Sunday, June 17, 2012

إخوان مصر.. يداك أوكتا وفوك نفخ

عريب الرنتاوي
لم نسمع أو نقرأ لقادة جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة أية مراجعة نقدية لتجربة الأشهر الستة عشرة من عمر الثورة المصرية...أقصى ما ذهب إليه القوم هو حديث بالعموم عن “أخطاء ربما تكون وقعت، فنحن بشر لا ملائكة”، ودائماً لتفادي الإحراج في الحوارات التلفزيونية...”النقد الذاتي” ليست تقليداً متوارثاً عند الجماعة، فهي على صواب حتى عندما تتخذ الموقف ونقيضه، أو تتنقل بخفة من حلف إلى حلف، ومن معسكر إلى معسكر.
في المقابل، نرى خطاب الإخوان مُحمّلاً بالاتهامات والشكاوى والتنديدات...تارة ضد “الثورة المضادة وحكم العسكر”، وأخرى ضد الحملة المنظمة التي استهدفتهم من قوى الثورة...دائماً هم في موقع الضحية والمُستهدف، حتى وهم يحللون ويحرمون، يخونون ويكفرون...دائما هم المستهدفون في الأرض، حتى وهم يشنون أبشع الحملات ضد خصومهم ومجادليهم، حتى وإن كان هؤلاء الخصوم من قياداتهم التاريخية التي غادرتهم للتو لخلاف سياسي، وحالة عبد المنعم أبو الفتوح تنهض كأوضح دليل على ما نقول.
تأخروا عن الثورة عند اندلاعها، وعندما تأكدوا من “نوعيتها” و”تاريخيتها” انخرطوا فيها بكثافة...حتى هنا لم يكن “الخطأ” أو “التخاذل” من النوع الذي لا يُحتمل....تخلوا عن الميادين بحثاً عن الصفقات مع “المجلس العسكري”، كما وقع في حكاية الاستفتاء على الدستور...هنا تحوّل الخطأ إلى خطيئة...قطعوا وعوداً ثم “لحسوها” كما في حكاية الترشح للرئاسة، مقامرين بوضع مصداقيتهم على المحك، ولتتعزز الشكوك ويرتفع منسوب المخاوف من نزوعهم الأناني ونزعتهم للسيطرة والاستئثار...لم يحتملوا مرشحاً منهم (أبو الفتوح) وهنا تكشّف ضيقهم بالآخر المنبثق من تحت جلدهم، فما بالك بالآخر في العقيدة والدين والسياسة والرؤية، هنا تكشّف ضيق الصدر والأفق....تكشّفوا عن نزعة استئثارية أنانية كما في حكاية “الهيئة التأسيسة لوضع الدستور الجديد”، وهنا بلغ السيل الزبى، ونال المصريون كافة، من غير الإخوان، ما حسبهم به وكفى.
أداؤهم التشريعي على قصر الفترة الزمنية تميّز بالدخول في معارك جانبية حول “الأسلمة” و”الشريعة”، فيما مصر غارقة في أزماتها المركبة والمتراكبة...صحيح أن بعض هذه المعارك افتعلها غيرهم من التيارات الدينية (السلفيين بخاصة) لكن أداء الإخوان لم يكن متميزاً، بل مال للتواطئ حيناً وللمزايدة على السلفيين حيناً آخر، فازداد قلق الناس من أجندات خبيئة، ستطل بوجهها ما أن تدين مختلف السلطات والمؤسسات للجماعة بالطاعة والولاء.
لقد تابعت كغيري كثيرين، مئات المقابلات والتحقيقات والتصريحات في الصحف والمواقع والتلفزة...كل من هم من خارج إطار الحزب والجماعة، تحدث بهذه اللغة...وبات لسان حال الشارع المصري يقول: “لا المرشد ولا الجنرال”...بل أن الحديث عن اختطاف الثورة من قوى خارجها أو معادية لها، شمل الإخوان في معظم الحالات، كما شمل المجلس العسكري دائماً...أما نخب مصر الفكرية والثقافية والسياسية والمصرية، فقد ازداد قلقها من أداء الإخوان وخوفها على المستقبل، وليس مستبعداً أن تذهب أصوات كثيرة لصالح أحمد شفيق، لا حباً به بل خوفاً من الإسلاميين.
كل هذا لم يدفع الإسلاميين لوقفة مراجعة مع النفس وتقييم الأداء وتقويم المسار...بدلاً عن ذلك قفز هؤلاء إلى الأمام، واخذوا يتحدثون عن “مؤامرة” تستهدفهم، تارة لإسلامهم وأخرى لـ”مقاومتهم” وثالثة ورابعة وخامسة، مع أن الجماعة والحق يقال، نجحت في وقت قياسي في إثارة قلقنا وقلق كثيرين، من ميلها لـ”الهدنة المفتوحة” و”التهدئة الشاملة” لسنوات وعقود قادمة، بعد أن تتالت كتب الضمانات والتطمينات، والتي كانت كافية في عددها ومضمونها لإقناع السيد جيفري فيلتمان، صقر الإدارة الأمريكية وآخر محافظيها الجدد، الذي تطوع بنقل مضامين كتب الإخوان إلى تل أبيب ومختلف عواصم الاعتدال العربي والغربي، مبشراً بعصر إخواني شديد الاعتدال والالتزام بالمعاهدات والمواثيق...وكل ذلك في سبيل الوصول إلى السلطة والاستئثار بها والهيمنة على مختلف مفاتيحها ومفاصلها.
كان بيد قيادة الإخوان المسلمين المصريين أن تقود مصر خلال العام الفائت إلى “برٍ آخر”، وأن توصل الأحداث إلى غير النتيجة التي آلت إليها...لكن سياسة الرقص على الحبال ما بين المجلس العسكري وميدان التحرير، والعطش للسلطة بأي ثمن..والرغبة في قضم كل الكعكة وعدم الاكتفاء بجزء منها، فضلاً عن غياب الرؤية المنفتحة على مختلف المكونات والتحديات التي تشكل المشهد المصري وتنتظره...كل ذلك أدى إلى تمكين “دهاقنة” المجلس العسكري و”عواجيزه” إلى تسديد ضربتهم المباشرة، والتي لا ندري حتى اللحظة ما إذا كانت ستنتهي إلى هزيمة الإخوان بالنقاط (هذا حصل على أية حال) أم بالضربة القاضية الفنية، من دون أن يجدوا تعاطفاً مع قطاعات واسعة من الشعب والثورة والميدان.
الإخوان قوة رئيسة في مصر، هذه حقيقة لا يماري فيها أحد، قبل الثورة وأثنائها وبعدها...وهم أكبر قوة منظمة في البلاد...لكن الانتخابات التشريعية ومن بعدها الجولة الأولى من “الرئاسية”، أظهرت أن حجمهم يتراوح ما بين ربع إلى ثلث الرأي العام المصري (لا أحد لديه نفوذ بهذا الحجم)، وليس من الصائب أبداً أن تسعى الجماعة وذراعها السياسي للاستئثار بكل كعكعة السلطة، كان يمكن أن تتواضع في طموحها وسقف مطالبها، كان يمكن أن تنفتح على مختلف الأطياف، كان يمكن أن تلتزم بعدم دخول سباق الرئاسة والاكتفاء بدعم أبو الفتوح، كان يمكن أن تفعل عشرات الأشياء التي تجعل حياة المجلس العسكري و”الفلول” وقوى الثورة المضادة، صعبة للغاية، بل ومستحيلة، لكنها أحجمت بأنانيتها وانغلاقها الإيديولوجي عن فعل ذلك، فدفعت هي أولا والثورة ثانياً ومصر من قبل ومن بعد، ثمن مسلسل الأخطاء والخطايا التي قارفتها، وفي غضون زمن قياسي.
لا يعني ذلك أن الآخرين لم تكن لهم أخطاؤهم وخطاياهم وأجنداتهم و”مؤامراتهم”...هذا كله موجود وهو جزء من خصائص المرحلة الانتقالية في مصر...لكن الإخوان لن يستطيعوا أن يلعبوا دور “الضحية”، أو أن يذكّروا بالسيناريو الجزائري، لسان حال إخوان مصر اليوم يجسده المثل العربي القديم: يداك أوكتا وفوك نفخ.

تداعيات السلوك الأمريكي في استهداف روسيا الفدرالية

المحامي محمد احمد الروسان
الفدرالية الروسية تتعامل بشكل حذر للغاية مع موضوع الملف النووي الإيراني، حيث تدرك موسكو بأنّ صعود قوّة ايران سوف يدعم جهود روسيا الفدرالية في ملفات منطقة آسيا الوسطى، منطقة القوقاز بشكل خاص، منطقة الخليج، ما يردع تمدد نطاق خطر التهديد الأمريكي ... بمقابل هذه الأدراكات مجتمعةً، تعتقد موسكوأنّ التمادي وبثبات الى آخر الطريق في دعم القدرات النووية الإيرانية قد يؤدي الى تحول الأوروبيين باتجاه المساندة القوية لواشنطن حيث يؤدي ذلك الى تحالف أمريكي - أوروبي ليس ضد ايران وحسب وانما ضد الفدرالية الروسية، وعليه قد تفقد موسكو فرصة بناء الروابط مع بلدان غرب أوروبا وهي الروابط التي يراهن عليها الروس باعتبارها أفضل الوسائل الناجحة لجهة ابعاد دول الاتحاد الأوروبي عن هيمنة الولايات المتحدة عليها.
المتابع لمسار موضوع الملف النووي الايراني حالياً يرى أنّ هناك تطورات دراماتيكية، خاصةَ بعد تصريحات الرئيس أوباما الأخيرة، والتي تزامنت مع تصريحات لوزيرة خارجيته هيلاري كلنتون، حيث أفادت من خلالها بما هو غير معلن، بأنّ واشنطن تدرك جيداً أنّ المفاوضات مع ايران سيكون مصيرها الفشل، وبأن أمريكا قد أعدّت العدّة لجهة المضي قدماً في مخطط عدم السماح لأيران بامتلاك القدرات النووية عبر وسائل سياسية – دبلوماسية براغماتية، تشي المعلومات الاستخبارية بأنّها ستكون بمضامين عسكرية تطبق في حالة الفشل في انهاء الطموحات النووية الايرانية العسكرية ... من الزاوية الأمريكية - الاسرائلية.
يعتقد الكثير من خبراء السياسة الدولية وخاصةً المختصين في حقيقة تطور مسار العلاقات الأمريكية – الروسية، أنّ موسكو تسعى لوضع خريطة طريق خاصة بها لمجمل تطورات الأوضاع الدولية المختلفة وفي ثنايا علاقات موسكو مع واشنطن من جهة الملف النووي الأيراني بما يضمن مصالح الروس اقليمياً ودولياً.
من جهة أخرى يعتقد فريق آخر من الخبراء والباحثين في مجمل العلاقات الروسية بما فيها الأمنية، أنّه من اهداف العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي إشعال الخلافات الروسية - الروسية، ثم نقل عدوى هذه الخلافات داخل الدوما الروسي \ البرلمان وفي مؤسسات الحزب الحاكم ولجانه وصولاً الى توتير الرأي العام الروسي بعبارة أخرى العمل على فوضى خلاّقة من نمط أمريكي آخر .... فمقابل طلب موسكو واصرارها في ابتعاد واشنطن عن دعم أوكرانيا ودعم جورجيا وبالتالي توقف أمريكا عن العمل على ضمهما الى الناتو، وعدم نشر الدرع الصاروخي الأمريكي في اطار المجال الحيوي الروسي – الأمن القومي.... هناك طلب أمريكي في ضرورة ابتعاد موسكو عن دعم إيران ودعم النسق السياسي السوري.
وهناك معلومات استخبارية تؤكد التالي:-
فمن زيادة الحشود العسكرية وعمليات التعبئة الحربية في منطقة القوقاز الشمالي المواجهة للحدود الجورجية – الروسية، اضافةً الى تعزيز قدرات القوات الروسية المتمركزة في اقليمي أوسيتا الجنوبية وأبخازيا .... الى تصعيد التحركات العسكرية في المناطق القريبة من أمريكا وحلفائها الغربيين الرئيسيين، منها تصعيد عمليات تحليق الطائرات الحربية الروسية في أجواء القطب الشمالي، وانزال بعض عناصر القوات الخاصة الروسية في مناطق القطب الشمالي، ثم ارسال الغواصات الاستراتيجية الروسية الى المناطق القريبة من سواحل أمريكا الغربية.
.... فالتحركات التي قام بها لاعب الشطرنج السياسي الروسي الحكيم بوتين، لم تؤد فقط الى اجهاض أحد أهم أهداف واشنطن في الداخل الروسي، لا بل أدّت وبكفاءة عالية الى رفع مخاوف واشنطن نحو احتمالات أن يؤدي التمادي الأمريكي بثبات في استهداف روسيا الى نجاح الأخيرة في تحقيق ابعاد ألمانيا عن واشنطن، ثم تعزيز الروابط الاقتصادية الروسية – الالمانية بما يفسح المجال لأبعاد ألمانيا عن بقية دول الاتحاد الأوروبي، وعليه فانّ بقية دول الاتحاد الأوروبي لن تستطيع فك الارتباط مع الاقتصاد الألماني النافذ في أوروبا، لذلك سيكون أمام هذه الدول الأوروبية السير باتجاه واحد وهو : السير بخطى ثابتة وراء قاطرة الدبلوماسية الألمانية الداعمة لدبلوماسية موسكو وهذا يعني طلاقا بين دبلوماسية الاتحاد الأوروبي ودبلوماسية واشنطن.
وتتخوف واشنطن ايضاً من سياسات تماديها في استهداف روسيا، أن يؤدي ذلك الى تكثيف الدعم الروسي للقدرات النووية الايرانية، وضم ايران وبشكل نهائي الى عضوية منظمة تعاون شنغهاي كمنظمة اقليمية مؤثرة في منطقة دول آسيا الوسطى، وهو الأمر الذي سيقضي على تفعيل أي عقوبات دولية ضد طهران، كذلك الى الإفشال النهائي لسيناريو الضربة العسكرية لإيران سواءً أكان أمريكياً أم اسرائيلياً كأسوأ الاحتمالات.
سياسة الفدرالية الروسية المتبعة حيال موضوع الملف النووي الايراني بشكل خاص تشي الى عمل متوازن، فهي من جهة تعتمد السلوك المعلن لجهة التعاون مع المجتمع الدولي من أجل عدم السماح لطهران بامتلاك القدرات العسكرية النووية .... وفي ذات الوقت والظروف تعتمد السلوك غير المعلن لجهة مساعدة استراتيجية كسب الوقت التي تطبقها طهران حالياً وبنجاح تام .... فموسكو تقوم بتوزيع أدوار قادتها الحكماء فهي لاعب دولي يفرض نفسه بقوّة، فمنهم من يتقن الصيد \ فهو صيّاد ماهر وآخر يقوم بدور لاعب الشطرنج الماهر والذي يجيد المناورة بين الاستراتيجي والتكتيكي عن طريق تحريك القطع هنا وهناك فيما وراء الخطوط المختلفة على مساحات شطرنج المسرح الدولي!.

هل ثمة حرب أهلية في سوريا

ياسر الزعاترة
كثر الحديث عن الحرب الأهلية في سوريا خلال الأسابيع الماضية، إلى درجة بات المصطلح هو الأكثر شيوعا على ألسنة الناطقين والمتحدثين باسم الدول والهيئات في طول العالم وعرضه في معرض وصف ما يجري في ذلك البلد المنكوب بقيادته أكثر من أي شيء آخر.
والحق أننا إزاء مصطلح ينطوي على قدر من التضليل لأنه يهرب من التوصيف الأكثر دقة للأحداث في سوريا، والتي يمكن تلخيصها بكل بساطة بأنها ثورة شعبية تطالب بالحرية والتعددية، ولا تستهدف طائفة بعينها.
لم يخرج السوريون على بشار الأسد لأنه علوي، بل خرجوا عليه لأنه دكتاتور، تماما كما خرج التوانسة على بن علي، وكما خرج المصريون على حسني مبارك واليمنيون على علي عبد الله صالح.
كما أن حكم الأسد لم يعد في سنواته الأخيرة يمثل طائفة، بقدر ما يمثل أسرة بعينها، ومعها عددا من المحاسيب الذين يدورون في فلكها، وكثير منهم من السنّة. صحيح أن المؤسسة الأمنية والعسكرية كانت ذات صبغة طائفية في الأعم الأغلب (قلة قليلة من السنة مثلا هم من كانوا يتجاوزن رتبة عميد في تلك المؤسسة كي تظل أكثر ولاءً للنظام)، لكن ذلك لم يكن هو سبب الثورة التي جاءت جزءً من الربيع العربي وليست ثورة طائفية.
من المؤكد أن البعد الطائفي كان حاضرا في وعي كثير من الناس، والثائرين منهم على وجه الخصوص، لكن ذلك لا يغير في طبيعة الثورة ولا أهدافها، ولا السياق السياسي العربي الذي جاءت على خلفيته.
الحرب الأهلية وفق ما هو معروف هي حرب بين طائفتين، أو عدد من الطوائف والأعراق بسبب نزاع حول السلطة والثروة، أي أنها تستبطن منذ الأساس هذا البعد، وبالتالي فهي تمارس في الغالب التطهير الطائفي والعرقي أثناء فعلها اليومي.
اليوم هل يمكن القول فعلا إن ما يجري هو حرب أهلية بين طائفة السنة التي تشكل أكثر من ثلاثة أرباع السكان، وبين الطائفة العلوية، أو بين الأولى وبين العلويين ومن يساندهم من الأقليات الأخرى؟!.
كلا بالتأكيد، فالثوار لم يخرجوا في سياق طائفي، وهم لا يمارسون التطهير الطائفي، وما وقع إلى الآن على هذا الصعيد لا يعدو أن يكون ردود فعل جانبية جراء استفزاز الطرف الآخر الذي وضع نفسه في مربع النظام ومارس أبناؤه القتل في صفوفه، أكانوا جزءً من الجيش والأجهزة الأمنية، أم عملوا ضمن جحافل الشبيحة الذين يعلم الجميع أن أكثرهم ينتمون إلى الطائفة العلوية.
بل إن النظام نفسه لا يفرق في التعاطي مع المعارضين على أساس طائفي، ولو عارضه علويون لما تردد في قمعهم، وفي تاريخه القريب والبعيد عدد من المعارضين العلويين والمسيحيين الذين جرى التنكيل بهم دون رحمة.
المشكلة أن الأقليات الأخرى من غير العلويين لم تساند الثورة بشكل واضح، بل مال أكثرها إلى النظام بدعوى الخوف من البديل، وهو ما أدى عمليا إلى أن يكون القتل مركزا في الجانب السني، الأمر الذي استفز المشاعر الطائفية، وبالتالي الخطاب الطائفي في الداخل السوري، وقبل ذلك وبعده في السياق العربي بعد انحياز المنظومة الإيرانية وحلفائها للنظام على أساس مذهبي واضح.
ما نريد التأكيد عليه هو أن ما يجري ليس حربا أهلية، بل ثورة شعبية يخوض فيها الناس معركة ضد نظام مجرم لم يتردد في قتل الناس وارتكاب المجازر بلا هوادة، ومن يقولون بنظرية الحرب الأهلية إنما يساوون بين الضحية والجلاد، وبين القاتل والمقتول، وهذا ظلم كبير في واقع الحال.
أيا يكن الأمر، فقد ثبت اليوم بما لا يدع مجالا للشك أن النظام ساقط لا محالة، وأن إرادة السوريين ليست في وارد التراجع أمام سطوة بطشه وجبروته، ولعل ذلك تحديدا هو ما دفع ويدفع كثيرين إلى الحديث عن السيناريو اليمني؛ ليس رغبة في إنقاذ السوريين من القتل، وإنما خوفا من انتصار مؤزر للثورة، لا يؤكد استمرار مسيرة الربيع العربي فقط، بل يشكل من جهة أخرى تهديدا للكيان الصهيوني، لاسيما إذا تحقق الانتصار من خلال فعل عسكري تقوده جبهات وكتائب لا سيطرة لأحد عليها. وما الحديث اليومي عن الأسلحة الكيماوية واحتمال سقوطها بيد الثوار سوى دليل على ذلك.
في المشهد السوري ثمة جلاد وضحية، وثمة ثوار ونظام مجرم، وليس ثمة حرب أهلية وفق التوصيف المتعارف عليه. لكن النتيجة واحدة وهي أن إرادة غالبية الشعب ستنتصر على الجلاد، وعلى من يصطفون إلى جانبه في آن.

اليمن الذي لا يكترث له أحد

سعود كابلي
أغلب تقارير المنظمات الدولية حول اليمن مؤخرا مزعجة للغاية وتضع إنسانيتنا على محك الاختبار. اليمن، جارنا الجنوبي، يعاني أزمة إنسانية حقيقية ويحتضر، أزمة إنسانية وصفتها المنظمات الدولية بأنها أسوأ من أزمة الصومال. الأرقام التي تتضمنها التقارير الدولية حول الأزمة الإنسانية في اليمن تتحدث عن نفسها. اليوم، ما يقارب من مليون طفل يمني معرضون للموت بسبب الجوع، وعدد الأطفال الذين يعانون سوء التغذية في اليمن أكبر بثلاث مرات من الأطفال الذين يعانون سوء التغذية في الصومال، ونسبة الوفيات بين الأطفال أقل من ٥ سنوات هي واحدة من أعلى المعدلات في العالم في حين يأتي اليمن الثاني عالميا كأعلى معدل لسوء التغذية بين الأطفال أقل من ٥ سنوات.
جيرت كابيليري ممثل اليونيسيف في اليمن قال: "بلا مبالغة، إذا لم تتم معالجة مشكلة سوء التغذية لدى الأطفال فإن مستقبل اليمن كله في خطر"، سوء التغذية للأطفال لا يعني الجوع فقط وإنما أيضا تفشي الأمراض كما حدث في انتشار الحصبة في مارس الماضي أو شلل الأطفال وكذلك عدد من الأمراض الأخرى، ويزيد الخطورة قلة الدواء والتطعيمات. سوء التغذية تتسبب على المدى البعيد في معوقات عقلية وجسدية لأطفال اليمن، وما يعنيه هذا اقتصاديا هو نشوء أجيال غير قادرة على العمل أو مؤهلة عقليا وجسديا لتنمية الدولة، طبقا للبنك الدولي فسوء التغذية يكلف اليمن ٢ـ٣٪ من ناتجها المحلي.
برنامج الغذاء العالمي في تقرير له أشار إلى أن أكثر من١٠ ملايين يمني يواجهون انعدام الأمن الغذائي، ما يقارب من ٤٤٪ من عدد سكان اليمن، نصف هؤلاء يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد (يقارب المجاعة) وبعض المحافظات كالبيضاء في اليمن وصل مستوى الجوع فيها إلى ٦٠٪ تقريبا من عدد سكانها. هذه أرقام تمت طبقا لإحصائيات في ديسمبر ٢٠١١ ومن المتوقع الآن أن تكون كل هذه الأرقام قد ارتفعت نتيجة استمرار كل مقومات الأزمة.
عدد الجياع في اليمن ارتفع الضعف في عام واحد من ٢.٥ مليون إلى ٥ ملايين شخص. اليوم ١ من كل ٣ يمنيين يقترض فقط ليطعم عائلته في حين تصل نسبة البطالة لحوالي ٣٥٪. نحن هنا نتحدث عن أشخاص لا يجدون قوت يومهم أو بالكاد يجدون وجبة واحدة، جزء من مفهوم الجوع هو أن تبيت وأنت لا تعلم إذا كنت ستجد ما تأكله في اليوم التالي أم لا. في اليمن بدأت تظهر صور الأطفال الذين اضمحلت أجسادهم وبرزت عظامهم من الجوع.
اليمن يعد أفقر البلاد العربية حاليا حيث أكثر من ٤٠٪ من سكانه تحت خط الفقر، وأزمته لا تتوقف عند حدود انعدام الغذاء، فاليمن رغم سمعته كبلد زراعي يعاني من مشكلة حقيقية في شح المياه، وهي مشكلة ناقشتها عدة تقارير دولية منذ سنوات، واضعة اليمن كمثال للدولة التي تعاني من تهديد حقيقي بسبب المياه، في الوقت الذي ارتفعت فيه مؤخرا أسعار السلع الغذائية في اليمن بين ٤٠ـ٦٠٪، وارتفعت مياه الشرب بنسبة ٢٠٠٪. هذا الارتفاع يعود في جزء رئيسي منه للوضع السياسي المعطل هناك، حيث تسبب الصراع الدائر في اليمن إلى نقص إمدادات الطاقة، فارتفعت كلفة النقل إلى حوالي ٦٠٪، و إذا أخذنا في الاعتبار أن ثلثي سكان اليمن تقريبا يعيشون في ١٣٥ ألف قرية كثير منها نائية وجبلية يتضح حجم الصورة وتأثير أي ارتفاع لقيمة النقل على حياة الناس هناك، وكذلك تتضح حقيقة المعاناة على صعيد إيصال الغذاء أو المساعدات.
الأزمة الإنسانية في اليمن معقدة وتزداد سوءا نتيجة تطور الوضع هناك. حالة العنف نتيجة الصراع مع القاعدة أو نتيجة الصراع بين القوى السياسية تسببت في تعطيل عودة ما يقارب من ٢٨٠ ألف طفل لمقاعد الدراسة بحسب "اليونيسيف"، فمدارس الأطفال إما محتلة من قبل الجنود أو من قبل النازحين من مناطق الصراع الأخرى. خلال الأربعة أشهر الماضية نزح ما يقارب من ١٠٠ ألف شخص من مناطق الصراع وخاصة في محافظتي أبين والحجة نتيجة الصراع مع القاعدة أو الحوثيين، ويبلغ مجموع النازحين داخل اليمن أكثر من ٤٥٠ ألف شخص. ومع ازدياد الحملات العسكرية في اليمن والصراع بين القوى السياسية تزداد وتيرة الأزمة الإنسانية هناك في ظل التركيز الدولي الرئيسي على القضية الأمنية وإهمال الجانب الإنساني نسبيا.
اليمن يضعنا على محك اختبار، ولا تزال هناك فرصة لإنقاذ ذلك البلد من الانزلاق لهوة أزمة إنسانية فادحة تعيد تكرار أزمة الصومال التي شهدنا فداحتها لعقدين من الزمان. وبعيدا عن واقع الأزمة الإنسانية فحتى على الصعيد السياسي الأمني البحت يمثل اليمن بالنسبة لنا عمقا استراتيجيا، وأي انزلاق له في أزمة إنسانية سينعكس علينا في المملكة بصورة رئيسية وسيمثل مصدر خطر وتهديد. فمن أي الطرق يتم النظر للحالة اليمنية الراهنة لا يمكن المجادلة بأنها لا تمثل الضرورة القصوى لنا والملف الرئيس الذي يحتاج لمعالجة فورية وبعزيمة أكبر بكثير من الجهود المقدمة اليوم.
مساعدة اليمن لا تحتاج لأموال وتبرعات فقط، تحتاج لتواجد المنظمات والعاملين على الأرض أيضا، وخاصة في ظل الوضع الأمني المتردي الذي يعطل عمل منظمات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية. اليمن بحاجة لأصوات أولئك الذين يدعون مع كل أزمة سياسية للتبرع بالأموال من أجل السلاح، عدا أنه بحاجة هذه المرة لدعوة التبرع بالمال لشراء الغذاء والدواء، وإذا كان بين شبابنا من يرغب في الجهاد ومن لم يتهيب الذهاب لأماكن خطرة كأفغانستان والعراق أو حتى سورية، فإن اليمن اليوم بحاجة للمجاهدين، ولكنه جهاد من نوع آخر، علاج طفل أو حفر بئر أو إيصال الغذاء والدواء لعائلة في قرية نائية تبيت ليلتها وهي لا تعلم إذا كانت ستجد كسرة خبز تأكلها في اليوم التالي أم لا.

هل أراد الإخوان عزل طنطاوي

عبدالله اسكندر
لن يحسم المصريون، عبر الاقتراع الرئاسي امس واليوم، طبيعة النظام السايسي المقبل في بلدهم. وعلى رغم ان المجلس العسكري الاعلى نجح في فرض خريطة الطريق التي وضعها منذ توليه شؤون البلاد في شباط (فراير)2011، وروزنامة الاستحقاقات، سواء استفتاء الاعلان الدستوري الاول والانتخابات الاشتراعية ومن ثم الرئاسية، فإن كل هذه الخطوات لم تؤد الى حال يقين في اي من القضايا التي تناولتها.
فالمجلس يدرس حالياً اصدار اعلان دستوري جديد، ما يعني ان الاستفتاء الدستوري جاء ناقصاً. كما يدرس تشكيل الهيئة التأسيسية لوضع دستور دائم بعدما كان البرلمان شكل مثل هذه الهيئة. حتى البرلمان نفسه الذي شغلت انتخاباته البلاد على مدى شهور جرى حله بحكم قضائي.
اي ان هناك اعادة نظر بكل ما جرى إقراره منذ تنحي الرئيس حسني مبارك، او ما تم التوافق عليه. لتجد البلاد نفسها اليوم في صيغة انتظار، يقول القريبون الى المجلس العسكري انه سيحسمها قبل اعلان اسم الفائز في انتخابات الرئاسة، اي قبل 21 الشهر الجاري.
قد تكون مسؤولية ما وصل اليه الوضع تقع على المجلس العسكري الذي كرر اكثر من مرة انه هو المؤتمن على المصلحة العليا وانه هو صاحب الحق في هذه الامانة من دون غيره، وأن اي ترتيبات دستورية لاحقة ينبغي ان تأخذ هذا الامر في الاعتبار. حتى ان بعض المعارضين للمجلس لم يترددوا، في معرض نقدهم له، في القول ان جنرلات الجيش يتصرفون وكأن الثورة لم تقع، خصوصاً لجهة الدستور وموقع القرار.
في المقابل، قد يكون المجلس العسكري تصرف على النحو المذكور تفادياً لسيطرة كاملة على البلاد من الاسلام السياسي، خصوصاً جماعة «الاخوان المسلمين» التي بدت المستفيدة الاساسية من تنحي مبارك والتغيير السياسي الذي اعقبه. وقدم «الاخوان» كل الذرائع الممكنة للاشتباه بهم بأن هذا هو هدفهم. فهم ترددوا في البدء بالالتحاق بحركة الاحتجاج قبل ان ينضموا اليها، بعد تنحي مبارك. ومن ثم نكثوا بكل وعودهم المتعلقة بالدور الذي يريدونه لأنفسهم في الخريطة السياسية الجديدة.
وإذا كان مثل هذا السلوك يحسب على التكتيك السياسي، فإنهم ارتكبوا الخطأ الكبير بإصدار قانون العزل السياسي، بعدما استشعروا ان قوتهم لا حدود لها من خلال سيطرتهم على البرلمان المحلول.
هدف «الإخوان» من هذا القانون منع رموز في النظام السابق، ربما اللواء عمر سليمان في مرحلة اولى ومن ثم الفريق احمد شفيق. لكن القانون الذي يمنع تولي مسؤوليات في الدولة لمن خدموا في مراكز رفيعة في عهد مبارك، يطاول ايضاً الحاكم في البلاد منذ تنحي الرئيس السابق، اي المجلس العسكري، خصوصاً رئيسه المشير حسين طنطاوي رئيس المجلس حالياً ووزير الدفاع والتصنيع الحربي في عهد مبارك.
وإن كان احد لم يلحظ علناً ان هذا القانون ينطبق على الطنطاوي ايضاً، فبالتأكيد ثمة في المجلس اعتبره من مقدمة للنيل من رئيسه، وتالياً من شرعيته ودوره. فكان الرد بإبقاء شفيق في المنافسة الرئاسية رفضاً لهذا القانون وبحل المجلس كرسالة الى «الإخوان» ان هناك حدوداً ينبغي ألا يتجاوزوها.
ويبدو ان بعض القياديين في «الاخوان» فهموا هذه الرسالة بدليل اعلانهم انهم يحترمون قرار القضاء، بشقيه: حل المجلس والإبقاء على شفيق. لكن هل هذا الفهم سيحكم سلوك «الاخوان» في المرحلة المقبلة؟ فيندرجون بالخريطة التي حددها المجلس وبأهدافها أم انهم سيعاودون محاولاتهم الانقضاض على السلطة على حساب المجلس؟ ويغامرون بمواجهة مباشرة هذه المرة مع المجلس الذي لا يزال السلطة الشرعية في البلاد على نحو يكررون فيه ما حصل لهم خلال حكم مبارك ويعودون الى اسم «التنظيم المحظور»؟

في جوانب العنف السوري

فايز سارة
يطرح كثير من السوريين على انفسهم أسئلة تتعلق بمقدار العنف المخيف الذي شهدته سورية في الستة عشر شهراً الماضية. بل إن كثيراً من العرب والأجانب الذين عرفوا سورية والسوريين، وقفوا مشدوهين أمام أحداث العنف المستمر والمتصاعد، وتعبيراته سواء تلك التي ظهرت على شاشات التلفزة، أو عبر الأرقام والإحصائيات، التي تلخص بعض ملامح العنف في توالي فصوله منذ آذار(مارس) 2011.
ورغم أن الاستغراب المحيط بموضوع العنف السوري وتعبيراته، أمر طبيعي لما عرف عن السوريين في ميلهم إلى المهادنة والتسويات في ما بينهم ومع الآخرين، فإن ذلك لا يمثل سوى القشرة، التي ولدت وعاشت خلفها جذور العنف، قبل أن تدفع ثمارها الفجة في مواجهة أولى تظاهرات السوريين في درعا، حيث سقط أول القتلى والجرحى ممن شاركوا في استنكار ورفض اعتقال أطفال درعا وتعذيبهم نتيجة قيام بعضهم بكتابة شعارات مناهضة للنظام ليس إلا.
لقد استجرت حادثة اعتقال أطفال درعا وتعذيبهم مسيرة العنف السورية الراهنة والطويلة، والتي تشير معطياتها وأرقامها إلى خلاصات تقارب الأساطير المعروفة، بل إن ثمة آراء تؤكد، انه وبعد نهاية الأزمة، ومع القدرة والاطلاع والكشف عما حدث وكيف، فإن ذلك سيبين أن حالات من عنف تتجاوز الأساطير، حدثت في أنحاء مختلفة من سورية، ولم تحدث كلها خلف الجدران وفي فضاءات سرية مغلقة، إنما بعضها تم ارتكابه علانية وبصورة وحشية وفي الخلاء وتحت ضوء الشمس وبدم بارد.
إن المحصلة الإجمالية للعنف الجسدي والمباشر الذي أصـــــــاب السورييــــــن، تشير إلى تجاوز عدد الذين قتلوا الخمسة عشر ألف شخص، وهناك أضعاف الرقم السابق من الذين جرحوا ومعظمهم أصيب بعاهات وإصابات دائمة، وأكثر منهم مرات الذين اختفوا دون أن تعرف عنهـــم أية معلــــومات على مدار اشهر طويلة، ولا يمثل هؤلاء البالغين عشرات آلاف السوريين سوى نسبة قليلة من سوريين جرى اعتقالهم، وهو إجراء يتضمن التعذيب على أنواعه وصولاً إلى الموت، وكلها حلقات من العنف الشديد في أول وأيسر مواصفاته، وهناك تقديرات، تشير إلى أن مئات آلاف السوريين، تعرضوا للاعتقال منذ بدء الأحداث، مما يؤشر إلى أن كثيراً من السوريين وأقاربهم الأقربين، تعرضوا للعنف مرة أو اكثر بفعل الأحداث الراهنة.
إن الــــهدف الرئيـــــس للعنف الراهن في سورية، هــــو إكراه الآخريــــن على أفعال محددة، تستجيب مصالح الأشخاص الذين يقومون بأعمال العنف وقياداتهم ومؤسساتهم، وفي حال العنف الحالي، فإن اغلب أعمال العنف هدفها منع عمليات الاحتجاج والقيام بالتظاهر المنــــاهض للسلطة، وإجبار الجمهور على إعلان التأييد والمساندة للسلطة الحالية. غير انه وفي حالات تزايدت وتصـــــاعدت، صـــــار العنف سياسة انتقامية وعقوبات يتـــــم اتخاذها ليس إزاء أفراد لا صلة لهم مباشرة بما يحــــدث فقط، وبعيداً عما يتم إعلانه من مواقف، بل إن العنف اكتسب طابع العقوبات الجماعية والانتقامية، كما يحدث في حصار المدن والقرى، والتي غالباً ما تترافق بأعمال تبدأ بقطع إمدادات المياه والكهرباء وشبكات الهاتف ومنع إدخال المواد التموينية وصولاً إلى إطلاق الأسلحة الرشاشة، وتصعيداً إلى القصف بالمدافع والصواريخ.
والعنف بطبيعته وممارساته، يستند إلى جذور معقدة، تمتد في التاريخ والحاضر، ولها أسباب سياسية واجتماعية وثقافية وغير ذلك، لكن الأهم في جذور العنف الحالي، هو استناده إلى الاستبداد وإلى عسكرة المجتمع، وتكريس انقسامات المجتمع بأبعادها المختلفة ولاسيما القومية والدينية والطائفية، بل إن احد اهم جذور العنف في سورية، يكمن في تغييب وتهميش السياسة، بما هي فن وعلم إدارة المجتمعات، والذي يفتح الباب أمام العنف ليكون بديلها الرئيس.
لقد رسم تطور الأوضاع السياسية في سورية منذ أواخــــــر الخمسينـــــــات، توجهاً للسير نحو حكم استبــــدادي فردي، ظهرت أول بواكيره في الانقلاب العسكري الذي قــــاده حسني الزعيم عام 1949 وكرره تابعـــــوه، وصولاً إلى عهد الوحدة، فمرحلة حكم حزب البعث التي مازالت متواصلة في تعميق تمركز السلطة بيد حزب، ثم بيد رئيس هو فوق الحــــزب. ولأن المؤسسة العسكرية هي القوة الأقوى والأفضل تنظيماً وموارداً، فقد تم الاعتماد عليها للإمساك بالدولة والمجتمع، وجرى تعميم عسكرة الحياة العامة بالاستفادة من ظروف الصراع مع العدو الإسرائيلي ومتطلباته، ومع تغذية الانقسامات داخل مكونات الجماعة الوطنية، وتهميش الظاهرة السياسية بما تعنيه من نخبة وتنظيم وفكر ورؤى، صار العنف هو الأداة الرئيسية بل الوحيدة للإمساك بالدولة والمجتمع وإدارتهما، بل هو وسيلة إخضاع الآخرين من أفراد إلى جماعات إلى المجتمع، وطوال الفترة الممتدة منذ بداية الستينات، صار بالإمكان ملاحظة، أن كل الاحتدامات والتناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل إن تحركات المثقفين واعتراضاتهم، لم يتم التعامل معها بطريقة غير العنف الذي يبدأ باللفظي، ثم ترتفع وتائره حد القتل المعلن.

مصر.. ثمن نصف الثورة

خالد الدخيل
على رغم أن ما حصل يوم الخميس الماضي في مصر كان مربكاً من الناحيتين الدستورية والسياسية، إلا أنه في الوقت نفسه كان تطوراً طبيعياً. هو طبيعي لأنه حصل في خضم حالة ثورية أفرزتها ثورة شعبية لم تكتمل. وهو طبيعي لأن القوى التي سيطرت على المشهد بعد سقوط رأس النظام مباشرة لا تنتمي إلى روح أو فكر الثورة، مثل الإخوان والوفد، أو أنها مناهضة لهدف الثورة النهائي، وهو الإجهاز على نظام الجمهورية الأولى الذي دشنته ثورة 23 يوليو، 1952. أهم هذه القوى المناهضة هو المجلس العسكري، وما صار يعرف حالياً بالدولة العميقة، بما في ذلك كوادر الحزب الوطني المنحل. لا بد من الإشارة هنا، وهي ذات صلة بالموضوع، بأنني أستخدم مصطلح «جمهورية» في الحالة المصرية، كما في كل الحالات العربية، بتحفظ. ولعلي أستعين هنا بما قاله الكاتب المصري، يوسف زيدان عندما استنكر بحدة واضحة متسائلاً: «ما هذا الخلط والتخليط؟... جمهورية! هل كان الحكم في مصر طيلة الستين سنة التي سبقت ثورة يناير جمهورياً؟ يا سلام! فما هو إذاً الحكم الاستبدادي، وما هي إذاً سيطرة العسكر على الحكم، وما هي إذاً دولة التواطؤ بين السلطات ورأس المال؟» (المصري اليوم 15ـ5ـ2012).
التواطؤ بين ارتباك المصطلح على أرض الواقع، وإكراهات الظروف السياسية المتقلبة من بين أهم العوامل التي أفرزت الحالة الثورية في مصر بالصيغة التي انتهت إليها يوم الخميس الماضي. في هذه الحالة الثورية تقاطعت شرعية الثورة مع شرعية القانون. القوى التي تمثل شرعية الثورة لا تملك القوة السياسية، أو التنظيم الفعال الذي يدافع عن موقفها ومصالحها. أما شرعية النظام والقانون فتستند إلى تاريخ طويل، ومؤسسة راسخة هي المؤسسة العسكرية. وقد جاء اضطراب الحالة الثورية، وانقسام قوى الثورة ومناصريها، ليزيد من مخاوف الناس، وهي المخاوف التي تستفيد منها القوى المناهضة للثورة. ومما زاد الأمر سوءاً في هذا الاتجاه أن الإخوان، وهم القوة الأكبر التي تحسب على الثورة، لا تمثل في الواقع روح الثورة وفكرها.
يشترك الإخوان مع الثـــوار في هدف تغيير النظام. وفـــي ما عـــدا ذلك يختلفـــون معهم في كل شيء تقريباً. الأمر الذي وضع الإخوان في موقف تتجاذبهم فيه مصالحـهـــم السياسية التي من ناحيــة تفرض عليهم التعامل مع الواقع السياسي كما هو، وأهم عنصر في هذا الواقع هو المجلس العسكري.
ومن ناحية ثانية، تفرض عليهم إدراك أن شرعية موقعهم في المشهد المستجد مستمد من الثورة، وليس من أي شــيء آخر. ويدرك المجلس العسكري، باعتباره القوة الأكبر في مواجهة الإخوان، دقة موقف هؤلاء، وهو موقف قديم مستجد، بحكم تجربة تمتد لأكثر من ستين سنة. الصراع الحقيقي الحالة الثورية الراهنة يدور في جلّه بين هذيـــن الطرفين، وكل منهما يدرك ذلك. وهو صراع يأخذ شكل اللعبة السياسية أحياناً، كما في التفاهمات التي حصلت بين الإخوان وبقية الأحزاب مع المجلس العسكري، في موضــوع الإعلان الدستوري، وتقديم الانتخابات الرئاسية على كتابة الدستور... الخ. وأحياناً أخرى، يأخذ شكل المواجهة. لكنه لم يكن أبداً صراعاً حاسماً من أجل كسب كل شيء أو خسارته. لا المجلس يريد ذلك، ولا الإخوان أيضاً، ولأسباب وأهداف مختلفة. مأزق الإخوان أنهم لم يتمكنوا من كسب ثقة قوى الثورة الليبرالية واليسارية وغيرها المتحالفة معها، وذلك بسبب ميولهم الاستحواذية. ولذا بقي التحالف الذي يستندون إليه ضعيفاً، ما أضعف موقفهم أمام خصمهم الرئيس، المجلس العسكري.
في هذا الإطار، وقبيل بدء جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية جاءت قرارات المحكمة الدستورية العليا لتقلب المشهد رأساً على عقب، وتعيده إلى المربع الأول الذي كان عليه بعيد سقوط الرئيس حسني مبارك. حيث قضت المحكمة بعدم دستورية قانون العزل الصادر عن مجلس الشعب، الذي يهيمن عليه الإخوان، وبالتالي بقاء المرشح أحمد شفيق في سباق جولة الإعادة. وهذا كان متوقعاً. الأكثر إثارة كان الحكم ببطلان عضوية ثلث أعضاء مجلس الشعب بناء على بطلان المادة الخامسة من القانون الانتخابي، ومن ثم حل مجلس الشعب بكليته على أساس من العوار القانوني في النصوص التي على أساسها تمت الانتخابات البرلمانية. وبناء على ذلك، نص حكم المحكمة بأن المجلس أصبح في حكم المنحل بقوة القانون، وبالتالي فليس هناك من حاجة الى سلطة تنفيذية تملك صلاحية حل المجلس. ومن الواضح أنه تتداخل في هذا الحكم المعطيات القانونية مع الاعتبارات السياسية. ليست هناك مؤامرة بالضرورة كما يقول البعض. أولاً لأن قضاة المحكمة لا يمثلون الثورة أصلاً، وإنما يمثلون إرثاً قانونياً سابقاً على الثورة، وهو الإرث المعمول به برضى الجميع، ما عدا شباب الثورة. ثانياً، إن حكم المحكمة نتيجة طبيعية لمسار سياسي شارك الإخوان في تشكيله. وإذا تساءل البعض، ومن حقهم أن يتساءلوا، عن الأساس الدستوري الذي استندت إليه المحكمة في قرارها عدم دستورية قانون العزل، فلهم أن يتساءلوا أيضاً عن سبب تبني الإخوان قانون انتخابات برلمانية يعاني من ثغرات قانونية فاضحة، رضي به الجميع، بمن فيهم المجلس العسكري.
المهم أن مصر بعد حكم المحكمة أصبحت من دون رئيس، ولا دستور، ولا برلمان. واستعاد المجلس العسكري سلطاته التشريعية، إلى جانب سلطاته التنفيذية. وهناك انتخابات رئاسية لا بد من أن تحسم هذا اليوم الأحد بين مرشح الإخوان، محمد مرسي، ومرشح المجلس العسكري عملياً، أحمد شفيق. فوز مرشح الإخوان سيضعه في مواجهة المجلس العسكري، ومن دون برلمان يسنده، كما كان يأمل قبل حكم المحكمة الدستورية. وبالتالي، فإن فوز مرسي لن يكون بالضرورة علامة نصر لقوى الثورة، إلا في حالة اختار الإخوان التحالف النهائي مع قوى الثورة بكل ما يتطلبه ذلك من تنازلات، والتخلي عن لعبة الوسط السياسية. أما إذا فاز أحمد شفيق فسيمثل هذا انتصاراً كبيراً لقوى النظام القديم، وإن كان من المبكر جداً القول إنه انتصار حاسم ونهائي.
في كل الأحوال يقدم حكم المحكمة الدستورية بحل البرلمان آخر الأدلة، وأوضحها على أن «ثورة» 25 يناير كانت ولا تزال نصف ثورة. وهي كذلك لعوامل ومعطيات كثيرة. فهي نصف ثورة لأنها قبلت بحكم المجلس العسكري، على رغم قناعة الجميع بأنه حكم لا يرتكز إلى مستند دستوري. وهي نصف ثورة لأنها قامت حتى الآن على قوى وأحزاب تقليدية، مثل الوفد والإخوان، وهي أحزاب لم تمثل طوال تاريخها حركة ثورية. وهي نصف ثورة لأنها لم تقطع نهائيا مع الموروث السياسي والفكري لثورة 23 يوليو، 1952. وقبل هذا وذاك، هي نصف ثورة لأنها لم تخلق قيادتها الثورية. على العكس بقيت رهينة للاختطاف من مختلف التيارات. الإنجاز الثوري الأهم والأخطر لثورة 25 يناير، وقبلها ثورة 17 ديسمبر في تونس، هو تدشين ما يمكن أن نسميه بـ «عصر الشعب»، أي العصر الذي يستعيد فيه الشعب دوره ومكانته كطرف أساسي في العملية السياسية بعد قرون من التهميش. وحتى هذا الإنجاز معرض للإجهاض بفعل التطورات الأخيرة، وما يمكن أن يترتب عليها، إذا لم يتم تحصينه، ببروز تنظيمات فاعلة تستطيع مواجهة حجم وثقل تنظيم المؤسسة العسكرية. وهو ما يتطلب تحويل مسار طاقة الجماهير من الشوارع، وميادين التظاهر إلى طاقات داخل أطر تنظيمية تلم شتاتها، وتفرز توجهاتها السياسية والأيديولوجية، وترسم مستقبلها وأهدافها بطريقة مختلفة عما تم حتى الآن.

محادثات موسكو النووية ومخاطر شروط نتنياهو

محمد السعيد ادريس
يبدو أن اجتماع موسكو المقبل بين إيران ومجموعة دول 5+1 المقرر انعقاده يومي 18 و19 يونيو/ حزيران الجاري، مهدد بالفشل قبل أن يبدأ على ضوء نوعين من التحديات: الأول يخص ما هو جديد من مطالب تقدمت بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية عقب اجتماع بغداد الذي عقد يوم 23 مايو/أيار الفائت، والذي لم يحقق نجاحاً له قيمة تذكر رغم كل ما عاد به الأمين العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية من تفاؤل عقب زيارته إلى طهران التي سبقت اجتماع بغداد بيوم واحد. والثاني يتعلق بالتصعيد “ال”إسرائيل”ي” المدعوم أمريكياً المتعجل الخيار العسكري بديلاً لخيار المفاوضات، على ضوء تباعد المواقف إلى درجة التناقض الكامل في ما يخص البرنامج النووي الإيراني.
بالنسبة إلى النوع الأول من التحديات يأتي اتهام الوكالة الدولية للطاقة الذرية إيران بالعثور في موقع فوردو النووي على آثار يورانيوم مخصب بنسبة 27%، إضافة إلى ما تضمنه تقرير الوكالة الأخير بوجود “أنشطة واسعة” على صلة بالمجال النووي في “مجمع بارشين” العسكري على رأس هذه التحديات التي ربما تحول دون تحقيق أي نجاح أو تقارب في الرؤية في اجتماع موسكو المقبل.
ففي حين أفاد علي أصغر سلطانية مندوب إيران لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن عثور الوكالة في موقع فوردو النووي على آثار يورانيوم مخصب بنسبة 27% أمر تقني لا أهمية له، كما اعتبر أن إثارة المسألة إعلامياً، تكشف أهدافاً سياسية ترمي إلى نسف تعاوننا البناء مع الوكالة التي أثبت تقريرها الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني، وتعاوننا الكامل مع الوكالة الذرية ونجاحنا في التحكم بالتقنيات النووية، خصوصاً في مجال التخصيب، عبر يوكيا أمانو المدير العام للوكالة عن شعوره بالقلق إزاء هذا الاكتشاف على ضوء تكتم إيران وامتناعها عن كشف نشاطاتها النووية، في حين نبه معهد العلوم والأمن الدولي الأمريكي الذي يراقب البرنامج النووي الإيراني، استناداً إلى بيانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى أن طهران “زادت بدرجة كبيرة قدرتها على إنتاج يورانيوم منخفض التخصيب، حيث وصل إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 5.3% إلى نحو 2.6 طن منذ العام ،2007 وهي كمية تكفي لإنتاج خمس قنابل نووية، حسب تقديرات المعهد، إذا تمت معالجة هذه الكمية بدرجة أعلى”.
أما بالنسبة إلى موقع بارشين العسكري وما أثير حوله، فقد كان أحد أسباب فشل اجتماع بغداد ومازال يهدد اجتماع موسكو، حيث تشتبه الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن إيران أجرت في هذا الموقع، شرق طهران، تجارب تفجير تقليدية يمكن تطبيقها في المجال النووي. وكان فريق مفتشين من الوكالة أكد أنه لم يسمح له بدخول هذه القاعدة العسكرية في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط الماضيين ما أدى إلى تجميد المحادثات. وأثناء منتدى أخير عقد في سان جال بسويسرا صرح المدير العام للوكالة يوكيا أمانو، أن الدخول سريعاً إلى هذه القاعدة “يشكل أولوية”، وكان أمانو قد لمح في مارس/آذار الماضي إلى أن “إيران قد تكون بصدد محو كل أثر نشاط نووي في بارشين، وهو تلميح وصفته إيران ب “الدعاية”، كما أن معهد العلوم والأمن الدولي الأمريكي نشر في 8 مايو/أيار الماضي على موقعه الإلكتروني صوراً التقطت بالقمر الصناعي يعود تاريخها إلى مطلع إبريل/نيسان الماضي وتظهر أنشطة حول حاوية ربما تكون قد أجريت فيها التجارب، ما يبعث على الاعتقاد بأن عملية تنظيف للموقع قد تكون جارية”.
إيران بدورها مازالت متشددة في موقفها الرافض السماح لمفتشي الوكالة بالدخول إلى هذا الموقع، حيث نقلت وكالة “فارس” للأنباء عن مسؤول البرنامج النووي الإيراني عباس دواني، أن الوكالة لم تقدم بعد الأسباب والوثائق التي تقنعنا بإعطاء إذن لهذه الزيارة، واتهم دواني دولاً لم يسمّها بممارسة ضغوط على الوكالة لتطلب زيارة بارشين.
هذان التحديان مازالا مطروحين على جدول أعمال اجتماع موسكو لكن التصعيد “الإسرائيلي” - الأمريكي باتجاه فرض الخيار العسكري وتجاوز خيار المفاوضات، أخذ منحى جديداً في الأسابيع الأخيرة في ظل تنسيق أمريكي - “إسرائيلي” غير مسبوق بشأن الملف النووي الإيراني للدرجة التي دفعت وفد المفاوضين الأمريكيين في اجتماع بغداد برئاسة وندي شيرمان نائبة وزيرة الخارجية الأمريكية إلى التوجه فوراً نحو الكيان الصهيوني عقب انتهاء ذلك الاجتماع والالتقاء وعلى مدى ثلاث ساعات وزير الدفاع “الإسرائيلي” إيهود باراك ومستشار الأمن القومي يعقوب عميدور، وعدد من أبرز الموظفين “الإسرائيليين” العاملين بالملف النووي الإيراني من أجل إطلاعهم حسب صحيفة “هآرتس” على تفاصيل المحادثات التي جرت في بغداد، بهدف طمأنة القيادة “الإسرائيلية” إزاء صلابة موقف الإدارة الأمريكية في مواجهة إيران، حتى قبل إطلاع الإدارة الأمريكية نفسها على تلك التفاصيل.
هذا الحرص الأمريكي هو الوجه الآخر للملاحقة التي تقوم بها “إسرائيل” للولايات المتحدة وباقي مجموع 5+1 لدرجة جعلت الكيان عضواً سابعاً خفياً في هذه المجموعة من الدول، وطرفاً محركاً وممسكاً بأهم أوراق تحريك ملفات التفاوض مع إيران، وعلى الأخص ما يتعلق بالشروط الواجب القبول بها من جانب إيران. ونتيجة لذلك بادر السفير الأمريكي في “إسرائيل” إلى التأكيد أن الخيار العسكري الأمريكي جاهز في حال فشل المساعي الدولية لوقف البرنامج النووي الإيراني، وإذا كان قد تدارك الأمر في حديثه أمام نقابة المحامين “الإسرائيليين”، وقال سيكون من الأفضل حل هذا الأمر بطريقة دبلوماسية من خلال الضغط على طهران بدلاً من استخدام القوة العسكرية، إلا أنه عاد ليؤكد أن هذا لا يعني أن الخيار العسكري ليس متوافراً.. إنه ليس متوافراً وحسب، بل إنه جاهز، وتم وضع التخطيط الضروري للتأكد من أنه جاهز”..
والبديل لهذا الخيار العسكري هو تلك الشروط التي أعلنتها مجموعة دول 5+1 في محادثاتها مع إيران في بغداد، فقد طالبت هذه الدول، حسب توضيحات إيرانية، بوقف طهران أنشطة تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، وإرسال ما تملكه إيران من يورانيوم مخصب بهذه النسبة إلى الخارج مقابل مجرد سعي الدول الغربية، وليس تعهدها، إلى تأمين وقود نووي لمفاعل طهران العلمي، مع شرط إضافي ثالث هو توقيع إيران على البروتوكول الإضافي الملحق بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية الذي يفرض على إيران قبول التفتيش المباغت لأي من منشآتها النووية في أي وقت، ومن دون أي طلب مسبق بذلك، مع تلميح بإمكانية مكافأة إيران مقابل هذا كله بتعهد الغرب بإعادة الملف النووي الإيراني من مجلس الأمن إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية مرة أخرى.
إيران رفضت هذا كله، وفشل اجتماع بغداد، لكن شروط بنيامين نتنياهو المسبقة لاجتماع موسكو المقبل تنذر بفشل كامل لهذا الاجتماع وتضع القضية أمام مخاطر مفترق الطرق بكل ما تعنيه من كوارث غير محدودة العواقب.
فقد أبدى نتنياهو اعتراضه على المطلب الذي ركزت عليه “مجموعة دول 5+1” في محادثات بغداد الخاص بوقف إيران تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% الذي اعتبره “مطلباً غير مناسب تماماً”  ووضع ثلاثة شروط يجب الالتزام بها لمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية هي: أولاً وقفٌ كاملٌ لتخصيب اليورانيوم بأي درجة، وثانياً، تخلي إيران عن كل رصيدها من اليورانيوم المخصب بأي نسبة، وثالثاً: ضرورة إغلاق الموقع النووي القابع تحت الأرض بالقرب من مدينة قم.
شروط نتنياهو تعني في مجملها التصفية الكاملة للبرنامج النووي الإيراني سلمياً، وإلا ستكون تصفيته عسكرياً هي المخرج الوحيد الذي تأمله ““إسرائيل”” في ظل قناعة أكدها رئيس المخابرات العسكرية “الإسرائيلية” الجنرال أفيف كوخافي، مفادها إن توجيه ضربة عسكرية إلى إيران أقل خطراً على الدولة العبرية من امتلاك إيران للقنبلة الذرية.

ثمة مخرج لمأزق الانقسام الفلسطيني

علي جرادات
الحالة الفلسطينية في غاية التعقيد بسبب انقسامات داخلية تتداخل مع ما تعيشه الحالة العربية من انكفاء على الذات فرضته تحولات عاصفة في أكثر من دولة عربية، وفي مصر وسوريا بخاصة، وقبل كل شيء بسبب استباحات الكيان الصهيوني وصلفه السياسي الآخذ بالتعمق بصورة غير مسبوقة. هذا فضلاً عن تداخل كل ما تقدم مع تدخلات دولية ترعى سياسة الاحتلال، وتقودها الولايات المتحدة كدولة عظمى باغية لم تكف يوماً عن عدائها للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية العادلة وحقوقه المشروعة المغتصبة.
تعقيدات لا يقوى على معالجتها سوى عقل وطني شمولي يستوعب عناصر اللوحة الفلسطينية المركبة وتداخلها، وتحفزه إرادة سياسية جادة تتسلح بطريقة تفكير مسؤولة في مأزق متعدد الأوجه تعيشه الحركة الوطنية الفلسطينية بانقساماتها التي لم ينفع لإنهائها، (ولن ينفع)، كل المحاولات القائمة على تجاهل أساسها السياسي، ف”اتفاق مكة” سكبت فيه جهود لا يستهان بها، وحوارات القاهرة واتفاقاتها وإعلاناتها المتكررة لم تنقطع، والوساطة المصرية لم تدخر جهداً عن اقتراح أفكار وممارسة ضغوط، ولجان المصالحة الوطنية الداخلية ما انفكت تحاول، ولكنها كلها لم تفضِ إلى إعادة بناء وحدة وطنية منشودة فرعها إعادة توحيد “سلطتي” الضفة وغزة المتنازعتين، فيما أصلها إعادة توحيد الشعب الفلسطيني بعمومه وقضيته الوطنية بمجملها، فنصف الشعب الفلسطيني في الوطن ونصفه الآخر في الشتات، وإعطاب ديناميكية محاولات تفكيكه إلى تجمعات بأجندات متباينة غير ممكن من دون إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كمؤسسة وطنية تمثيلية جامعة بقيادة موحدة وبرنامج سياسي موحد، كأهداف يُعَدّ التقدم بخطوات ملموسة على طريقها ضرباً من الوهم من دون اعتراف الجميع بما يكفي من حزم بأن الكيان الصهيوني ماضٍ في سياسات استباحة الشعب الفلسطيني، أرضاً وحقوقاً ووجوداً وتطلعاتٍ ورؤية، وبأن القضية الفلسطينية ليست على أبواب تسوية سياسية ولو متوازنة، فما بالك بعادلة، وأن الدولة الفلسطينية ولو على حدود الأراضي المحتلة العام 1967 ليست “على مرمى حجر”.
تلك هي حقائق الصراع على الأرض التي لا يستجيب لاستحقاقاتها وتحدياتها إصرار قيادتي منظمة التحرير و”حماس” على اختزال الوحدة الوطنية في محاولات يلفها الشك والتسويف والتأجيل لتوحيد “حكومتي” “السلطة الفلسطينية” في حكومة واحدة بجهازين أمنيين يترأسها الرئيس الفلسطيني على أساس برنامجه السياسي القائم على مواصلة “التهدئة” مع الاحتلال كسياسة ثابتة لا محيد عنها، وعلى استمرار محاولات تجديد التفاوض العبثي مع أكثر حكومات “إسرائيل” تطرفاً وعنجهية تحت مسمى “لقاءات الاستكشاف” تارة، و”الرسائل المتبادلة” تارة ثانية، و”الحوار من دون التفاوض” تارة ثالثة، وكل ذلك في إطار انتظار قيادة “المنظمة” لانقضاء الموسم الانتخابي الأمريكي، عدا انتظارها، وبالمثل قيادة “حماس”، لما ستؤول إليه الحالة المصرية عموماً، وما ستسفر عنه انتخاباتها الرئاسية خصوصاً.
هنا ثمة إغفال لحقيقة أن المخرج من الانقسام بات مرهوناً باستيعاب خصائصه وخصائص ما أنتجه من مأزق، وباستيعاب منهجية هذا المخرج وطابعه، بوصفه صناعة فلسطينية أولاً، وينبع من المركبات الفلسطينية ذاتها. فالاستنجاد بالعامل الخارجي أو الاستقواء به أو انتظار ما ستؤول إليه تحولاته، لم يفضِ، ولن يفضي، إلا إلى إدامة الانقسام وإطالة أمده، بما يؤكد حقيقة أنه كلما استنزف العامل الوطني الفلسطيني نفسه زادت التدخلات الخارجية في شؤونه، وأخطرها بالطبع تدخلات الكيان الصهيوني وراعيه الأمريكي، وبالتالي فإنه لم يعد ثمة مهرب من الاعتراف بالحقائق كما هي. فالانقسام عميق أولاً وسياسي بامتياز ثانياً، ولا يمكن إنهاؤه “بعناق”، وإنما بالبحث عن الخطوة السياسية الصحيحة الأولى في ميدان مزروع بالألغام والتناقضات، فعقلية أنا أريد وعلى غيري الانصياع فشلت إلى غير رجعة، ولم تجنِ سوى الانقسام، ولن يقود الإصرار عليها إلا إلى تعميقه، فالسياسة في التحليل الأخير “تنازعات وتسويات” وليست إقصاء وإملاء، وتحديد الهدف يبدأ بالبحث عن قواسم مشتركة لا تنسف خيارات القوى السياسية المختلفة، فلا يوجد قوة تختار الانتحار السياسي بالتخلي عن خيارها، فما بالك عندما يصبح خط سيرٍ ومصالح فئوية ومصدر تمويل في آن، فلا الذين وقَعّوا اتفاق أوسلو جاهزين لسحب توقيعهم، ولا الذين يناهضونه مستعدين للتوقيع عليه، فضلاً عن أن ثمة لكلا الخيارين قوى اجتماعية وتيارات شعبية تسندهما، عدا ما لكل منهما من دعم خارجي، وبالمحصلة فإن ميزان القوى الداخلي لا يتيح القول: “نحن الشرعية التاريخية” أو “نحن شرعية المقاومة”، ذلك أن للميزان كفتين متعادلتين تقريباً، ما يعني أن مدخل إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة إنما يتمثل في انتخاب مرجعية تشريعية شاملة للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، أي انتخاب مجلس وطني على قاعدة الحجم الانتخابي للتجمعات والتمثيل النسبي، بما يتجاوز وضعية: “سلطتين”، قيادتين، برنامجين، “داخل وخارج”، “غزة وضفة”، و....إلخ، من مظاهر التشظي، وبما ينهي تشرذم المرجعيات ويفضي إلى توحيد الإرادة، وهذا خيار ممكن رغم ما يعترض سبيله من عقبات، ذلك أن أية عقبات فلسطينية داخلية يمكن تذليلها بالتوافق، كما أن أية عقبات خارجية يمكن الاتفاق على حلها بالتعيين كما كان يحصل على امتداد مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية التي تصبح بذلك مرجعية شاملة تضم المركبات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية كافة.. بينما تكرس جهود “السلطة” في الضفة وغزة لإدارة مجالات التعليم والصحة والتنمية والقضاء.... فأربعة ملايين يعيشون في الضفة وغزة حيز مدني متشعب ومثقل باستباحات الاحتلال، وبهموم بطالة تناهز 35%، وفقر يناهز50% وتعليم يطغى عليه التلقين، وينتج بطالة سنوية تناهز 40 ألفاً من خريجي الجامعات وطلبة الثانوية، وقطاع صحي يلهث وراء الأمراض من دون قدرة على مواكبة التطور الطبي في البلدان المجاورة، ما يضطر الآلاف من الفلسطينيين إلى معالجة أنفسهم في مستشفيات غير فلسطينية، علماً أنه يمكن تأمين البنية التحتية والكادر المطلوبين لو توافر التخطيط السليم، فضلاً عن اجتثاث الفساد، وتقليص “الجيوش” البيروقراطية والأمنية التي لا يحتملها الاقتصاد الفلسطيني الذي يفترض أن يكون اقتصاد تقشف ومقاومة وصمود لا اقتصاد بذخ واستهلاك.

قراءات بأثر رجعي

خيري منصور
الأرجح أن عبارة “الأشياء تُقاس بنتائجها”، جاءت إلينا من سابقينا بسبب الشك في صحة المقدمات، فهي أشبه بفَض اشتباك بين المتشككين بصحة تلك المقدمات ومن يدافعون عنها. وثمة تجارب سياسية بالغة التعقيد تحتاج أحياناً إلى قراءة بأثر رجعي، أي بدءاً من الخاتمة خصوصاً عندما لا تكون هذه الخاتمة  سارة للبعض ممن خسروا الرهان.
مصر خلال عام ونصف العام، تصلح نموذجاً لمثل هذا النوع من القراءات، لأن ما انتهت إليه التجربة حتى الآن، وفي بعدها الديمقراطي، يطرح أسئلة لا حصر لها، وإن كانت قد أخذت شكل المساءلات في بعض المواقف.
وإذا اتفقنا على حد أدنى من التصور بأن الانتخابات المصرية كانت نزيهة باستثناءات تقليدية لا تفسدها، فإنه ليس من حق أي طرف أن يستبعد النتائج ليقول إنها إن لم تكن لمصلحته، فسوف يعود إلى المربع الأول، وبالتحديد إلى الميدان الذي تحول إلى رمز للحراك المضاد والثورة. والاستخفاف بنتائج أية انتخابات سواء كانت رئاسية أو برلمانية، يتخطى الشخص إلى ناخبيه، وتخوين هذا الفائز في حالة فوزه يتمدد ليشمل بضعة ملايين ممن انتخبوه من دون ضغط أو بنزاهة أقرها مراقبون دوليون وناشطون في المجتمع المدني وهيئاته المحلية.
وثمّة من يصورون المشهد الآن في مصر قدر تعلّقه بانتخابات الرئاسة وبعد قرار المحكمة الدستورية المتصل بالعزل السياسي، بحيث لم يخرج الفريق شفيق من اللعبة بأنه رَمْضاء ونار أو مطرقة وسندان، والمقصود بهذه الثنائيات هو النظام السابق والإخوان المسلمون، أي عَسْكرة الدولة أو تديينها، بحيث بدت الفرصة الذهبية الضائعة هي تلك التي تقع في منتصف المسافة بين هذين القطبين.
ومجرّد قبول الطرفين لانتخابات الإعادة التي ستكون نتائجها حاسمة ونهائية، فإن معنى ذلك أنه لا حق على الإطلاق لأي منهما أن يغير موقفه إذا لم تكن النتائج لمصلحته، لأنه عندئذٍ يذكرنا بالعبارة الشعبية الشهيرة وهي “مش لاعب”، التي يرددها الخاسر في الجولة عندما يبدأ بخلط أوراق اللعبة ومطالبة الطرف الغالب بالعودة إلى أول السطر.
إن ديمقراطية الشروط المسبقة هي وحدها التي تفرز نتائج قابلة للتشكيك والطعن، لكن، وفق أمزجة سياسية متوترة وليس وفقاً لقوانين أو مواد دستورية، وما يسمى الصمت الانتخابي الذي يسبق الاقتراع بيومين أو ثلاثة، هو مصطلح لا يخلو من طرافة، لأن هذا النمط من الصمت يعدّ صمتاً ثرثاراً تتأرجح فيه التوترات والتعليقات عندما تقترب الخيول من نهاية الشوط، وفي كل البلدان التي رضيت بالديمقراطية حلاً ومنهجاً تضع الحرب الانتخابية آخر أوزارها مع إعلان النتائج، لكن البلدان التي تمر بمرحلة تجريبية مشوبة بالكثير من العادات القديمة وإفرازات النظم الاحتكارية، قد يحدث العكس وتبدأ الحرب الفعلية بعد إعلان النتائج، لهذا نرى أن هناك تجارب لابد أن تُقْرأ من النهاية أو من حرف الياء باعتباره آخر الحروف وليس من الألف أو حتى الجيم. إن للديمقراطية تعريفاً واحداً لا يقبل التأويل أو التحوير تناغماً مع النوايا والرهانات، فهي إمّا أن تكون الحل كله، وإمّا أن تكون المشكلة كلها، وعلينا أن نختار.

إسرائيل وجبهة الإعلام

أمجد عرار
يعتقد البعض أن في “إسرائيل” صحافة حرّة، تماماً مثلما يعتقد أنها واحة ديمقراطية. ولا يعرف من يعتقد ذلك أن الاحتلال والديمقراطية لا يلتقيان، وأن “أمة” تستعبد أمة أخرى لا يمكن أن تكون هي نفسها حرّة. ولا مجال لاستعراض مظاهر التمييز العنصري داخل “إسرائيل” نفسها، فضلاً عن التمييز ضد العرب. أما مسألة الحريات فكذبة كبرى، ذلك أن وسائل الإعلام “الإسرائيلية” موجّهة ومؤدلجة، وأن ما يبدو ظاهرياً خلاف ذلك جزء من اللعبة، وضمن الإيقاع المراد.
الصحافية “الإسرائيلية” البارزة في القناة الثانية إيلانة ديان كشفت قبل أيام عن جرائم وانتهاكات اقترفتها قوات الاحتلال بحق الفلسطينيين، ولاسيما في سجون الاحتلال، وكذلك في لبنان، لكن تعترف بأن الرقابة العسكرية في “إسرائيل” منعتها من بثها، إما لذرائع “أمنية”، وإما لتجنب كشف أداء سيئ للجيش “الإسرائيلي”، وتضرب مثلاً ما حصل حين تورّط في الوحل اللبناني وما انكشف من مظاهر ارتباك وانحطاط معنويات.
ما كشفته الصحافية عن التنكيل بالأسرى لا يضيف جديداً إلى ما هو معروف من سياسات الاحتلال في سجونه، لكنها تلقي الضوء مجدداً على التعتيم الإعلامي المفروض، وتؤكد أنها انتظرت الرقابة العسكرية عاماً ونصف العام للحصول على إذن ببث برنامج عن اعتداء قوات الاحتلال على أسرى سجن النقب، وذلك بعد تنازل معدي البرنامج عن مقطع يتحدث فيه والد أسير استشهد في الاعتداء، بسبب اعتزازه بابنه.
ما كشفته الصحافية ديان عن مجزرة أسطول الحرية، مثلما يشي بالكثير عن عقلية الإجرام لدى “إسرائيل”، يدلل على مدى تحكّمها بوسائل الإعلام، لأن ما رصدته الصحافية من اعترافات للجنود المشاركين في المجزرة، منعت من نشره. ومن ذلك رفض الرقابة العسكرية “الإسرائيلية” السماح ببث اعترافات بعض الجنود عن تصويب الرصاص نحو رؤوس المتضامنين الأتراك بهدف القتل المؤكد، واعتراف أحد قادة الكوماندوز “الإسرائيلي” بأن الجنود أمطروا أحد المتضامنين الأتراك ب 370 رصاصة.
من حيث المبدأ، فإن أهم ما في رسالة الإعلام أن يُطْلع الشعب على الحقيقة بمرها وحلوها، لكن الصحافية لا تكتفي بكشف حقيقة التحكّم بمفاصل وتفاصيل العملية الإعلامية في “إسرائيل”، إنما تؤكد حقيقة أخرى تتعلّق ب “المجتمع الإسرائيلي” نفسه الذي ازداد تطرفاً وعدوانية تجاه الفلسطينيين والعرب، وتعترف بأن ما سمح ببثه في أوقات سابقة، من غير الممكن السماح به من جانب هذا المجتمع الذي يؤيّد سياسة التعتيم على ما تفعله قيادته عندما يتعلّق الأمر بالفلسطينيين والعرب.
تدرك “إسرائيل” جيداً أهمية الإعلام في خدمة مشروعها، لذلك ركّزت منذ إنشائها على هذه الجبهة، حيث أخضعت وسائل إعلامها، وإن بشكل غير مرئي، إلى مخابراتها، وأنشأت مكتباً إعلامياً حكومياً “بيت أغورون”، يخضع لإدارة جهاز المخابرات، ولا تصدر أية بطاقة لصحافي إلا بعد موافقته عليها. ولم تكتف “إسرائيل” بالإعلام الداخلي، بل أعملت أصابعها بالعديد من وسائل الإعلام العالمية، حتى إن اللوبي الصهيوني سيطر مالياً على بعضها وجيّره لخدمة سياساتها، ومن يراقب هذه الوسائل يجدها أشد دفاعاً عن “إسرائيل” وجرائمها من وسائل الإعلام “الإسرائيلية”. وهناك كثير من الوقائع والشواهد على فبركات قامت بها وسائل إعلام غربية موالية ل “إسرائيل” ضد النضال الفلسطيني الذي دأبت هذه الوسائل على وصفه ب “الإرهاب”.
صحيح أن جهات عديدة في هذا العالم باتت تعدّ الإعلام جبهتها الأولى لتحقيق سياساتها، لكن “إسرائيل” فعلت ذلك مبكراً.

حتى لا نخطط للماضي

عبداللطيف الزبيدي
حتى بُعيد الحرب العالمية الثانية، كانت بلدان عربية عدة أفضل حالاً من الصين بكثير. وسنة تسع وأربعين من القرن الماضي، أدرك الغرب أهمية توصية نابليون بونابرت بترك التنين نائماً، لأنه متى استيقظ تغيّرت الموازين في العالم. أمس (16 يونيو) أطلقت الصين مركبة “شنجو 4” وعلى متنها رائدان ورائدة.
يجب أن يكون لاسم المركبة وقع خاص في السمع العربي: شنجو، الذي يوحي بأنه: شنّ جوّاً، حرباِ علميّة تقانية، لمنافسة السابقين إلى الفضاء، الأمريكيين والسوفييت. وهذا يذكرنا بحادثة بعيدة النظر عميقة. فعندما سبق الاتحاد السوفييتي الولايات المتحدة إلى غزو الفضاء، وجه الأمريكان أصابع الاتهام إلى نظام التربية والتعليم. قالوا: لو كان تعليمنا متفوقاً ومتوافقاً مع حاجة البلاد إلى التقدم العلمي والتنمية في هذا المجال الحيوي، ما كان السوفييت السابقين.
التقدم العلمي في العالم العربي يحتاج إلى تغيير العقلية كلياً. فهو ليس بحثاً علمياً منغلقاً في مواقع أكاديمية. وإنما يتحقق عندما يصبح حركة واسعة النطاق على الصعيد الاجتماعي ففي الصين الآن أكثر من أربعة آلاف وخمسمئة مجلة علمية، تضاف إلى ثلاثة عشر ألف جمعية تعمل على نشر العلوم وتشجيع المواهب والبحث عن النابغين، والأرقام لها دلالاتها، فلو قسّمنا ملايين الصينيين على ملايين العرب، لكان من واجب الأمة أن تكون لها تسعمئة مجلة علمية.
لا أحد يقدر على نفي أن العلوم هي التي تغيّر اليوم وغداً مصائر البشر. ولم يعرف الإنسان في تاريخه نظيراً لما نشهده اليوم من وقوف العلوم والتقانة كأعظم ركيزة للصناعات العسكرية والحروب، فحتى الشبكة العنكبوتية التي يتسلى بها البعض في الدردشة، أصبحت في قلب الحرب الحديثة.
الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء وعلم الوراثة والمعلوماتية، غدت روافد غير محدودة للصناعات العسكرية، إضافة إلى كونها عماداً للنمو الاقتصادي في الصناعة والزراعة.
لزوم ما يلزم: عندما لا تخطط الأمة للمستقبل البعيد، يصبح تخطيطها للماضي البعيد، أي إلى ما توصل إليه الغير قبل عشرات السنين.

المبادرة والحلقة المفقودة في اليمن

هاشم عبدالعزيز
بعد مخاض استمر فترة غير قصيرة كانت حافلة بتسويق الإشاعات والاحتمالات والتوقعات الأغلب منها من حوافز الأماني لا الحقيقة ولم يكن هناك مجرد تفكير باللجوء إلى ولادة قيصرية، عقد مجلس الأمن الدولي الثلاثاء الماضي جلسته لمتابعة الوضع في اليمن من واقع تقرير المبعوث الأممي جمال بن عمر المكلف بمهمة تنفيذ المبادرة الخليجية وقرار مجلس الأمن في شأن ما يوصف من هذه الأطراف ب “الأزمة اليمنية”.
المجلس في اجتماعه أعلن أنه “يكرر تأكيده على ضرورة التنفيذ الكامل للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية في الوقت المطلوب وبموجب القرار رقم (2014) لعام 2012”، لكن جديده أنه أعاد تحديد المهام المفترض مواجهتها في المرحلة الثانية من العملية الانتقالية ودعمه لجهود الرئيس عبدربه منصور هادي ومطالبته بدعم حكومة الوفاق الوطني ونبذ العنف وإشاعة الأمن والتصدي للأعمال الإرهابية.
وكما ورد في قراره: “يشير - أي مجلس الأمن- إلى أن المرحلة الثانية للعملية الانتقالية تمشياً مع الآلية التنفيذية يجب أن تركز على:
- عقد مؤتمر حوار وطني شامل.
- إعادة هيكلة القوات المسلحة والأمن في إطار بنية مهنية وطنية موحدة وإنهاء كل الصراعات المسلحة.
- إجراء خطوات لتحقيق العدالة الانتقالية ودعم الوفاق الوطني.
- إجراء إصلاح دستوري وانتخابي وعقد انتخابات عامة في فبراير/شباط 2014”. وعبر المجلس بوضوح أنه “يدعم جهود الرئيس عبدربه منصور هادي وحكومة الوحدة الوطنية للدفع بالعملية السياسية إلى الأمام من خلال إصلاح القطاع الأمني وإجراء تغييرات في مناصب عليا لدى أجهزة الأمن والقوات المسلحة والبدء بالأعمال التحضيرية لعقد مؤتمر الحوار الوطني”.
في النظر إلى قرار مجلس الأمن كان اللافت سياسياً مسألتين، الأولى الصيغة الأقرب إلى المغايرة للخطاب الأمريكي المستهلك لتبرير العمليات ضد جماعات تنظيم القاعدة، إذ بحسب ما أورد المجلس “يعرب عن قلقه إزاء ارتفاع عدد الهجمات التي تنفذها أو يتبناها تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وعن إصراره معالجة هذه المخاطر وفقاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي بما في ذلك القانون النافذ لحقوق الإنسان واللاجئين والقضايا الإنسانية”، أما الثانية فتمثلت في إعلان المجلس عما يمكن وصفه بالرسالة التحذيرية للرئيس السابق وأبنائه وأقاربه ومن ما زالوا يحاولون اللعب على ضياع الوقت واستغلال الأوضاع لعرقلة الخطوات الانتقالية من جهة وإطلاق ما يحتمل وصفه بالتوجه المفتوح دولياً في اليمن من جهة ثانية بما يعني ذلك على اليمن حاضره ومستقبله.
وبحسب ما ورد في القرار فإنه “يطلب وقف كل الأعمال التي تهدف إلى إضعاف سلطة حكومة الوحدة الوطنية وتقويض التحول السياسي بما فيها الهجمات على البنى التحتية لمنشأت النفط والغاز والكهرباء والتدخل في القرارات المتعلقة بإعادة هيكلة القوات المسلحة والأمن وإعاقة تنفيذ القرار الصادر بتاريخ 6 إبريل/نيسان 2012 بشأن تعيينات عسكرية ومدنية ويعبر المجلس عن استعداده دراسة إجراءات أخرى بما في ذلك ما هو منصوص عليه في المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة إذا استمرت مثل تلك الأعمال”.
بالطبع لسنا بصدد لا قراءة ولا عرض قرار مجلس الأمن، فالمسألة اليمنية في سياق المبادرة الخليجية لا تعوزها البيانات ولا الاتفاقات والقرارات بل الأعمال وهذه هي القضية.
معلوم أن الذين وقّعوا على المبادرة الخليجية وقّعوا بعد ذلك على اتفاقات تنفيذية وتمثلت بالآلية التنفيذية ومدتها الزمنية. من الآلية هناك ما هو وطني ويتمثل بالانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومة وهناك المشاركة الإقليمية والدولية.
الإشكالية أن دول المبادرة ودول مجلس الأمن تعاملت مع هذا التوقيع كما لو أن اليمن خرج من أزمته، ولهذا اصطدمت الآلية الرئاسية بموروث الأزمة وهي بإرادة واعية تعاملت مع وضع متفجر وتمكنت بالمثابرة من إرساء الثقة بعملية الانتقال ولكنها لم تتمكن من إنجاز كامل ما كان عليها في المرحلة الأولى من العملية الانتقالية، أما بالنسبة للحكومة فهي حتى الآن مازالت اسمياً “وفاقية”، إذ لم يبادر أي من طرفي الأزمة اللذين صارا في عضوية هذه الحكومة إلى إطلاق وقفة نقدية تساعد على مغادرة رواسب المواجهة التي بدت لكل طرف، كما لو أنها مصيرية وهي كانت كذلك لأنها دارت بين مشروعين الأول مشروع ألا تكون لليمن دولة بل الفساد والفوضى وبين مشروع بناء الدولة المدنية.
أبجدية ما كان على دول المبادرة ودول مجلس الأمن أو لنقل مايطلق عليهم “أصدقاء اليمن” القيام بتشجيع ال “مختلفين” على ال “ائتلاف”، وبالنظر إلى أن أهمية هذه المسألة لا تتوقف على متطلبات إنجاز المبادرة فقط بل على استقرار اليمن، فقد كان لابد من ممارسة ضغوط وتسمية الأشياء بمسمياتها حين الوقوف على حقائق أسباب بقاء ال “شركاء” كل في طريق.
هنا قد يأتي من يقول إن هذه دعوة للتدخل في الشؤون الداخلية، والقول هكذا أمر مردود على صاحبه إذ إن الشأن اليمني في ما يعرف بالأزمة صار شأناً إقليمياً بل ودولياً يتعين تفادي مخاطره وتلافي تداعياته.
نعم هناك تحرك لدول إقليمية ودولية، لكن هذا ليس في سياق آلية العمل المفترضة في شأن تنفيذ بنود المبادرة الخليجية “الاجتهاد”، هكذا يمكن فهمه من قرار مجلس الأمن الذي التف على تزمين إنجاز المبادرة ب “تأكيده على ضرورة التنفيذ الكامل للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية في الوقت المطلوب”، إذ إن السؤال هنا ليس متى يبدأ الوقت لأن الوقت يبدأ كل حين، بل متى يا ترى سيكتمل هذا الوقت المطلوب؟

مجموعة 5+1 وإيران ومخاطر حافة الهاوية النووية

علي فايز
كان للمفاوضات النووية بين إيران والغرب نصيب من التوقعات التي توقع الكآبة في النفس، ولكن حتى في ضوء هذا المعيار الغريب، ما زالت الجهود الدبلوماسية المتأرجحة مستمرة، فبعد الآمال العريضة التي صاحبت مفاوضات إسطنبول، لم يتمكن المفاوضون من الوصول إلى أي شيء على الأرض في العاصمة العراقية، بغداد، بعد بضعة أسابيع. ولم يكن هذا بعيدا عن التوقعات، نظرا لرفع سقف الآمال والتوقعات غير المتطابقة والقناعات - التي كان معظمها مؤلما - من كلا الجانبين بأن لكل منهما اليد العليا. ولكن لو انهارت تلك المحادثات الآن، فمن الصعوبة بمكان أن نعرف ما سيحدث بعد ذلك. ويبدو أن واشنطن وبروكسل تعولان على الآثار التي ستحدثها العقوبات وعلى إجبار إيران على تقديم تنازلات، في حين تعول طهران على إعادة انتخاب الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الذي يبدي مرونة أكبر، وعلى الدول الأوروبية التي تعاني من الناحية الاقتصادية التي ستعزف عن فرض مزيد من العقوبات خشية أن ترتد عليها في نهاية المطاف.
وفي الحقيقة، من المستبعد حدوث أي من هذين الأمرين، وبدلا من ذلك، وفي ضوء تلاشي احتمال التوصل إلى اتفاق، فإن الضغط الإسرائيلي قد يتزايد للجوء إلى الخيار العسكري. وبدلا من الاتجاه لمزيد من سياسية حافة الهاوية، يتعين على مجموعة «الخمسة زائد واحد» (الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا) الاتفاق على مفاوضات مكثفة ومستمرة، والتركيز على التفاصيل التقنية بهدف التوصل إلى اتفاق محدود بشأن قيام إيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المائة.
وفي الحقيقة، كان التفاؤل الذي قوبلت به محادثات إسطنبول تفاؤلا وهميا، حيث تم قياس النجاح مقارنة بنقطة البداية التي كانت سلبية بشكل ملحوظ؛ غياب المحادثات خلال الخمسة عشر شهرا السابقة ومجموعة من الخطوات التصعيدية من قبل كل الأطراف في تلك الأثناء. وكانت المفاوضات نفسها خالية من أي جدال عنيف، ولكنها كانت إلى حد كبير خالية أيضا من المضمون. وكان كل المفاوضين يتصرفون على أفضل وجه، لأنهم جميعا، من الناحية التكتيكية، كان لديهم هدف مشترك، وهو كسب الوقت وتجنب الدخول في أزمة يمكن أن تؤدي إلى قيام إسرائيل بشن هجوم عسكري على إيران، وهو ما يهدد بمزيد من عدم الاستقرار في المنطقة، ويرفع من أسعار النفط، وبالتالي يعمق من الأزمة الاقتصادية في أوروبا ويهدد بإعادة انتخاب أوباما لولاية ثانية.
وتكمن المشكلة في أن الغرب وإيران قد فسرا تلك الأجواء الإيجابية بشكل مختلف، حيث كان مسؤولون من أوروبا والولايات المتحدة مقتنعين بأن موافقة طهران على الجلوس إلى طاولة المفاوضات والتخلي عن موقفها العدائي الذي كانت تتحلى به في الماضي تنبع أساسا من حقيقتين؛ هما الآثار المدمرة للعقوبات التي فرضت بالفعل على الاقتصاد الإيراني، والتأثير الأكثر تدميرا لتلك العقوبات التي ستدخل حيز التنفيذ في القريب العاجل من ناحية، والتهديدات الإسرائيلية بشن هجمات عسكرية على طهران من ناحية أخرى. وعلاوة على ذلك، شعرت الجمهورية الإسلامية بأنها قد أصبحت في مقعد القيادة، بعد أن عززت من موقفها على مدى العام السابق من خلال زيادة مخزونها من اليورانيوم منخفض التخصيب، وتخصيب اليورانيوم بمستويات أعلى واستكمال عملها في منشآتها النووية تحت الأرض في موقع فوردو.
وكان هناك تأثير آخر متناقض لجهود الجانبين الحثيثة التي تهدف إلى زيادة نفوذهما، حيث أقامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ائتلافا لافتا للنظر - وكان لا يمكن تصوره حتى وقت ليس ببعيد - من الدول المستعدة لمعاقبة إيران من خلال ضرب إيران في أكثر القطاعات التي تؤثر عليها وهو قطاع النفط. وواجهت الموافقة على تخفيف العقوبات صعوبة كبيرة بسبب بذل مجهودات كبيرة واستثمار رأس المال السياسي لفرض هذه العقوبات ومعرفة أن أول مؤشر على التراجع قد يؤدي إلى انهيار نظام العقوبات بشكل شامل.
وعلى نفس المنوال، دفعت إيران ثمنا باهظا بسبب قرارها بتخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المائة، والمضي قدما في منشآتها النووية في موقع فوردو، الذي أصبح هدفا لعقوبات اقتصادية لم يسبق لها مثيل وأدى إلى فقدان كميات هائلة من المال. وكان يتعين أن يكون أي تراجع عن هذه الأمور مصحوبا بتنازلات غربية جسيمة خشية أن يبدو المشروع برمته على أنه ما يشتبه فيه الكثيرون، أي مجرد حماقة سياسية واقتصادية. وكانت النتيجة النهائية المثيرة للسخرية هي أنه بعد أن تم تراكم الأصول الثمينة التي عززت أيديهم في المفاوضات، فإن كلا الطرفين لا يرغب الآن في استخدام النفوذ الذي ضحيا كثيرا من أجل الحصول عليه.
ويتوقع كثيرون أن تتوقف العملية الدبلوماسية الحالية قريبا، ثم يتم استئنافها في المستقبل، ولكن يمكن أن يكون الوقت قصيرا. وفي حالة انهيار المفاوضات، تشير الأحداث السابقة إلى أنه من المحتمل أن يكون هناك خطوات تصعيدية متبادلة وأن تستمر الفجوة بين الطرفين لفترة أطول مما كان متوقعا. وفي غضون ذلك، سوف تنظر إسرائيل - جنبا إلى جنب مع الساسة من ذوي النفوذ في الولايات المتحدة - إلى العد التنازلي واستمرار إيران في تعزيز مخزونها من اليورانيوم المخصب.
وفي الحقيقة تعد استعارة التوقيت أو الساعة استعارة زائفة - إيران على بعد سنوات من امتلاك قنبلة نووية، والولايات المتحدة وإسرائيل سيكون لديهما الكثير من الوسائل، وستقوم منشأة فوردو على الرغم من ذلك، بوقف برنامجها النووي إذا رغبوا في ذلك - وواحدة من الصور السياسية الأكثر تدميرا في التاريخ الحديث. ويدرك كبار المسؤولين الإسرائيليين ذلك، وإذا ما اقتنعوا بأن إيران تسعى لكسب الوقت وأن الدول الغربية لا تملك القوة للقيام بأي شيء حيال ذلك، فقد تتحرك أو تقنع واشنطن بالتحرك. ويمكن القول بأن الفترة من الآن وحتى انتخابات الرئاسة الأميركية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) هي الأخطر على الإطلاق.
كل هذا يدعم التغيير في التفكير. ويجب أن يستغل الاجتماع المقرر عقده في موسكو يوم 18 يونيو (حزيران) كفرصة للقيام بذلك على وجه التحديد. وبدلا من اجتماعات دورية رفيعة المستوى تستمر لمدة يوم أو يومين ومحفوفة بالمخاطر، يجب أن تتفق إيران ومجموعة «الخمسة زائد واحد» على محادثات متصلة على مستوى أدنى لعدة أشهر.
فضلا عن ذلك، فإن كلا الجانبين بحاجة إلى التخلي عن بعض من مطالبه: لن يكون هناك تخفيف ملحوظ للعقوبات المفروضة في تلك المرحلة، وليس من المرجح بالمثل أن تغلق إيران منشأة «فوردو» - وهي المنشأة الوحيدة التي لديها القدرة على مقاومة أي ضربة إسرائيلية. لكن يجب أن تكون إيران مستعدة لأن تطرح على الطاولة مواضيع من شأنها أن تخاطب مخاوف الانتشار النووي السريع من جانب مجموعة «الخمسة زائد واحد» بشكل جاد وواقعي: وقف التخصيب عند نسبة 20 في المائة؛ وتحويل مخزونها الكامل من سادس فلوريد اليورانيوم الذي تبلغ نسبته 20 في المائة إلى ثاني أكسيد اليورانيوم لاستخدامه في تصنيع وقود نووي؛ ووقف إنشاء أجهزة طرد مركزي جديدة في فوردو، مع الاتفاق على استخدام المنشأة في أغراض البحث والتطوير فقط وقبول المزيد من المراقبة التدخلية.
ويجب أن تكون مجموعة «الخمسة زائد واحد» مستعدة لطرح مواضيع على الطاولة تخاطب المخاوف الإيرانية بشكل جوهري: قبول مبدأ أن إيران يمكنها تخصيب تربتها، إلى أن تستوضح طهران الأمور مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لوضع قيود على درجة النقاء وعدد المنشآت؛ الاستثمار في مفاعل أبحاث جديد وتقنيات متطورة مرتبطة بالطاقات المتجددة في إيران؛ ومد نوع من إجراءات تخفيف العقوبات، بما فيها إجراء أو أكثر من الإجراءات التالية: التحرر من العقوبات الإضافية، وتأجيل تفعيل الحظر المفروض من قبل الاتحاد الأوروبي على النفط (أو تعليقه، إن كان معمولا به)، و/ أو الحظر المفروض على تأمين أصحاب السفن التي تنقل النفط الإيراني لفترة محددة؛ وتخفيف الضغط على العملاء النفطيين المتبقين لإيران.
ربما تفشل المحادثات، وحينها، سيتمثل الهدف في تجنب جميع أنواع الخطوات الهدامة، بما فيها المواجهة العسكرية، أكثر الخطوات إضرارا. لكن، قبل الوصول إلى تلك الخطوة، ثمة قدر كبير من العمل يجب القيام به من أجل الوقوف على ما إذا كان يمكن التوصل إلى اتفاق وما إذا كان من الممكن الحفاظ على القدر الضئيل من التفاؤل المتبقي من إسطنبول.

النظام الإيراني.. عندما ينقلب السحر على الساحر

شمسان بن قطان المناعي
أوصل قادة إيران بلادهم وشعبهم إلى طريق مسدود لا يمكّنهم من الرجوع إلى الوراء لاستعادة الأنفاس بسبب سياستهم الخارجية المتهورة التي تنطلق من مبدأ لا يجاري التطورات السياسية في العالم المعاصر في العلاقات بين الدول، وهو مبدأ تصدير الثورة، وصية نائب إمامهم المنتظر، وبدل أن يعتبروا بالذي حدث لهم في حربهم مع العراق التي استمرت عشر سنوات وما جرى عليهم من ويلات ومشكلات سياسية واقتصادية جلبوها لشعبهم الذي يزداد فقرا على فقر نتيجة لتمسكهم بهذا المبدأ، وبدل أن يصدروا الثورة كما يدعون، قاموا بتصدير مشكلاتهم السياسية والاقتصادية إلى جيرانهم ودول محيطهم الشرق أوسطي عملا بمبدأ «عليّ وعلى أعدائي»، واستمروا في طغيانهم وجبروتهم الهش، وبعد الغزو الأميركي للعراق الذي جلب الطائفية البغيضة للعراق وجعله فريسة سهلة وفتت العراق الموحد، وجد قادة إيران الفرصة سانحة لهم لتحقيق أحلامهم ومشروعهم «الطموح» الذي عجزوا عن تحقيقه بالحرب، وبعد أن توطدت أقدامهم في سوريا ولبنان قاموا بمد نفوذهم إلى العراق، ولم يتوقفوا عند ذلك وإنما أخذتهم العزة بالإثم وانفتحت شهيتهم أكثر في فترة «الربيع العربي» فقاموا بالتدخل في شؤون البحرين الداخلية عبر عملائهم من أتباع ولاية الفقيه، معتقدين أن الفرصة أصبحت سانحة لهم للالتفاف على دول الخليج العربي عبر بوابة البحرين، وحدث ما حدث في البحرين في 14-2-2011، وشرق المملكة العربية السعودية، وما فطنوا أن السحر لا بد له يوما أن ينقلب على الساحر، فإذا بالثورة العربية الكبرى تتفجر في سوريا والتي هي أم ثورات «الربيع العربي» وما تيقنوا أن يحدث ما حدث، فإذا بأحلامهم تنقلب عليهم إلى كوابيس وتدور الدائرة عليهم ويصبحون في حيرة من أمرهم، وخاصة أنهم غير مستعدين لمثل هذا التغيير الدراماتيكي.
بذلك أوقعت إيران نفسها داخل ثلاث دوائر إن تمكنت من إخراج نفسها من دائرة منها فلن تخرج من الدائرتين الأخريين، أما الدائرة الأولى فها هو اقتصادهم يختنق بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليهم دول حلف الناتو وأميركا نتيجة لبرنامجهم النووي، والتي يبدو أن نهايتها غير غريبة، حيث تسببت في أن يصبح برميل النفط الإيراني يباع لروسيا بأبخس الأسعار، فقد «اتلم المنحوس على خايب الرجا». وفي آخر التطورات في هذه القضية قالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إنه لم يحدث أي تقدم في المحادثات مع إيران بشأن إجراء تحقيق في أنشطة طهران النووية، ووصفت نتائجها بأنها مخيبة للآمال، وهو ما أكده نائب مدير عام الوكالة الدولية هرمان ناكيرتس الذي قال: «حضر فريق الوكالة الاجتماع بروح بناءة وبرغبة ونية تهدف إلى إنهاء المسألة. قدمنا مسودة عكسية تناولت مخاوف إيران السابق إعلانها. لكن لم يحدث أي تقدم، وبالطبع أثيرت القضايا التي ناقشناها بالفعل، وأضيفت قضايا جديدة. إنها مخيبة للآمال. لم يتحدد موعد اجتماع للمتابعة. شكرا». وهذا يعني استمرارا للعقوبات وانحدار اقتصادهم يوما بعد يوم إلى حافة الهاوية.
أما الدائرة الثانية فهي إسرائيل، حيث إن الضربة الإسرائيلية لمفاعلهم النووي قادمة لا محالة وإن طالت، لأن إسرائيل تريد أن تغتنم هذه الفرصة لترد الصاع صاعين، وذلك بسبب أولا أن إسرائيل تنظر إلى أن امتلاك إيران للسلاح النووي تهديد لأمنها، وثانيا الدعم الإيراني لحزب الله اللبناني في الجنوب وما تعرضت له مستوطناتها في حرب أغسطس (آب) 2006 من هجمات صاروخية من حزب الله، ومن ذلك الوقت فإن إسرائيل تعد العدة ليس لحزب الله، وإنما لإيران وبذلك فإن إسرائيل كما قال نتنياهو لن تنتظر الولايات المتحدة في اتخاذ موقف نحو إيران، وقبلها دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي الدول الكبرى إلى التشدد حيال إيران بشأن برنامجها النووي. ومن هنا نقول إن كل المؤشرات تؤكد أن إسرائيل عازمة على اتخاذ إجراء عسكري تجاه إيران والأرجح أن يكون على هيئة ضربة عسكرية خاطفة للمنشآت النووية الإيرانية، وأن المسألة هي مسألة وقت فقط، وخاصة أن إسرائيل أكثر تفوقا في سلاح الطيران من إيران التي تتمركز نقطة الضعف فيها في سلاحها الجوي، وهذا ما سوف تثبته الفترة القادمة.
أما الدائرة الثالثة التي وجدت إيران متورطة فيها وهي الأخطر والتي إذا ما تحققت فسوف تقصم ظهر إيران، فهي الثورة السورية، فإذا ما انتصرت الثورة السورية حيث إن النظام السوري في أيامه الأخيرة، فإن إيران رمت بكل ثقلها وأوراقها مع النظام السوري منذ بدء الثورة ابتداء بالأسلحة وحرس الثورة الذي يصل إلى سوريا عبر العراق، وما المذابح البشعة التي تعرض لها الشعب السوري مؤخرا إلا بسبب هذا الدعم ودخول حزب الله اللبناني لإبادة الطائفة السنية في سوريا.
وفي أحد تصريحات هيلاري كلينتون الذي جاء متأخرا في مؤتمر إسطنبول الأخير، قالت إنه «من الصعب جدا أن نتصور أن بلدا كإيران يلعب دورا متطرفا في دعم وارتكاب العنف يمكن أن يكون بناء في وقف العنف»، هذا التصريح يعني خوف الإدارة الأميركية من النتائج التي قد تترتب على نجاح الثورة السورية والتي قد تقلب موازين القوى في المنطقة، وبالتالي لا بد من الإسراع في احتضان الثورة، وذلك لن يحدث إلا بتهميش الدور الإيراني تجاه الثورة السورية، وأن تسرع أميركا في عملية إجراء تغيير «ديمقراطي» في سوريا كما حدث في بقية ثورات «الربيع العربي». في جميع الحالات فإن إيران بدأت تشعر بأنها مستهدفة لا محالة، وأن وضعها الإقليمي أصبح حرجا، والأيام القادمة ستكشف كيف أن السحر بدأ ينقلب على الساحر.

معجزة تحت الطلب

ميشيل كيلو
قال وزير الدفاع الأميركي، إن حل الأزمة السورية يتطلب «معجزة خاصة». هذا القول هو تنويعة مختلفة بعض الشيء عن أسلوب التعبير الدبلوماسي الأميركي عن العجز حيال الحدث السوري، أو قل هو طريقة عسكرية خاصة في التعبير عن عدم الرغبة في فعل أي شيء من شأنه إيقاف النظام السوري عند حد، ومنعه من قتل شعبه بالجملة والمفرق.
تشبه «معجزة» الوزير بانيتا «العصا السحرية»، التي لا يكف الرئيس بشار الأسد عن الحديث عنها، مسوغا بافتقاره إليها الأخطاء والعيوب والنواقص والجرائم التي تفتك بسوريا، والتي دأب على تسويغها بعدم وجود عصا سحرية لديه يحل بواسطتها مشكلات نظامها وشعبها، كأن حل هذه المشكلات وتحسين حياة ومعاملة الشعب يحتاجان فعلا إلى عصا سحرية.
ومع أن كثيرين قالوا لبشار الأسد، إن من يحتاج إلى عصا سحرية هو الساحر الذي يريد التلاعب بعقول ومشاعر مشاهديه، وإنه كرئيس جمهورية لا يحتاج إليها، بل يحتاج إلى إزالة السحر عن الواقع لمعرفته بدقة، كما يحتاج إلى امتلاك رغبة صادقة في تغييره نحو الأفضل، وإلى الإخلاص للشعب السوري، الذي كان ينتظر منه أعمالا لا تبريرات بائسة لرفضه القيام بأي عمل مفيد، بعد بدء رئاسته في يوليو (تموز) من عام 2000. لكن الأسد عاد في خطابه الأخير إلى قضية العصا السحرية، لاعتقاده أن الحديث عنها مقنع ويبرر ما يرتكب في سوريا من مخاز ومآس ومجازر أنتجتها عصا أخرى هي عصا سياساته وخياراته الأمنية - العسكرية، التي تبين أنها على درجة من الهول والفظاعة جعلت منها خطرا داهما يفتك بشعب سوريا ودولته، ويكاد يقضي عليهما.
يريد بانيتا لمعجزته أن تحقق عكس ما تحققه عصا الأسد الأمنية: إيجاد أعذار تسوغ عدم تدخل أميركا العسكري في سوريا. ومع أننا لم نطالبها بالتدخل، لعلمنا أنها لن تتدخل من جهة، وشكوكنا بمقاصدها الحقيقية في المسألة السورية من جهة أخرى، فإن تكرار التخوفات الأميركية من الدخول إلى الأزمة يثير الريبة لدى قطاعات واسعة من الشعب والمعارضة في سوريا، ويمثل في نظر كثيرين إهانة لذكائهم، خاصة عندما يبدي مسؤول العسكر الأميركي وزملاؤه الدبلوماسيون التخوف من الحرب الأهلية، التي يعلنون أنها قد تقع في حال تدخلوا، بينما يمكن ملاحظة ظاهرة لا يجوز أن تتعامى عنها عين متابعة، مهما كانت غير مدققة، هي أن النظام يريد إغراق الشعب في هذه الحرب، ويدفع السوريين إليها بكلتا يديه، وبكل ما يملك من وسائل العنف والقتل، فليس التدخل العسكري هو الذي سيفجرها، بل الامتناع عن اتخاذ أي إجراء من أي نوع ضد سياسات السلطة السورية، علما بأن قوس الإجراءات الدولية غير العسكرية ليس ضيقا، كما يحاول المسؤولون الأميركيون إيهامنا، وبأن لديهم وسائل «سلمية» تمتلك قدرا من الفاعلية لا يقل عن فاعلية الإجراء العسكري، وإلا فليفسر هؤلاء لنا سر ذلك الانسحاب الهروبي الذي قام به بشار الأسد من لبنان، بمجرد أن صدر قرار دولي يطالبه بذلك، ودون أن تحشد ولو قطعة بحرية واحدة قبالة سواحله، أو تتحرك طائرة واحدة في أجواء المنطقة!
تضعنا تصريحات الوزير بانيتا أمام واقع يخبرنا بأن خيارات أميركا باقية على حالها بالنسبة إلى سوريا وأزمتها، وأنها تتراوح ما بين التذرع بالعجز عن القيام بفعل مؤثر وبين ترك الأمور تأخذ مجراها، كي تعصف بحياة المئات من المواطنين السوريين كل يوم. وبما أنه من الصعب أن نصدق ما يخبرنا السيد بانيتا به، وهو أن بلاده تفتقر إلى وسائل الضغط المناسبة والفاعلة في منطقتنا، مع أنها ركزت 80 في المائة من جهودها الدبلوماسية والسياسية والعسكرية عليها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وأعلنتها منطقة خاصة بها وحدها في نظامها العالمي الجديد، وقالت بلسان الرئيس جورج بوش الأب إنها لن تسمح لأحد بالتموضع فيها، فإننا لن نقبل ما يقال اليوم في واشنطن عن دورها في الأزمة، لأنه قد يتغير في أي وقت، ولن نؤمن بمعجزة الوزير ونود تذكيره بأن أميركا لا تعتبر سوريا منطقة تريد انتزاعها من أحد، وأنها تسلم بأرجحية مصالح الروس فيها، ولا تفكر بإخراجهم منها، ولا تعمل إلى اليوم على إيجاد حل لمشكلتها بمعزل عنهم، لذلك لا تفعل الكثير كي تكون لها اليد الطولى فيها، وتحاول ممارسة دورها السوري من خلال دورهم هم أو عبر الاستعانة بهم.
كل ما في الأمر أننا لم نفهم خلال الفترة الماضية لماذا لم تضغط واشنطن عليهم بصورة جدية كي يبادروا إلى رؤية المشكلة السورية في حجمها الحقيقي، ويسارعوا إلى تقديم حل لها نعرف أنهم يستطيعون تنفيذه بمجرد تهديد قادة دمشق بسحب تأييدهم الدولي والداخلي لهم، وتركهم يواجهون مصيرهم بمفردهم، وأن هلاكهم سيكون عندئذ مؤكدا مهما كان دور إيران في دعمهم. هنا، في هذا التقاعس، تكمن مشكلة السياسة الأميركية ومشكلتنا معها: إنهم لا يفعلون شيئا للتدخل بكامل ثقلهم الدولي والإقليمي في الأزمة، ولا يطالبون الروس بوضع حد لها، فهل هذا محض مصادفة أم أنه سياسة مدروسة يراد منها إيصال الوضع السوري والروسي في سوريا إلى حافة الاهتراء، قبل إنضاج حل يفرض عليهما، بما تمتلكه أميركا من قدرات ووسائل يريد الوزير إقناعنا بأنها ليست اليوم في حوزتها!
مهما يكن من أمر، لا أعتقد شخصيا أن موقف الوزير لا يقبل التغيير، وأؤمن جازما بأن دفع النظام بالوضع إلى الحرب الأهلية سيغير معطيات الصراع ومواقف العالم البعيد والقريب منه، وسيجبره على رد مخاطره عنه وعن المنطقة. عندئذ، سنكتشف في السيد بانيتا وزيرا أميركيا مختلفا، لا يسوغ سلبية بلاده بحاجتها إلى معجزة، بل يصنع المعجزة المطلوبة بكل بساطة: ولكن دفاعا عن مصالح أميركا، التي لم يهدد النظام السوري أي واحدة منها إلى الآن، فتحجم واشنطن من جانبها عن فعل أي شيء جدي يهدده، بانتظار ظروف مغايرة تكون لها فيها الكلمة الفصل في مصيره.
هذه هي، في رأيي المتواضع، حدود الدور الأميركي واحتمالاته، فلا هو بحاجة إلى معجزة تشبه عصا بشار الأسد السحرية التي انقلبت إلى عصا أمنية، وليست أميركا عاجزة عن فعل ما تريد إلا لأنها لا تريد، وإن غدا لناظره قريب!

الحكاية التي قرأها الإخوان ولم يستوعبوها

سليمان جودة
عندما ترى هذه السطور النور، صباح الأحد، تكون جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة، بين المرشح المستقل أحمد شفيق، والدكتور محمد مرسي، مرشح جماعة الإخوان، قد دخلت يومها الثاني والأخير.. وسوف نكون، عندئذ، على مسافة ساعات من إعلان اسم الفائز بكرسي الرئاسة في «مصر ما بعد الثورة»!
وحقيقة الأمر، أن هذا كله، رغم أهميته، ليس هو الموضوع، وإنما الموضوع الحقيقي الذي يتعين علينا أن نتوقف أمامه، طويلا، أننا إزاء وضع مثير لأحد المرشحين يستأهل منا أن نتأمل ملامحه وأبعاده في هدوء!
هذا المرشح هو الدكتور مرسي، الذي يخوض جولة الإعادة، وقد انكشف ظهره تماما، إذا جاز التعبير، لا لشيء، إلا لأن المحكمة الدستورية العليا كانت قد قضت، صباح الخميس، بحل مجلس الشعب، الذي يملك فيه الإخوان أغلبية نسبية، بما يعني أن هذه الأغلبية التي كانت «الجماعة» تتباهى بها وتفتخر، على مدى شهور، منذ تشكيل البرلمان في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قد تبخرت في لحظة، وتبين للإخوان، في هذه اللحظة، أنهم واقفون بمفردهم، بينما ظهورهم إلى الحائط!
ليس هذا فقط، وإنما فقد الإخوان، أو كادوا يفقدون، أغلبية أخرى تأسست على الأغلبية الأولى.. وهذه الأغلبية الثانية، هي أغلبيتهم في اللجنة التأسيسية للدستور.. إذْ إنه بمجرد صدور حكم حل البرلمان، قيل كلام قوي لم يتأكد بعد حتى ساعة كتابة هذه السطور، عن أن «التأسيسية» لم يعد لها وجود، وأن المجلس العسكري الحاكم سوف يصدر قرارا بتشكيل لجنة جديدة، يختار أعضاءها هو، بدلا من أن يختارهم أعضاء البرلمان، كما كان الحال قد جرى في «التأسيسية» الأولى!
ما معنى هذا كله؟!.. معناه أن ما كان الإخوان قد قاتلوا في سبيله، طوال عام ونصف العام، من عمر الثورة، قد تبدد في دقائق، ولم يعد في أيديهم شيء.. أي شيء.. إلى الدرجة التي قيل معها، بعد صدور حكم «الدستورية» بدقائق، إن الدكتور مرسي يفكر في الانسحاب من السباق الرئاسي!
لا يستطيع المرء، وهو يقرأ المشهد في إجماله، إلا أن يتذكر تلك القصة القديمة، ذات المغزى العميق، والتي تصور بدقة، وضع الإخوان في لحظتنا هذه.
القصة تقول إن رجلا كان يملك أرضا شاسعة، وإنه قد جاء عليه يوم، قرر فيه أن يمنح أي جزء من أرضه، بلا مقابل، لصاحب النصيب.. وكان صاحب الأرض قد أعلن أنه سوف يعطي هذا الجزء، هدية، للفارس الذي يستطيع أن يركب حصانا، ثم يقطع أي مساحة من أول نقطة فيها، إلى أي نقطة أخرى في أعماقها، بشرط واحد، بل وحيد، هو أن يعود الفارس إلى نقطة البدء، قبل أن يغيب قرص الشمس، عند المغيب، وقد جاء أحدهم، وقال إنه لها، وإنه سوف يحصد الأرض كلها، وليس مجرد جزء منها، هدية خالصة له، في نهاية اليوم، ولذلك فقد ركب حصانه، وانطلق، بعد أن راح صاحب الهدية يتطلع إليه مبتسما، وربما مشفقا، ولسان حاله يقول: سوف نرى!
وكان الفارس، بعد انطلاقه، كلما تأمل امتداد الأفق أمامه، غاص في الأعماق أكثر، وأكثر، على أمل أن يحوز على المساحة الأكبر من الأرض، وكان يلهب ظهر الحصان، بالسوط، لأنه كان يعرف مسبقا، أن أي مساحة يقطعها ذهابا وإيابا، قبل مغيب الشمس، سوف تكون ملكية خالصة له.
وكانت إحدى عينيه، على قرص الشمس، بينما الأخرى، على الأفق الممتد، بلا حدود، وقد أغراه الأمل، ودغدغ مشاعره، ليحوز الأرض كلها، فلم يكن يرضيه جزء منها، وبالتالي فقد أغمض عينه الأولى، مؤقتا، عن قرص الشمس، وراح يسابق الريح، لعله يبلغ آخر حدود الأرض، ثم يعود إلى حيث انطلق، قبل المغيب.
تقول القصة إنه بلغ آخر الحدود، ثم عاد مسرعا، ومنتشيا في الوقت نفسه، في اتجاه نقطة البدء، غير أنه، ويا للأسف، لم يلتفت إلى أن قرص الشمس لن ينتظره، وأنه سوف يغيب في موعده، وهو ما حدث بالفعل، حين غاب، بينما الفارس بينه وبين نقطة البداية أمتار!! فخسر كل شيء.. كل شيء.. وكان في إمكانه، لو أراد، أن يحصل على الجزء الأكبر، لو أنه نحى الجشع، ومعه الطمع، جانبا، وقرر منذ البداية أن يحصل على المعقول، من الأرض، بدلا من أن يحاول أن يبتلعها كلها، ويلتهمها كلها، في قضمة واحدة، فتقف في زوره، أو في حلقه، ويكاد يهلك، وهو يحاول أن يبتلع شيئا فوق طاقته على الابتلاع!
شيء من هذا، بل هذا نفسه، حدث مع الإخوان الذين أعلنوا منذ ما قبل انتخابات البرلمان، أنهم سوف ينافسون على 35 في المائة على الأكثر، من مقاعده، فإذا بهم ينافسون على 100 في المائة من المقاعد، وبعدها قالوا إنهم لن ينافسوا على انتخابات الرئاسة، ولن يكون لهم فيها مرشح، فإذا بهم يدفعون إليها بمرشحين اثنين، واحد أساسي، والآخر احتياطي، على خلاف جميع القوى السياسية في البلد!
وفي المنتصف، بين البرلمان والرئاسة راحوا يحاولون، بكل الطرق، الهيمنة على اللجنة التأسيسية للدستور، فما كان من الذين ضاقوا ذرعا بجشع الإخوان، إلا أن لجأوا إلى القضاء، فحكم ببطلان تشكيل اللجنة، على النحو الذي يريده لها الإخوان.
ومع ذلك لم يتوقف الجشع، عند أي حد، ولا كانت للطمع نهاية، وإنما أوغلوا فيهما معا، وشهد الجميع، كيف أنهم حاولوا، بكل سبيل، السيطرة على المحكمة الدستورية العليا نفسها، ثم على البنك المركزي، بطرح تعديل لقانونه، ثم على الصحف القومية، من خلال مجلس الشورى، إحدى غرفتي البرلمان، الذي يملكون فيه، أي في «الشورى» هو الآخر، أغلبية نسبية!
أحس المصريون، في كل يوم، بأن الإخوان جاءوا ليكرروا سيرة الحزب الوطني قبل الثورة، وبشكل يخلو من أي حكمة، أو عقل، أو منطق، وأنهم لا يرضيهم إلا أن يكون البلد كله، في قبضتهم، فما كان من المصريين إلا أن عاقبوهم على الفور، بأن منحوهم في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة، نصف الأصوات التي كانوا قد منحوهم إياها في انتخابات البرلمان، ولم تستوعب «الجماعة» الدرس، وإنما مضت في توحشها، إلى أن استيقظت على حكم الدستورية العليا، وهو يجردها من كل شيء.. نعم كل شيء.. لتكتشف الجماعة، في نهاية المطاف، أنها أمام الحقيقة: عارية!.. وليتبين لنا، ثم للإخوان، أن رصيد التعلم لديهم، من تجربة طولها 84 عاما، منذ نشأت «الجماعة» على يد حسن البنا، عام 1928، إنما هو صفر كبير!.. فالغالب أن الجماعة، من خلال قيادات فيها، قد قرأت هذه القصة القديمة، ولكن هناك فرقا كبيرا، بين أن تقرأ الشيء، وأن تستوعبه!

هل صارت سوريا قبلة الجهاديين

فايز سارة
يندر مرور يوم من دون أن تشير أجهزة الإعلام السوري إلى المسلحين والإرهابيين وعملياتهم في سوريا، ويندر أن لا يشار في تفاصيل الأخبار إلى تواصل قدوم الإرهابيين إلى البلاد عبر الدول المحيطة أو منها، وقد درجت أجهزة الإعلام السورية على ضخ تلك الأخبار منذ بدء حركة الاحتجاج والتظاهر السورية في مارس (آذار) 2011 بصورة متواترة ومكثفة.
ويبدو أن مسار الإعلام السوري في هذا المجال مدعوم ببعض وقائع حصلت على الأرض، أو جرى ترتيبها في أماكن مغلقة وشديدة السرية، قبل أن يتم تنفيذها، عززت الكلام السوري عن الإرهابيين وعملياتهم، وجعلت الموضوع مادة حاضرة في وسائل إعلام عالمية مهمة وعديدة. حيث أخذت تتحدث بصورة متصاعدة عن الإرهابيين وعملياتهم خاصة لجهة التفجيرات التي شهدتها دمشق ومدن أخرى، مما رفع مستوى الربط بين ما يحصل في سوريا والإرهابيين الذين يأتون إلى سوريا من مختلف البلدان، حسبما تشير وسائل الإعلام، وهذا جعل مسؤولين دوليين وأمميين كبارا بينهم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون والمبعوث الدولي - العربي إلى سوريا كوفي أنان ووزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، يشيرون إلى «القاعدة» وأخواتها وإلى الإرهابيين وعملياتهم، عندما يتحدثون عن الوضع في سوريا، وهي إشارات غير حقيقية، ومبالغ فيها على أقل تقدير.
إن تطورات الأزمة ومسار الحل الأمني العسكري الذي اختارته السلطات السورية في تعاملها مع المحتجين والمتظاهرين وحواضنهم الاجتماعية في المدن والقرى، خلقت توجهات نحو مقاومة مسلحة للنظام في أوساط مختلفة، كان الأبرز فيها عسكريين انشقوا من داخل المؤسسة الأمنية العسكرية للنظام، ونظموا أنفسهم في عداد ما بات معروفا باسم الجيش السوري الحر وقد انضم إليهم متطوعون ومدنيون أو عملوا إلى جانبهم عبر تشكيلات مستقلة، تشاركت في مواجهات مع القوات النظامية من عناصر الجيش والأمن والمنضمين لهم من الشبيحة في بعض الحالات.
ومما لاشك فيه، أن عوامل دفعت إلى تنظيم مقاومة سورية مسلحة في مواجهة الحل الأمني - العسكري للأزمة، دفع بعضها عناصر من جماعات مسلحة من «القاعدة» وأخواتها إلى المجيء إلى سوريا، وساعدها في ذلك تزايد نزعات العسكرة والتوجه للسلاح، وسهولة العبور إلى الأراضي السورية، التي كان هؤلاء استخدموها في السابق للمرور باتجاه العراق ولبنان، وضعف قدرة السلطات السورية في تأمين فعال لحدود طويلة مع جوارها وسهولة العبور، وكلها عوامل ساعدت في وصول «الجهاديين» العرب وربما غيرهم على مدار الأشهر الماضية، وقد أشير في هذا السياق عبر تقارير إعلامية إلى عبور لبنانيين وأردنيين وليبيين وكويتيين باتجاه سوريا، ونشرت أخبار عن سقوط بعضهم في معارك ومواجهات مع القوات السورية في حمص بوسط البلاد.
وبصفة عامة، فقد استخدمت تلك التقارير وما يتم تداوله من معلومات حول الجهاديين القادمين إلى سوريا في تضخيم دور ووزن هؤلاء، وخاصة لجهة تحميلهم مسؤولية التفجيرات التي حدثت في بعض المدن السورية، وللدلالة على تصاعد التطرف الديني ونفوذ الجماعات المسلحة، وللتحذير من احتمالات أفغنة الأوضاع في سوريا، وتعميمها باتجاه المحيط الإقليمي.
غير أنه ينبغي عدم المبالغة بعدد ووزن «الجهاديين» من أفراد وتنظيمات عبرت إلى سوريا، والأمر في هذا يتصل بعوامل من بينها، أن أبرز الجماعات «الجهادية» ما زالت تبتعد عن إعلان انخراطها في «الجهاد السوري»، ليس فقط بسبب أنها وأغلب عناصرها مكشوفة للأجهزة السورية عبر سنوات طويلة من الرصد والتعاون، وإنما بسبب أن الفضاء السوري، لا يشكل حاضنة مناسبة على نحو ما كان عليه الوضع في البلدان الأخرى، وبسبب أن لدى السوريين محاذير في التعامل مع التطرف الديني والجماعات الدينية المسلحة، وهم بعيدون عنهما بصورة عامة، لكن ما سبق كله لا يمنع من قول أن بعض الجهاديين تغلبوا ويمكن أن يتغلبوا على العوامل السابقة، ويدقوا أسافين لوجودهم في سوريا، لكنهم في كل الأحوال وفي المدى المنظور، لن يشكلوا قوة ظاهرة، ولن يكون لهم حضور ملموس في الحياة السورية وفي تحديد مستقبل البلاد.