلسطينيين من الأراضي التي احتلت عام 1948، تتكرر من جديد وهي كما يراها، المؤرخ الصهيوني موريس حتمية لضمان أمن واستقرار إسرائيل، بل إنه لا يرى غضاضة في دمج الضفة والقطاع بالكيان الصهيوني بعد القيام بتطهير عرقي لهما من العرب الفلسطينيين. ويستدل على ذلك، أنه من دون طرد الفلسطينيين في السابق، لم يكن للصهاينة أن ينتصروا في حرب تأسيس إسرائيل. وإن "هناك ظروفا في التاريخ تنطوي على تبرير للتطهير العرقي". فلم يكن بوسع الديمقراطية أن تتحقق بأميركا دون إبادة الهنود الحمر. وهناك حالات يبرر فيها الخير الشامل، أعمالا صعبة، ووحشية. وهكذا يبرر طرد الفلسطينيين من أرضهم.
ضمن هذه الرؤية العنصرية للمؤسسين والأحفاد، اندفع الصهاينة عام 1902، بالضغط على بريطانيا لنيل وعد منها بتأييد تأسيس وطن لليهود في فلسطين. وفي نوفمبر عام 1917، صدر وعد بلفور على أن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف لتأسيس وطن قومي للشعب اليهودي بفلسطين. وكان ذلك أول تأييد رسمي من إحدى القوى العظمى للادعاءات الصهيونية في فلسطين.
حاول الفلسطينيون التصدي لمشروع الهجرة اليهودية لأرضهم، لكن توازن القوة لم يكن لمصلحتهم. فقد افتقروا التنظيم والقيادة المقتدرة ووحدة العمل، وكانوا متفرقين إلى عشائر وأحزاب ومجاميع صغيرة. أدى ذلك إلى حرمانهم من إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وكانت نتيجة ذلك أن كثيرا من الاحتجاجات والانتفاضات الفلسطينية ضد البريطانيين وحركة الهجرة اليهودية في نهاية الثلاثينات انتهت بنتائج مأساوية.
وتمكن الصهاينة من إيجاز خطوتهم الرئيسية باتجاه الاستيلاء على فلسطين بنهاية الحرب العالمية الثانية. ذلك أن الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها بريطانيا، بعد الحرب مباشرة، جعلتها تقرر الرحيل عن فلسطين. وكان العالم، قد سمع بأخبار الإبادة التي تعرض لها اليهود الأوروبيون في معسكرات هتلر. وقد أدت هذه العوامل لخلق مناخ موات لقيام دولة إسرائيل، بدلا من وطن قومي، كما اقترح في وعد بلفور.
في سبتمبر عام 1947، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 181 المتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية. وقد نادى بتقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين عربية ويهودية ونظام دولي خاص بمدينة القدس سيبرز إلى الوجود في فلسطين بعد شهرين من إتمام مغادرة القوات المسلحة لسلطة الانتداب. رفض العرب، قرار التقسيم، لأنه يأخذ بعين الاعتبار نسبة التعداد السكاني للشعب الفلسطيني. ولأن الفلسطينيين اعتبروا المهاجرين اليهود إلى فلسطين في حكم الأجانب، الذين لا يملكون حق المواطنة. واندلعت الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، ونتج عنها تشرد ما يقارب 775 ألفا من الشعب الفلسطيني إلى الأقطار العربية المجاورة، وبقاء أقلية من الفلسطينيين تحت وطأة الاحتلال العسكري الإسرائيلي المباشر. وفي تلك الحرب، مارس الصهاينة أبشع أنواع الجرائم، حيث لم يترددوا عن ارتكاب المجازر في بئر السبع ودير ياسين، شملت بقر بطون النساء، وقتل الأطفال والشيوخ الفلسطينيين، ومصادرة الأراضي وهدم البيوت، والتهديد بإبادة السكان المحليين ما لم ينصاعوا لبرنامج الترانسفير، ولتكشف نتيجة الحرب عن وجه آخر أقبح للعقيدة والممارسات الصهيونية.

المتراجعون في الخريف العربي

عادل الطريفي
حين انطلقت الانتفاضات الشعبية في العالم العربي، لفّ المثقفين والكتاب، حالة من الذهول والاندهاش في بداية الأمر، حيث لم يكونوا يتوقعون أو يتصورون ما جرى، ولكن حين بدا أن لحظة التغيير قد تحققت، غيّر أولئك المثقفون رأيهم، وأعلنوا عن دعمهم لثورة الشوارع، بل ذهب البعض إلى التنظير والمشاركة في مظاهرات لا قائد لها، وانتفاضات لا تمتلك أي مشروع سياسي سوى المطالبة برحيل النظام، ولا يجمعها أي قيم أو مطالب واضحة للنموذج الذي ينبغي الانتقال إليه. البرلماني المصري د. عمرو حمزاوي قال في حوار له مع فضائية الـ«بي بي سي» (العربية) قبل الثورة المصرية بأيام، بأن ما حدث في تونس هو نتيجة غضب لطبقة تونسية متوسطة وعلمانية تضامن معها الجيش، واستبعد في ذلك اللقاء أن يثور المصريون ضد نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك؛ لأن المجتمع المصري مختلف عن نظيره التونسي. روائي مثل علاء الأسواني نشر قبل الثورة بعام كتابا بعنوان «لماذا لا يثور المصريون؟» (دار الشروق: 2010)، جادل فيه أن النخبة المصرية فاسدة وغير ميالة للمغامرة، وأنها استكانت منذ عقود إلى قبول الواقع على الرغم من مساوئه وتناقضاته.
بعد «الثورة» تغيرت تلك اللغة، حيث اتجه الأشخاص أنفسهم للتنظير لثورة كانوا يعتقدون في يوم من الأيام أنها لن تقع. كتاب آخرون - عربا وأجانب - ملأوا الساحة بتصريحات، ومقالات، وكتب تدعي معرفة الواقع في بلدان «الربيع العربي»، مقدمة سيلا من التبريرات والتفسيرات لشرح التحولات الجارية، وطارحة رؤيتها للمرحلة الانتقالية، ولكن لا أحد من هؤلاء أقر أو اعترف بخطئه، أو قصور رؤيته للواقع. طبعا، كانت هناك كتابات قليلة في هذه الجريدة تحذر من خطورة ما يجري، وعدم الانسياق وراء وهم الشارع، وشعارات الجموع الغاضبة، ولكن تلك الأصوات حجبها اندفاع الأصوات المباركة عربيا وغربيا، لما اعتبروه يقظة أو انبعاثا جديدا لشعوب المنطقة.
المثير للانتباه أن أولئك المثقفين والكتاب الذي رحبوا، بل تبنى بعضهم تلك الانتفاضات، بدأوا في التراجع عن مواقفهم، واختار بعضهم طريقة النقد والتشكيك في مستقبل تلك الثورات، ولكن قليل منهم من اعترف، أو عبّر عن قصور رؤيته، متناسين عن عمد دورهم في الترويج السطحي والحماسي للشارع الثائر. اليوم، يكتب البعض صراحة - أو بطريقة غير مباشرة - عن مخاوفهم من نتائج التحولات الجارية. السبب الرئيسي في ذلك هو أن نتائج الانتخابات الديمقراطية التي بشروا بها، قد جاءت بأحزاب وقوى دينية أبعد ما تكون عن قيم الديمقراطية، والمدنية، وحقوق الإنسان، مما يعكس موقفا ذرائعيا لتلك النخب.
الآن بات بإمكانك رصد تصريحات وكتابات متشككة في نتائج «الربيع العربي» على مستقبل الحريات والحقوق في تلك البلدان. أي أن دعاة «المجتمع المدني» والحقوقيين باتوا يدركون أن المبادئ والأحلام التي تعلقوا بها، قد تحولت إلى كابوس مرعب بسبب صعود الإسلاميين المتشددين إلى سدة الحكم.
هذا المشهد ليس جديدا، فدعاة الاستقلال في الأربعينات بشروا بحلم الدولة الوطنية، ثم لم يلبث الكثير منهم أن هرب أو وقع في أسر الإقامة الجبرية، ناهيك عن الاغتيالات والمؤامرات. أيضا، دعاة القومية ومن بعدهم البعثيون في الستينات والسبعينات حولوا دولهم الناشئة إلى نظم شمولية، وضحى رفاق الأمس ببعضهم بعضا بعد أن همشوا المؤسسات، وعبثوا بالدساتير. حتى الإسلاميون اقتتلوا فيما بينهم، وكفر بعضهم بعضا حول الإمارة، والمغانم الدنيوية، وتجارب إيران، والجزائر، والسودان، واليمن ما تزال حاضرة. اليوم، يواجه دعاة المجتمع المدني، ومن يطلقون على أنفسهم أسماء من قبيل «ناشط حقوقي» أو «إصلاحي»، المصير ذاته، فهم يقدمون خطابا ثوريا/ انقلابيا يبرر العصيان المدني، ويحرض على الاحتجاجات العنيفة، حتى وإن عطلت مصالح البلاد والعباد، وحتى بعد أن قالت صناديق الاقتراع قولتها، ما يزال البعض يحاول تغيير الواقع بالقوة تحت ذريعة المظاهرات السلمية.
هنا لا بد أن نستعيد شيئا من التاريخ، فقبل عشرين عاما مضت، تبنى «اليسار الليبرالي» (وهو يضم خليطا من اليساريين والإسلاميين المتحولين) في العالم العربي، خطاب «المجتمع المدني» بصورة دوغمائية، وبشروا بشعارات مطلقة، مثل الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وأضحوا بذلك طرفا جديدا في معادلة المعارضة والسلطة. هذا التيار تحول مع الوقت أسيرا لرؤية «مثالية» منفصلة عن الواقع، وحينما نقول «مثالية» نعني أنها لم تكن متصلة بالواقع المعيشي والسياسي لتلك البلدان التي طرحت فيها، بل تبدو أقرب إلى خطاب مستورد - ولا عيب في ذلك - منه إلى خطاب أصلي.
تأمل مثلا في شعارات شباب التحرير والمثقفين المشاركين في ثورتهم تجد أنها أقرب إلى هتافات تيار «occupy wall street» في نيويورك، أو احتجاجات حي المال في لندن، منها إلى أحياء العباسية، أو إمبابة، ولعل هذا ما يفسر كيف خسر شباب التحرير بشعاراتهم الغربية لعبة السياسة، وكيف كسبها آخرون مثل حزب النور السلفي؛ لأن الأخير أقرب إلى الواقع الاجتماعي والديني. ولهذا ليس بعيدا أن يتعرض هؤلاء للتهميش والإقصاء في المرحلة المقبلة، لأنهم يملكون وعيا، أو خبرة فيما يتعلق بإدارة الدولة واقتصادها. الذي يدعو للتظاهر كل يوم، حتى تحقق الثورة مطالبها، يعيشون في الوهم، وهم في نظر قطاع واسع من مواطنيهم أشخاص غير معنيين بالأوضاع الاقتصادية اليومية لملايين الناس.
أمام هذا المشهد يمكننا تسجيل ملاحظتين أساسيتين حول ظاهرة التراجع: الملاحظة الأولى: أن المثقفين والكتاب مروا بما يسميه بعض علماء الاجتماعي السياسي «revolutionary romanticism»، أي الرومانسية الثورية، وهي حالة من التمجيد العاطفي للتحول الراديكالي، ثم حين تظهر بوادر الفشل والتخبط يتحول هؤلاء إلى حالة الإنكار، واتهام النظام السابق (الفلول) بالسعي لإجهاض الثورة، ولكن حين تتمكن قوى ثورية أخرى من تحقيق مكاسب أو الاستئثار بالسلطة، يتحول هؤلاء إلى حالة التبرير والتبرؤ من فشل الثورة، تحت ذريعة أنه تم اختطافها من القوى والتيارات الراديكالية، سواء كانت يسارية أو إسلامية.
الملاحظة الثانية حول ظاهرة التراجع تتمثل في لجوء النخب السياسية والثقافية في بداية الثورة، إلى التقليل من قيمة الخسائر البشرية والمادية الناتجة عن فوضى التغيير، متذرعين بأن الثورات لا بد لها من تضحيات، وهي ناجحة في النهاية مهما استمرت فترة التغيير - أو الفوضى - ولكن تجد تلك النخب ذاتها بعد مرور وقت قصير، متذمرة ومتبرئة من تلك الخسائر، متى ما أحست أن النتائج ليست في صالحها، فعندئذ تبرر تراجعها عن دعم الثورة بحجة أن الثورة قد باتت تطال أناسا أبرياء، أو أنها تحولت نحو العنف والانتقام حتى من المشاركين فيها، ولعل هذا بارز في موقف الثوريين من قوانين الطوارئ، ومن استخدام القوة المفرطة تجاه المظاهرات والعصيان المدني من قبل تلك الشخصيات أو الأحزاب التي وصلت إلى سدة السلطة.
ليس الغرض هنا نقد الثورة أو تقريع الثوريين، بل هي دعوة إلى إعادة تصحيح المسار. لقد كان نظاما مبارك وبن علي فاسدين، ومليئين بشتى السلبيات، ولكن كانت هناك جوانب إيجابية، ومشاريع جيدة، بل ومؤسسات، حتى مع ضعفها، إلا أنها كانت تعمل. لأجل ذلك كان من الضروري بعد رحيل الرئيس، أن ينتقل البلد تدريجيا نحو التحول الديمقراطي من دون تعطيل عجلة الاقتصاد أو الإضرار بمؤسسات الدولة وهيبتها. محاولة القيام بتغيير راديكالي في مجتمعات غير مؤهلة تقود إلى نتائج كارثية. الحالة المصرية واضحة، فتعليق العمل بالدستور قاد القوى الثورية إلى الصراع على حساب الاستقرار الأمني والاقتصادي للمواطنين.
ماذا تصنع بدستور سويسري أو اسكندنافي في دولة متعثرة مثل الصومال أو أفغانستان؟ وما الذي يتغير لو فرضت النظام القضائي الأميركي في بلد فقير ومعدم مثل اليمن أو السودان؟
لا شيء، الإنسان هو من يعطي القوانين أو الأنظمة قيمتها وليس العكس. قد تتمكن من عزل الرئيس ورجاله وتسمي ذلك ثورة، وقد تتمكن من تغيير الدستور والأنظمة، ولكنك لن تنجح في تغيير حياة الناس إلى الأفضل، إذا كان ذلك على حساب أمنهم ومعاشهم.
لقد كتب مثل هذا الكلام في بداية الانتفاضات، ولكن القليل كان يقرأ.