Wednesday, June 20, 2012

قراءة خارجية في نتائج الانتخابات الرئاسية المصرية

عبيدلي العبيدلي
من الطبيعي أن يكون للسياسة الخارجية مساحتها الواسعة في خارطة أي نظام يحكم مصر، التي يبدأ حضورها السياسي بالدائرة العربية، ثم لا يستطيع أن يتحاشى علاقاتها الوشيجة بدول القارة الأفريقية، يعزز من أهمية كل ذلك انتمائها الإسلامي، الذي يكرسه وجود الأزهر الشريف. تتضافر كل هذه العوامل، كي تمد مصر بمكانتها الدولية التي تتمتع بها، والتي تجعل من يحكمها مطالباً بأن يولي العلاقات الدولية أهمية لا تقل عن تلك الداخلية. لكن ما هو أكثر إلحاحاً في هذه المرحلة هو العلاقة مع ثلاثة أطراف خارجية، سترسم الكثير من معالم السياسة الخارجية المصرية، خلال مرحلة حكم الإخوان المسلمين، بعد فوز مرشحهم محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية. الطرف الأول هو الولايات المتحدة، والتي هناك مصالح مشتركة متبادلة لا يمكن لأي من الطرفين: القاهرة وواشنطن أن يتريث في تحديد خطوطها العامة في حدها الأدنى، والثانية هي إسرائيل، التي لن يبيح تشابك القضايا الأمنية بين البلدين مع الارتباطات التي تحكم الطرفين، أن يؤجل بروز ملفها على طاولات مفاوضات رسم العلاقات بينهما، والثالثة هي إيران نظراً لتعقد أوضاع الحضور الإيراني في المنطقة العربية، بدءاً من الجنوب اللبناني، مروراً بدمشق، وصولاً إلى العراق، قبل أن يحط الرحال في الخليج العربي. نقطة في غاية الأهمية نلفت لها، وهي أن تناول الدائرة الأمريكية، لا ينبغي أن يحول جماعة الإخوان إلى عملاء للولايات المتحدة، والحديث عن إسرائيـل لا يضعهم في خانة التواطؤ على القضية الفلسطينية، وتناول الشريط الإيراني الممتد من طهران حتى “قلعة شقيف” في لبنان، لا يعني تفريطهم في القضايا العربية. الأمر هنا يتطلب مستو عال من النضج السياسي، ودرجة متقدمة من القدرة على تحليل جدلية العلاقات الدولية التي تفرض نفسها على من يحكم مصر، بغض النظر عن انتمائه العقيدي، أو ارتباطه الأيدلوجي. لكن لفتة مهمة في إطار الحديث عن الدائرة الدولية، هو ما رصده أبوالفضل الإسناوي، في مجلة “ السياسة الدولية”، حيث يعتبر، بناء على قراءته لبرنامج الإخوان الانتخابي أنها ستكون “لصالح التنظيم أكثر مما تكون لصالح بلد متكامل”. في إطار الدائرة الأولى، وبالنسبة للعلاقة مع الولايات المتحدة، لا بد من التأكيد على أن لها جذورها التاريخية التي تعود إلى ما قبل فوز مرسي، وهو كما ينقلها الكاتب بكر أبو بكر عن “تصريح د.محمود غزلان المتحدث الإعلامي الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين على موقع الإخوان المسلمين أن مكتب الإرشاد قرر أن الحوار مبدأ ثابت لدى الإخوان المسلمين طيلة تاريخهم ومع كل القوى والاتجاهات، ومن ثم فنحن مستعدون للحوار مع الإدارة الأمريكية إذا قررت ذلك في إطار من الاحترام المتبادل. مضيفاً نحن نعتبر تصريحات مسؤولين أمريكيين عن إجراء حوار رسمي مع الجماعة أحد مكتسبات الثورة (25 يناير 2012)”. ومن جانبها، أكدت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون على أن “أمريكا مستعدة للتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين إذا صعدت إلى السلطة”. وقد سبق كلينتون إلى الكشف عن تلك العلاقة، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكي في حديث نشرته “الأهرام” المصرية في 15 أغسطس 2011، أشار فيه إلى أن “مسؤولو الحكومة الأمريكية يلتقون رموز وأعضاء (بجماعة الإخوان المسلمين) بشكل مستمر وفى إطار حوار مع القوى السياسية حول مستقبل عملية التحول الديموقراطي في مصر”. هذا كله، وتصريحات أخرى من الطرفين، يشيران إلى أن هناك علاقة لم تنقطع، بل تعود إلى الخمسينات من القرن الماضي، لكن الأهم من هذا البعد التاريخي، هو الأفق المستقبلي، الذي يتوقع له أن تسوده ملفات ساخنة، أولها الملف الإسرائيلي، وثانيها ملف العلاقات مع إيران، دون إهمال العلاقات مع الأقباط، خاصة بعد أن نجح “الإخوان” في تشكيل جماعة ضغط متعاطفة معهم، ولها علاقات وثيقة مع الإدارة الأمريكية الحالية، يقودها أربعة أشخاص هم “من كبار الشخصيات الأمريكية: غراهام فولر، ورول غريشت، وإدوارد دجيرجيان، وليزلي كامبل.. ويعد هذا الرباعي من أكثر المؤيدين للإخوان وأهدافهم في الولايات المتحدة وهو ما يظهر في أبحاثهم التي يقدمونها للإدارة الأمريكية، وفي بعض الأحيان يقدم الرباعي بعض الاستشارات لمكتب الإرشاد”، التابع لجماعة “الإخوان”. الدائرة الخارجية الثانية هي الدائرة الشرق أوسطية، وتحديداً العلاقات مع إسرائيل، والتي يبدو أنها، كما كشفت عنها صحيفة “يديعوت أحرونوت، لم تكن مقطوعة، قبل فترة، مشيرة إلى احتمال عقد “لقاء مرتقب يجمع نواب من البرلمان المصري، بينهم أعضاء تابعين لجماعة الإخوان المسلمين وبعض أعضاء من الكنيست الإسرائيلي في الولايات المتحدة الأمريكية بالعاصمة واشنطن، في ظل التوتر في العلاقات بين البلدين ومن أجل تقريب وجهات النظر المصرية والإسرائيلية”. وجدول أعمال العلاقات المصرية الإسرائيلية، بعد وصول الإخوان إلى الرئاسة سيتمحور حول قضيتين أساسيتين، الأولى والأهم وهو حماية أمن الدولة الإسرائيلي في حدودها المتاخمة لصحراء سيناء، والثانية هو موقف الدول المصرية من أنشطة منظمة “حماس”، وهل سيضطر “الأخوان المسلمون”، إلى التعاطف مع هذه الأخيرة بوصف كونها الجناح الفلسطيني للجماعة؟ لا ينبغي أن نغفل هنا احتمال مراهنة إسرائيل، أن تثمر أية محادثات بين الدولتين، إلى إقناع القاهرة، بأن طريق السلام يمر عبر بوابة الحوار وليس العنف، ومن ثم تطلب من “الجماعة” ممارسة شيء من الضغوط “اللينة” على حماس، كي تخفف من لهجتها العلنية التصعيدية، وتنخرط بشكل علني استراتيجي في محادثات السلام بين تل أبيب والسلطة الفلسطينية. الدائرة الثالثة، وهي الأكثر تعقيداً، نظراً لتشابك السياسي مع المذهبي، فمن الطبيعي أن تحاول مصر “السنية “ تشكيل مثلث “سلطوي” يحتضن تحت جناحيه، حزب النهضة الحاكم في تونس، وجماعة الإخوان في المغرب، سوية مع “إخوان الأردن” الذي يجاهدون من أجل حضور أكثر تأثيراً في الدولة، وربما في مرحلة لاحقة “إخوان” سوريا في حال سقوط نظام الأسد. هذا المثلث يسعى لأن يقف، بالإضافة إلى تعزيز مواقع “الإخوان” في المنطقة، في مواجهة الشريط “الشيعي” الذي تقوده إيران الباحثة عن دور رئيس في خارطة الشرق الأوسط الجديدة التي لن يتوانى الإخوان عن العمل من أجل احتلال مصر موقعاً ريادياً فيها، يعيد لمصر دورها المميز الذي مارسته في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إن لم يكن أقدم من ذلك التاريخ. إذا مزجنا ذلك بتوتر العلاقات العربية – الفارسية في منطقة الخليج، فمن الطبيعي أن تضع هذه الحالة المعقدة القاهرة أمام خيارات صعبة، بين دائرتها العربية وطموحاتها الشرق أوسطية، وانتماءاتها المذهبية بعد وصول “الإخوان” إلى الرئاسة. حقق “الإخوان” الفوز في انتخابات الرئاسة، وهو إنجاز من الخطأ الاستهانة به، أو التقليل من الجهود التي وقفت وراءه، لكن ما هو أهم منذ ذلك المكسب، هو القدرة على إدارة دفة الحكم بشكل مدني ديمقراطي على الصعيد الداخلي، ومتوازن وقادر على الثبات والحضور المؤثر على الصعيد الخارجي.

الأزمة في العراق..تعقيدات ومخاطر

عبدالرزاق الصافي
لم يعد يفصلنا عن انتهاء عطلة البرلمان العراقي سوى يوم واحد، فمن المفروض ان يجتمع البرلمان يوم غد الخميس 21/6/2012. وقد شهدت الاسابيع التي سبقت هذا التاريخ تعقيدات شديدة في الوضع السياسي لم يسبق لها مثيل طيلة السنوات التسع التي انصرمت من العملية السياسية الجارية في العراق منذ الاطاحة بالنظام الدكتاتوري السابق. وكان من مظاهر اشتداد الازمة في طورها الجديد، منذ انتخابات العام 2010، وخصوصاً خلال الاشهر الستة الماضية، هو العجز عن التقاء القوى السياسية المتنفذة، التي تتألف منها الحكومة العراقية، حكومة المحاصصة المسماة خطأً بحكومة الشراكة الوطنية، عن الاجتماع للبحث في اسباب الازمة والسبل الممكنة للخروج منها، رغم كثرة الاجتماعات التي عقدتها اللجان التحضيرية لهذا الاجتماع. والاكثر من هذا هو اصرار القوى المتنفذة المسؤولة عن استمرار الازمة وتفاقمها على تجنب مراعاة مصالح الشعب والوطن، التي تتطلب المرونة والتنازلات المتبادلة للوصول الى حلول وسط تجنب البلاد مخاطر استمرار الازمة، وتفاقم النشاطات الارهابية والخروقات الامنية ووقوع الضحايا البريئة من ابناء الشعب بالمئات، شهداء وجرحى، وآخرها الضحايا الذين سقطوا هذا الاسبوع من زائري مرقد الامام موسى الكاظم، واستمرار تدني الخدمات والبطالة الواسعة وتوقف الاعمار وغير ذلك من الكوارث التي يكتوي بها ابناء الشعب. ولم يقف الامر عند هذا الحد بل تصاعدت الخلافات بين القوى المتنفذة الى المطالبة بسحب الثقة من رئيس الوزراء نوري المالكي وتحميله كامل المسؤولية عما آلت اليه الامور بسبب «تفرده وتهميشه الآخرين». الامر الذي رد عليه رئيس الوزراء باتهام المطالبين بسحب الثقة عنه بـ «التآمر». واعلان عدد من انصاره عن عزمهم على طلب سحب الثقة من رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي. لقد سعى رئيس الجمهورية جلال الطالباني الى عقد اجتماع قادة القوى التي تتألف منها الحكومة. غير ان مساعيه باءت بالفشل المرة تلو الاخرى. وفي عز اشتداد الازمة غادر رئيس الجمهورية الى المانيا يوم الاحد الماضي، بعد امتناعه عن الاستجابة لطلب القوى التي تريد سحب الثقة من رئيس الوزراء، بحجة عدم توقيع غالبية اعضاء مجلس النواب طلب سحب الثقة، الامر الذي يرد عليه طالبو سحب الثقة بوجود هذه الغالبية. ان الجمهور يترقب بقلق ما سيسفر عنه اجتماع البرلمان يوم غد. فهل سيفلح مجلس النواب بعقد الاجتماع، ام سيوجد من يسعى الى احباط ذلك بمنع النصاب من الاكتمال؟ واذا ما تم الاجتماع فهل سيوفق طالبو سحب الثقة بتوفير الاكثرية المطلوبة لطلب سحب الثقة وانهاء التضارب بين ما يدعيه كل طرف بهذا الخصوص؟ ام سيتقدم خمس عدد اعضاء المجلس بطلب استجواب رئيس الوزراء تمهيداً لطلب سحب الثقة منه؟ فقد ذكرت الانباء ان طالبي سحب الثقة شكلوا لجنة تأخذ على عاتقها تهيئة الملفات التي يراد استجواب رئيس الوزراء بشأنها. ان هذه كلها مجاهيل تنتظر الانكشاف يوم غد والايام اللاحقة. وهي كلها تشكّل بمجموعها إدانة للقوى المتنفذة على ادائها السيئ للعملية السياسية ومسؤوليتها مجتمعة، وبدرجات متفاوتة، عن ايصال الامور الى هذا المستوى المتدني من الاداء، الذي يلقي بثقله على اعصاب ابناء الشعب وامزجتهم المثقلة بالمصاعب والمآسي جراء الفساد والارهاب والخروقات الامنية وتدني الخدمات، وخصوصاً الكهرباء في هذا الصيف اللاهب، والبطالة والقلق مما ستؤول اليه الاوضاع المتردية. ومما يزيد سخط الناس هو تجنب القوى المتنفذة طريق العودة الى الشعب صاحب الحق في حل الاشكالات الحاصلة عن طريق اجراء الانتخابات المبكرة بعد توفير مستلزمات إجرائها حرة نزيهة، المستلزمات التي جرت المطالبة بها مراراً وتكراراً وهي تعديل قانون الانتخابات بإلغاء التعديل غير الدستوري الذي أجراه البرلمان السابق وتشكيل مفوضية عليا مستقلة حقاً، للانتخابات وتشريع قانون ديمقراطي للاحزاب واجراء التعداد السكاني الذي عرقلته القوى المتنفذة اكثر من مرة.

سوريا إلى أين... 2

أحمد سند البنعلي
بالأمس نقلنا مقتطفات مما ورد إلينا من بيان أصدرته هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي في سوريا بسبب ما وصل إليه الحال في ذلك القطر العربي بثورة شعبه على النظام، ويتبين من البيان عدة أمور نود أن نوجز الحديث عليها في التالي، ولكن قبل ذلك من المهم التنويه بان هذه الهيئة العليا هي احد شقي قيادة العمل الثوري في سوريا في جانبه السياسي وهي القيادة القابضة على الجمر في داخل القطر ومعها على الجانب الآخر يوجد المجلس الوطني المقيم جميع أعضائه خارج سوريا، لذلك يكون الإعلام بعيدا عن الداخل ومتركزا على الخارج ويصور الأمر على غير حقيقته.
أول ما يمكن قراءته من البيان هو براءة الثورة في سوريا من كل ما يحدث من عنف ومجازر بحق المواطن السوري وهو ما يعني أن الهيئة العليا لا زالت في موقعها الوطني الحقيقي من الدعوة لسليمة الحراك الثوري في سوريا ونظرتها من أن العنف لن يكون في خدمة الشعب العربي السوري بقدر ما هو مجمل للنظام وداعم لبقائه في السلطة.
ثاني ما يمكن فهمه من البيان هو وعي القيادة في الداخل بدور النظام في إشعال الطائفية ودوره الكبير في المجازر التي تحدث للشعب السوري سواء بتنفيذها مباشرة أو بغض الطرف عن منفذيها لتصوير الأمر على أن ما يحدث هو بسبب العنف الذي يمارسه الشارع وان النظام هو الوحيد القادر على وقف تلك المجازر وهو الميزان الذي يمكن أن يوقف العنف الطائفي والحرب الأهلية التي يسير عليها الشعب العربي السوري مع أن الحقيقة مخالفة لذلك والشعب في سوريا بعيد عن الطائفية والحرب الأهلية التي يروج لها ذلك النظام.
ثالث الأمور هو وعي القيادة في الداخل للدور الخطير التي تلعبه قوى الخارج في إشعال الفتنة بين مكونات الشعب السوري عن طريق تزويد بعض العناصر بالسلاح من أجل القيام بعمليات تغذي التقسيم المراد له أن يحدث في سوريا وعلى رأس تلك القوى الغرب بجميع تقسيماته وبعض الدول المجاورة لسوريا من تلك التي تدعم النظام وترنو إلى إطالة بقائه وتفتح حدودها للقيام بما يخدم النظام من علميات عسكرية وأمنية، بل انه ليس ببعيد أن يكون لسوريا دور خفي في تدفق السلاح على الداخل السوري ليس للنظام ولكن لمن يخدم النظام عن طريق القيام بعمليات إرهابية تنسب في ما بعد للثورة من اجل تشويه صورتها في الخارج وهو ما نراه في البيان حين يقول (من جهة أخرى فان قوى ومجموعات مسلحة ذات أجندات خارجية آو ذات مشاريع سياسية غير ديمقراطية تعمل وتدعو للعسكرة واستخدام العنف من اجل تحقيق أهدافها ومشاريعها بعيداً عن الإجماع الشعبي تلعب أدوارا مكملة لادوار النظام في تمزيق البلاد والمجتمع) .
ثم إن قيادة الهيئة حين ترفض العنف الذي تقوم به بعض العناصر المسلحة فإنها تدعم قيام الشعب السوري بالدفاع عن نفسه ضد النظام حتى بالسلاح لذلك فهي تميز تمييزا واضحا بين القوى المسلحة المدعومة من الخارج وبين الشعب السوري المدافع عن ذاته ووجوده وهي لذلك تدعو الشعب العربي السوري لمواصلة سلمية الثورة والتركيز عليها، وتطالب على الجانب الآخر المجتمع الدولي وعلى رأسه الأمة العربية لدعم ذلك التوجه والبعد عن تغذية العنف فوق التراب السوري وهو ما يدفع بنا كذلك لمطالبة الجامعة العربية والدول العربية لاستعادة الدور التي بدأت به العام الماضي في دعم الشعب السوري وجعله قادرا على مواصلة ثورته ضد النظام وتسهيل المعيشة على أبنائه وهو الأمر الذي يسهل على قيادة الثورة في جانبيها المدني والسياسي للقيام بالدور المناط بها للوصول بالشعب العربي السوري إلى بر الأمان ووقف التدهور الحادث حاليا على التراب السوري.

بلطجة فكرية

د . هند أبو الشعر
شاع استعمال هذه الكلمة في السنة الماضية بشكل هستيري في الوطن العربي كله ، والكلمة تركية تعني « صاحب القدوم» أي حامل البلطة ، وكأننا وبكل بساطة نستعيد الزمن العثماني ونصر على استحضاره في يومياتنا ، وقد استنسخنا حالات البلطجة المتعددة ، ومنها البلطجة الفكرية ، وسمحنا بتحويل سلطة الفكر المعنوية إلى حالة تتناسب مع مرحلتنا العجيبة التي لا مثيل لها في تاريخ العرب ، وسوغنا لأنفسنا سكوتنا على بلطجة جديدة هي بلطجة الفكر ...!
كيف يقبل الوطن الذي يباهي بعدد جامعاته ومعاهده ومدارسه وحملة الدكتوراه فيه أن يمارس فيه البعض بلطجة على فكر الناس ..؟ وكيف نمرر مثل هذه السلوكيات بلا محاسبة جادة تضع الأمور في نصابها ..؟ الطالب الجامعي الذي لا يستحق النجاح ولا يعرف التعبير بجملة مفيدة ، يعتدي على سيارة الأستاذ الذي وضع له علامة دقيقة تقيس قدراته ، وأهالي طلبة التوجيهي يعتدون على مدير تربية وتعليم ..! وعامل الوطن الذي يفرض « خاوة» على أصحاب المحلات ويرفض القيام بعمله إن لم يأخذ « الخاوة» ، وإذا ما تقدم الأهالي بشكواهم ينتقم منهم بوضع النفايات على أبواب دورهم ..! مئات السلوكيات العجيبة التي تتلخص في ممارسة العنف ضد الحق ، وفي تهميش دور الدولة والمؤسسات لصالح الفردية والمنفعة الخاصة .. السائق الأردني يعتبر الطريق ملكه الخاص ، وتقوم القيامة على الطرق الخارجية إذا وجد أمامه سيارة يلتزم سائقها بالسرعة القانونية ..بلطجة حتى في قيادة السيارات ..!
أين الخلل ..؟ حتى النائب تحت القبة يتعرض للبلطجة ..! نحن باختصار مؤسف نتراجع في ممارساتنا وبشكل لا يصدق ، والعجيب أننا بتنا نقبل بكل هذه السلوكيات المجنونة ويصبح السلوك المهذب والمنضبط والذي يلتزم بمواصفات المواطنة ، يصبح هو الخائف والصامت ، ويعلو صوت أصحاب البلطات ..؟ هل أقول بعد هذا كله « ابكِ يا وطني الحبيب ..؟» والله العظيم أننا بتنا نتلمس أنفسنا لنتأكد من أن ما يجري حقيقي وليس مشاهد من فيلم رعب أمريكي لا يستحق المشاهدة ..؟ أسألكم كلكم هل نحن نحن أم أننا نقوم بأداء أدوار في مسلسل كتب نصه كاتب بلطجي ..؟ أم ماذا ..؟ ماذا ..؟

فوبيا الولاية السابعة

خيري منصور
لو كان للعرب المحرومين من نعمة الديمقراطية تجارب يعتد بها في هذا السياق لادركوا على الفور بأن المرشح الذي يفوز في اية انتخابات لن يبقى في مكانه بعد بضعة اعوام اذا غيروا اراءهم فيه، لكن العقود التي مرت بهم عقدتهم واورثتهم عدة فوبيات منها فوبيا الولاية السابعة، وفوبيا إعادة النظر في مواد الدساتير واعادة انتاجها لتلائم من يتشبثون بالسلطة والرئاسة حتى الموت وان كان بعضهم ذهب الى ما هو ابعد فقرر ان يواصل الحكم من قبره ومن خلال التوريث.
وردود الفعل التي نسمعها او نقرأها ضد فوز هذا المرشح او ذاك لا تعود فقط الى اسباب سياسية او ايديولوجية بل الى الهلع من تكرار اللدغ، ومن الحجور ذاتها رغم تبدل ساكنيها!
في اي بلد في العالم قطع شوطا في الديمقراطية ولم يعد خداجا او محدث نعمة فيها ينتظر الناس انقضاء الولاية المحددة بنصاب زمني لمن يعتقدون انه خذلهم. لان تلك المجتمعات لا تعاني من هذه الفوبيا التي يختصرها البعض بعبارة واحدة هي من القصر الى القبر كبديل لما يقال عن المهد واللحد.
ان التعامل الشعبي مع افرازات الصناديق هو ربيب ثقافة المباريات والاشتباك في المدرجات بحيث تنتهي احدى المباريات الى تحقيق اربعة وسبعين هدفا.. هو عدد القتلى، او تنتهي الى ما انتهت اليه مباراة الجزائر ومصر قبل عامين ونحن في غنى عن التذكير بما قام به الاعلام الفجّ من تحريض وكأن ما جرى كان حربا استخدمت فيها الاسلحة الثقيلة كلها.
والشعوب التي انفقت اكثر من ثلاثة ارباع الجهد والعمر في حروب رياضية حملت الجرثومة ذاتها الى كل مجال اخر. فصراع الديكة على الشاشات هو ايضا من افرازات تلك الثقافة وكذلك الحراك السياسي الذي يعيد الى الذاكرة العربية حكاية قبيلة غزية وشاعرها الذي يغزو اذا غزت!
ان التأهيل لممارسة ارقى منجز مدني في تاريخ الحضارات وهو الديمقراطية ليست شبيها بالتأهيل لقيادة سيارة والحصول على رخصة بعد ايام قليلة، او التدريب على استخدام جهاز تكنولوجي حتى لو كان بالغ التعقيد.
ذلك لان التأهيل قدر تعلقه بانشطة انسانية مدنية وحضارية يتطلب شروطا تستخف بمن يحاول الاستخفاف بها.
ومن تخرجوا من حاضنات الانانية ومعاهد الخلايا الزواحفية كما يسميها علماء الاحياء لن يقبل احدهم الاخر الا اذا كان صدى له او ظلا، لهذا قد يثرثر ساعات بلا انقطاع عن حق الاختلاف وعن حرية التعبير واخيرا عن الديمقراطية والشفافية وما اشتق منهما من مصطلحات لا تصلح الا للعرض فقط.. لكنه ما ان يرتطم كوزه بجره حتى يشهر لسانه قبل يده لتهشيم كل الجرار، وما ان يتعرض لنقد لا يطال شخصه بقدر ما يطال مواقفه حتى يصرخ واذلاه لتغلب، وعندئذ لا ينفع اي مبعوث للامم المتحدة في ايقاف النزيف.
تلك هي الحكاية منذ البسوس رغم انها تحمل دكتوارة من السوربون ومنذ جبلة بن الايهم الذي يعد اطروحة في هارفارد عن حقوق الانسان!

مصر بين ثورتين

رشيد حسن
المتابعون للشأن المصري، يعتبرون هزيمة الفلول في انتخابات الرئاسة “ بموجب الارقام غير الرسمية حتى الآن “ وفوز “مرسي” مرشح الاخوان المسلمين ، تجديدا وانقاذا لثورة 25 يناير المجيدة، اذ انحاز الشعب المصري “لمرسي” ليس لانه اخوان ، بل لاسقاط الفلول، وهم يحاولون من جديد العودة الى الحكم ، واستنساخ تجربة مبارك وبصورة أكثر سوءا وظلاما .
تجديد الثورة ، أو انقاذها بعد محاولة اجهاضها ، يؤكد عدة معطيات أهمها: أن عقارب الساعة لن تعود الى الوراء ، وأن الشعب المصري لن ينحر ثورته بيده، وانه مصمم على التمسك بها، وتجذيرها في ارض مصر الطيبة، حتى تؤتي أكلها باذن الله، كرامة وحرية وعدالة اجتماعية.
ان استعراض الوقائع والاحداث في بر مصر، يؤكد أن القوى المعادية للثورة لم تسلم ، ولم ترفع الراية البيضاء، بل هي مستمرة في التأمر لاختراق الثورة، واجهاضها، تساعدها القوى العربية المتضررة من الثورة “ البترودولار” والقوى الدولية وعلى رأسها واشنطن والعدو الصهيوني ، الذي كان ينتظر لحظة فوز ممثل الفلول ليسكب الشمبانيا في شوارع تل ابيب، ومن تابع الصحف الاسرائيلية، يلاحظ أن أول المتضررين من الهزيمة ، هو العدو الصهيوني، فالفلول هم اتباع مبارك “الكنز الاستراتجي” لاسرائيل على حد تعبير بن اليعازر، الصديق الحميم للطاغية.
ان تجديد الثورة ، يفرض على الاخوان المسلمين اعادة دراسة تجربتهم من جديد، للاقلاع عن الاساليب القديمة القائمة على الاستحواذ والاقصاء ، كما اتضح خلال الفترة السابقة “ الاستحواذ على مجلس الشعب والشورى ولجنة الدستور” وان يستفيدوا من الدرس التونسي ، حينما رفضت “ النهضة” الاستئثار بالسلطة ، واصرت على مشاركة الاحزاب الاخرى، فانتخب ابن جعفر رئيسا للهيئة التأسيسية ، والمرزوقي لرئاسة الجمهورية، وكلاهما من الاحزاب القومية واليسارية.
فوز الاخوان بمنصب رئيس الجمهورية ، هي سابقة في تاريخ مصر وفي تاريخ المنطقة كلها، وهي بمثابة امتحان “للجماعة” ليخرجوا من حوصلة الحزبية وشرنقتها الضيقة، الى فضاء المواطنة الرحب، والاخوة الحقيقية ، والشراكة بين كافة ابناء الوطن لبناء مصر الحديثة، وهذا يتطلب من رئيس الجمهورية ان يبادر فورا الاتصال والتشاور مع كافة فعاليات الثورة، مع شبابها و مفكريها واحزابها، مع الرموز “حمدين وابو الفتوح” لتشكيل مجلس للرئاسة يضم ممثلين عن كل الاطراف ، وان يبادر بتعيين نواب لرئيس الجمهورية ، يمثلون الاقباط والمرأة والقوميين وشباب الثورة.
ان كل الانظار تتجه الى مصر ، تراقب وتعد كل شهيق وزفير للاخوان ، وهم يعرفون ذلك،ما يفرض عليهم أن تكون أعمالهم بمستوى الوطن والامة كلها ، وليس على مستوى الحزب والجماعة ، فعليهم ان يترجموا عملا لا قولا، العدالة والمساواة والمواطنة ، وان يحافظوا على الحقوق المكتسبة للمرأة المصرية في نضالها الطويل وعلى تكريس الدولة المدنية في كافة اعمالهم وقراراتهم، مستفيدين من تجربة “النهضة” في تشريع الدستور التونسي لاطفاء لهيب الفتنة ، وللتأكيد على ان مصر دولة مدنية، وليست دولة دينية.
مهمات صعبة وشاقة تنتظر الرئيس الجديد، أهمها أن يفي بما وعد به الشعب المصري ، باعادة محاكمة جنرالات الداخلية ، والحكم عليه بما يستحقون لتقر عيون الشهداء ، واستئصال بقايا الفلول والفاسدين ، واسترداد ثروة مصر المنهوبة ، وتوطيد الامن والاستقرار، وتوفير الحياة الكريمة للشعب المصري .
وعلى الصعيد العربي نأمل أن تعود فلسطين الى الصدارة ، وألاّ يتخلى الاخوان عن موقفهم المعلن، وألاّ ينحازوا لحماس على حساب غيرها، بل للقضية كلها ، للحق الفلسطيني ، لتحرير القدس والاقصى ، وعودة اللاجئين ، لدم شهداء الجيش المصري الذين استشهدوا من اجل فلسطين، ولتعود مصر الى وضعها الطبيعي في صدارة القوى المدافعة عن فلسطين العربية، وكافة قضايا الامة، في حق الشعوب في الحرية والكرامة وتداول السلطة ، رافضة التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية العربية ،واستعادة الجامعة العربية بعد ما تم خطفها من قبل الاخرين.
باختصار.....مصر امام مفترق خطير، والاخوان امام اخطر تجربة في حياتهم، نجاحها مشروط بترسيخ الدولة المدنية الحديثة.. دولة المواطنة لا دولة الرعايا ، دولة القانون والعدالة والمساواة والحرية والكرامة وتداول السلطة ، ما يفرض طي صفحة الحزبية والفئوية الضيقة ، واحترام ارادة الشعب المصري وارادة الثورة والثوار، والامتثال لشروط الديمقرطية ،التي اتت بهم ، والقادرة على استبدالهم، ان هم أساؤوا لها ولقيمها ومضامينها النبيلة، ولكل حادث حديث.

ارتهانات الثورة السورية بين الولايات المتحدة وروسيا

رضوان السيد
على أثر محادثات الرئيسين الروسي والأميركي على هامش قمة العشرين بالمكسيك، قيل إنّ الرئيسين توصلا إلى عدة نقاطٍ مشتركة تجنّب سورية الوقوع في الحرب الأهلية. والذي أراه أنّ ما اتفق عليه الرئيسان أو لم يتفقا لن يكون له أثرٌ في المدى المنظور. وذلك لأنّ الروس والصينيين لديهم عدة ملفات عاجلة مع الأميركيين، والثمن الذي يعرضونه ليس مغرياً؛ عندهم مسألة إيران والنووي، والجميع يلتقون على عدم تمكين إيران من إنتاج سلاح دمار شامل، لكنّ الروس والصينيين لا يريدون أن تُشنَّ الحربُ على إيران حتى لو قاربت إنتاج سلاحٍ نووي. وهذا ملفٌّ لا تستطيع الولايات المتحدة التنازُل فيه بعد أن جمعت الغرب كلَّه واليابان لحصار إيران. فإذا لم تتنازل إيران الآن في اجتماع موسكو عن التخصيب، فسيفشل الاجتماع أو يؤجَّل، وتقع روسيا والولايات المتحدة معاً في مأزق العجز عن التقدم أو التأخر. والملف الثاني هو ملفّ الدرع الصاروخي، الذي تعتبره روسيا تهديداً خطيراً لأمنها الاستراتيجي بعد أن نُصب من حولها في بولندا وتشيخيا وتركيا. وأوباما لا يستطيع التنازُل فيه الآن قبل الانتخابات، حتى لا يهيج عليه المحافظون ويجدوا حُججاً ضدَّه.
أمّا الملف الثالث العاجل، والذي تملك روسيا بالذات- لكنْ ليس وحدها- نصيباً وافراً فيه فهو نظام الأسد ومصيره. ولدى موسكو دوافع متناقضة للتقدم والتأخر. فالملف من جهة مثل قرن الآيس كريم الذي يتآكلُ إن لم يؤكل، وكلما ازدادت الثورة على النظام هناك وقاربت النجاح، تقلُّ إمكانيات موسكو في استخدامه. وهذا دافعٌ قويٌّ للدخول في صفقة مع أميركا من حوله أو خاصة به، فتُظهر أنها شريكٌ مُضارب، وإن لم يكن له أثرٌ مهمٌّ على أرض الأزمة. إنما هناك من جهةٍ ثانية دورها في الوساطة مع إيران، وهاجسها من الدرع الصاروخي، وهذا كلُّه يجعلها في مطمعٍ دائماً أن تتمكن من إجراء صفقة شاملة، لا تستطيعها الولايات المتحدة إلاّ بعد الانتخابات! ثم هناك “منظر” موسكو الاستراتيجي، وأنها شريكٌ كبيرٌ في المجال الدولي، وهذا مهمٌّ بالداخل وتجاه الجوار والخارج. وهناك من ينصح في هذا الصدد، ولأجل إظهار القوة الضاربة والاستراتيجية أن تبقى موسكو مع النظام السوري إلى النهاية مهما كلَّف الأمر. ومن الأدلة على ذلك، الأسلحة الكثيرة التي تُرسلُها إلى سورية، وإرسال مشاة البحرية لحماية قاعدتها في طرطوس، والاقتراح أن تكون إيران جزءًا من لجنة الاتصال أو المؤتمر الدولي بشأن الأزمة السورية!
إنّ هذا كلَّه يُرجِّحُ أن تحصُل مهادنةٌ بين الطرفين ولصالح الإثنين حتى مطالع السنة القادمة، فتبقى الأزماتُ على نارٍ هادئة دون أن تجد علاجاً. لكنّ منظر روسيا الاتحادية شديد السوء لدى الشعوب العربية، ولدى المسلمين في روسيا، ولدى الغرب الأوروبي. وهكذا فإنّ بوتين يريد زيارة الأراضي الفلسطينية لتحسين منظره لدى العرب. لكنّ العرب والإسرائيليين يعرفون أنّ موسكو – مثل الولايات المتحدة- تجد نفسها مسؤولةً عن أمن إسرائيل لأنّ عندها مليوني يهودي ذوي أصول روسية في إسرائيل. وعندما بدأت الثورة في سورية ذهب اليمين واليسار الإسرائيلي إلى روسيا، كما ذهبا إلى الولايات المتحدة، للتعبير عن قلق إسرائيل على مصير النظام السوري. ووقتها وجدا ترحيباً في موسكو أكثر من وشنطن! لكنّ الإسرائيليين الآن- وبعد أن يئسوا من إمكان بقاء النظام السوري- وجدوا مصلحةً في سقوطه لتأثير ذلك سلباً على إيران وحزب الله!
وهكذا؛ فإنّ لموسكو وواشنطن مصلحةً في تأجيل حلّ الأزمة ومن طريق المؤتمر الدولي ولجنة الاتصال وما شابه. ولذا فمن مصلحة الثورة والثوار للخروج من الارتهان الروسي- الأميركي تصعيد ثورتهم بالسلاح وبغير السلاح، وعلى دول الجامعة العربية (ودول الخليج من بينها على الخصوص) أن تقرر خطواتٍ جديدةً في دعم الثورة السورية.

الإخوان يحتلون مصر

حلمي الاسمر
تابعت لأيام خلت ما يجري في مصر، وتنقلت بين كل القنوات، ورصدت ما يجري في الفيس بوك وتويتر، وخرجت لكم بالنتائج التالية..
أولا/ يقال لي أنني متفائل بطبعي، رغم اني لا أؤمن لا بتفاؤل ولا بتشاؤم، بل أتسلح دائما بالأمل، وأؤمن بالإنجاز والعمل، وأسلم بقضاء الله عز وجل، فالخير دائما فيما اختار الله، لهذا افهم أن الإنتكاسات التي أصيب بها إخوان مصر ناتجة عن أخطاء ارتكبوها، مكنت أعداءهم من استثمارها على نحو ذكي، كي يظهروهم بصورة مغايرة لواقعهم تماما، بالأمس شاهدت المخرج السينمائي خالد يوسف يتحدث على التلفزيون المصري الرسمي، وشاهدت غيره من الضيوف، والمذيعين، وكانوا كلهم من لون واحد فقط، وهم من مناهضي الإخوان والتيار الإسلامي برمته، واستمعت لكثير من الأراجيف والأكاذيب والتخذيل والسخرية، وكان القوم يتحدثون عن مرسي والإخوان والمرشد، والتيار الإسلامي بكلام استشراقي مليء بالأكاذيب والإدعاءات، ولم يكن في الأستوديو أحد يدافع عن وجهة النظر الأخرى، وهذا نموذج حي لما يجري في إعلام مبارك، الذي لم يزل يتصرف بروحية الفلول، وحماية لحكم العسكر، وكل هذا يدل على أن رأس النظام قطع، لكنه لم يزل متجذرا في مؤسسات الدولة، وخاصة الإعلام والمنظومتين الأمنية والقضائية!
ثانيا/ أمام الإخوان وتيارات الثورة النظيفة التي لم تتلوث بفكر شيطنة الإخوان، وتصويرهم على أنهم جاءوا لاحتلال مصر (لا تحريرها) كما يقول المخرج «المبدع» خالد يوسف، أقول أمام هؤلاء مشوار طويل من السلوك النظيف المحسوب بميزان الذهب، كي يثبتوا أنهم أم «الولد» وليسوا مرضعته، أو أما بديلة، فالمرشد والإخوان، والإسلاميون جميعا كلهم مصريون، ولا يقلون حبا لمصر ولأمتهم عن أي من ابناء مصر الذين تترقرق عيونهم بالدمع حينما تذكر مصر او فلسطين، لكنهم لم يُمكنوا بعد من أن يعملوا، بسبب المقاومة العنيفة التي يجدونها من الفلول وأتباعهم الجهلة، الذي يرددون أكاذيبهم كالببغاوات!.
ثالثا/ ثمة فئة من معارضي الإخوان والإسلاميين، ترى أن حكم مرسي يهدد زجاجة الخمر خاصتهم، ويحد من ممارساتهم للرذائل والزنا، ويضع قيودا على فسقهم وفجورهم، لذا يدافعون عما يسمونه «مدنية الدولة» و»السياحة» وهم في أعماقهم يشعرون أن ملذاتهم الشخصية مهددة، وهم لا يختلفون كثيرا عن الفلول الحقيقيين، الذي يريدون الاستمرار في مص دم الشعب ونهب خيرات البلد بلا رقيب أو حسيب، كما هو شأن العسكر ومنظومة الأمن، التي تستأثر بنحو ثلث اقتصاد مصر!.
رابعا/ التيار الإسلامي هو الوحيد الذي لم تجربه شعوب هذه المنطقة، وهناك مقاومة عنيفة تقف في وجه صعوده، داخليا وخارجيا، لكنها ستتحطم كلها على صخرة إيمانه ووطنيته وقدرته على الاستماع لأنين الشعوب ومعاناتها، وهو منتصر بإذن الله، رضي من رضي وغضب من غضب، وهذا ليس بشعر أو مجرد أمان عذاب، بل استقراء للواقع والتدافع الحضاري!.

انقلاب الدستور

يوسف عبدالله مكي
بشكل مفاجئ أصدرت المحكمة الدستورية العليا في مصر حكما بحل مجلس الشعب الذي لم يمض على انتخابه أكثر من ستة أشهر. وقد اعتبر في حينه أول خطوة حقيقية على طريق التحول الديموقراطي بعد ثورة 25 يناير. وجاء في تعليل الحكم أنه بسبب وجود مواد غير دستورية في قانون انتخابات المجلس، تلحق الظلم بالأعضاء المستقلين، وتمنح الحق في دخول المجلس، على النظام الفردي للمنتمين للأحزاب السياسية، بما يأخذ من حصة المستقلين. وبالتزامن مع هذا القرار، صدر حكم آخر ببطلان عزل المرشح الرئاسي، أحمد شفيق، تحت ذريعة ارتباطه بالنظام السابق، بما يضيف لحملته الانتخابية قوة اعتبارية.
ومنذ اللحظة الأولى لصدور الحكم الدستوري بحل مجلس الشعب، أعلن رئيس المحكمة الدستورية أن الحكم أصبح نافذا، وبموجبه فقد مجلس الشعب قانونيته. وجاءت موافقة المجلس العسكري الأعلى على هذه الأحكام لاحقا لتحسم الجدل، ولتغلق أبواب مجلس الشعب، وتوضع مقراته تحت حراسة المؤسسة العسكرية.
وقد تباينت المواقف من هذه الأحكام تبعا للمصالح والاصطفافات السياسية. فبينما رأى فيها الإخوان المسلمون والقوى التي تحالفت معهم، ثورة مضادة وعودة إلى المربع الأول، وانقلابا على المنجزات التي حققها الحراك الشعبي، فإن أعضاء آخرين، مؤيدين للمرشح أحمد شفيق رأوا في هذه الأحكام خطوة صحيحة، لأنها ألغت هيمنة الإخوان المسلمين المطلقة على المجلس، ورفضت دستورية قانون العزل السياسي.
ولا شك أن هذه الأحكام جاءت في صالح المرشح أحمد شفيق، فقد مكنته من مواصلة حملته الانتخابية، وقدمت له دعما اعتباريا، هو أحوج ما يكون له. لكن المرشح الآخر الدكتور مرسي يمكنه أيضا الاستفادة منها، فقد أبرزت انحياز المؤسسة العسكرية الواضح ضده، بما يكسبه تعاطف الناخبين.
اللافت للنظر، أن هذه الأحكام صدرت قبل أيام قليلة من انتهاء انتخابات الإعادة، وتلك مسألة تثير الكثير من الإشكالات. نحاول في هذا الحديث أن نتلمس دوافع توقيت صدور الأحكام في هذا الوقت بالذات، ونتائجها المرتقبة. وفي هذا السياق نسجل بعض الملاحظات.
السؤال الذي يصدمنا يتعلق ابتداء، بحل مجلس الشعب، والانتخابات والنتائج التي أفرزتها. لماذا تأجل الطعن في دستورية هذه الانتخابات إلى ما بعد ستة أشهر من تشكيل المجلس؟ أو لم يكن من المنطقي أن تتأكد المحكمة الدستورية العليا من دستورية القوانين التي تجري على أساسها الانتخابات، قبل المباشرة فيها، ثم يصار إلى إجرائها؟.
وهنا تقتضي القراءة، التنويه بأن أكثر المتفائلين، لجهة الإخوان المسلمين، لم يتوقعوا الفوز الساحق للجماعة في انتخابات المجلس. وقد كشفت تلك الانتخابات عن خواء سحيق وتجريف كبير وواسع للعمل السياسي، بحيث لم تبق في الساحة المصرية من قوى سياسية حقيقية منظمة سوى جماعة الإخوان. ولذلك اضطرت بعض القوى الوطنية والقومية للتحالف معهم وإبرام صفقات غير متكافئة لمساعدتهم على الوصول، ولو بشكل جزئي إلى المجلس. وقد قبل هؤلاء بالحصول على القليل من التفات، سواء بالانحياز للمؤسسة العسكرية أو بالانحياز نحو الإخوان.
كان من أحد النتائج الرئيسية لهذه الانتخابات، أن المشهد السياسي المصري أصبح محكوما بثنائية الجيش والإخوان. وهو أمر ربما يكون مقبولا لدى المؤسسة العسكرية، لو أن جماعة الإخوان اكتفت بالوصول إلى المجلس، ولم تحاول الوصول إلى أعلى مركز للسلطة في البلاد، مركز رئاسة الجمهورية.
واقع الحال، أن الوضع أصبح خطيرا بالنسبة للمجلس العسكري، بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية بفرز مرشحين فقط من أصل ثلاثة عشر مرشحا، هما مرشح حزب الحرية والعدالة، الاسم السياسي للإخوان المسلمين، الدكتور أحمد مرسي واللواء أحمد شفيق الآتي من المؤسسة العسكرية. ولأن المتوقع هو أن يمنح مؤيدو الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح أصواتهم لمرشح الإخوان المسلمين، بعد أن أعلن هو نفسه عن نيته التصويت لصالح الدكتور مرسي. يضاف إلى ذلك أن نسبة كبيرة من الذين صوتوا للمرشح حمدين صباحي، ومجموعات 6 أبريل وخالد سعيد، ستذهب أصواتهم في انتخابات الإعادة لصالح مرسي، فإن ذلك يرجح فوزه وتسلمه لموقع رئيس الجمهورية، وخروج شفيق من حلبة الانتخابات الرئاسية بخفي حنين.
ذلك يعني، أن الإخوان المسلمين، إذا لم يقم العسكريون بحركة التفاف سريعة حولهم، سيسيطرون على كافة مناحي الحياة السياسية المصرية. فسيتربعون على عرش مجلس الشعب وموقع رئاسة الجمهورية، ويتولون من خلال موقعهم، صياغة دستور مصر، وفقا لمنطلقاتهم السياسية والعقدية، وهو ما لا يمكن أن يقبل به المجلس العسكري الأعلى.
إن الأحكام التي أصدرتها المحكمة الدستورية العليا، أعادت الكرة إلى المجلس العسكري، ومكنته من تحقيق عدة أهداف في آن واحد. فالإخوان لن يعودوا بعد هذا القرار اللاعب الرئيسي في الساحة السياسية المصرية. وقد استفادت المؤسسة العسكرية من بقائهم بالمجلس في الأشهر الماضية، حيث عرّت قدراتهم على مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية التي تمر بها مصر. وقد اهتموا أثناء وجودهم فيه بأمور هامشية، خارج اهتمامات المواطن المصري، وعبرت عن انحياز أيديولوجي أعمى لأفكارهم. ولن يتمكنوا في حالة إجراء انتخابات نيابية جديدة من تحقيق نصر كاسح كالذي حققوه بالدورة التي حكم دستوريا بعدم شرعيتها.
وما سيتبقى لهم، سيكون منصب رئاسة الجمهورية، إن سارت الأمور بالاتجاه الذي نتوقعه، منصبا بصلاحيات محدودة جدا، يمنحها العسكريون له. وسيكون الرئيس تابعا وخاضعا للمجلس العسكري في طقوسه وممارساته. فالقسم الذي يؤديه الرئيس المنتخب سيكون أمام المجلس الذي يضطلع بالدور التشريعي والتنفيذي في آن معا. وقد أعلن عن تعديلات دستورية تصب جميعها في صالح هيمنة المجلس العسكري. وحتى إذا تمت كتابة الدستور المصري مجددا، فستكون بإشراف وسيطرة المجلس العسكري، ولن تشكل بأي حال من الأحوال حدا أو تقليصا لسلطاته.
سوف تستمر لعبة القط والفأر بين الإخوان والجيش. وسيكون الإخوان أمام أمرين أحلاهما مر. إما القبول بهيمنة المؤسسة العسكرية، على السلطة في مصر كما كانت منذ 23 يوليو عام 1952م، أو التحدي والقبول بمواجهة مع العسكر، ربما تعيد مجددا إلى المشهد السيناريو الجزائري بين العسكر وجبهة الإنقاذ، أو على الأقل تستحضر صورة الصراع الذي حكم العلاقة بين الإخوان والسلطة في مصر طيلة العقود الستة الماضية، وذلك أمر لن يطول بنا المقام حتى تتضح معالمه.

لا ديموقراطية بلا ديموقراطيين

عبدالله اسكندر
المشهد الذي انتجه الاقتراع الرئاسي في مصر يظهر أن الطبقة السياسية بكل تشكيلاتها ليست مهيأة لاحترام حتى الشكل في الانتقال السلمي إلى حياة ديموقراطية، وإن ما عانته البلاد في ظل النظام السابق لم يشكل حافزاً للنظر في أساليب العمل.
وقد يكون الصراع حالياً يُختصر في المواجهة بين جماعة «الإخوان المسلمين» والمؤسسة العسكرية، واللتين أظهرتا كل على طريقتها بعداً كبيراً عن الممارسة الديموقراطية. لكن في الوقت نفسه لم تظهر القوى التي تسمى ليبرالية ومدنية تعلقاً بهذه الممارسة.
وحتى الاقتراع الرئاسي نفسه بدا، خصوصاً في أوساط هذه القوى التي يفترض أن تحمل لواء الممارسة الديموقراطية، وكأنه عملية ثأر من نظام طويت صفحته وليس نقطة انطلاق لبناء جديد. فمن اعلن من هذه القوى تأييداً صريحاً لمرشح «الإخوان» محمد مرسي أو مرشح المؤسسة العسكرية الفريق احمد شفيق برر هذا التأييد بالرغبة في التخلص من الآخر وليس بقناعة سياسية تستند إلى رؤية برنامجية. ومن المتوقع، إذا لم تحصل مفاجأة جديدة كبيرة اعتادت مصر على مثلها منذ تنحي الرئيس حسني مبارك، لن يكون لهذه القوى موقع خاص لتجد نفسها ملحقة بأحد طرفي الصراع، وربما وقوداً له كما حصل في البرلمان المنحل ومشكلة اللجنة الدستورية.
هكذا تحد هامشية هذه القوى من التأثير السلبي الكبير على الحياة الديموقراطية، والذي تتركه ممارسات المجلس العسكري و»الإخوان». من دون أن يعني ذلك أعفاءها من مسؤولية انحصار الصراع بين هذين الطرفين، بعدما اختار كل منها الالتحاق بأحدهما.
العرض الإعلامي الذي قدمه مرسي ومعه كل الآلة الإعلامية لـ «الإخوان»، غداة الانتخاب وقبل أن تأخذ عملية الفرز وظهور النتائج على نحو قانوني، يكشف مدى الشبق للسلطة فحسب. فلم يظهر أن الرجل الذي ألقى «خطاب تنصيب» اكثر من كونه يعلق على اقتراع لم تظهر نتائجه بعد، مهتم سوى بتثبيت فوزه. فلم يحترم الآلية المحددة قانوناً، ولم يحترم أصول اللعبة الديموقراطية. فهو قال انه تقدم على منافسه بنسبة 2 إلى 3 في المئة، ما يعني أن نصف المقترعين انتخبوا منافسه. فضرب بعرض الحائط تطلعات هذا النصف ومشاعره، من دون أي حساب. وعندما يتخلى السياسي عن رأي خصمه وتعبير أنصاره في صندوق الاقتراع يضرب الركن الأساسي في العملية الديموقراطية.
هذا اضافة إلى معضلة أساسية تتمثل في أن مرسي مرشح تنظيم حديدي يقوده مرشد عام، ويستمد شرعيته السياسية منه، قبل الاقتراع وبعده. لتحل شرعية فرد محل شرعية الاقتراع الشعبي. بما يضرب ركناً أساسياً آخر من الديموقراطية.
أما القطب الآخر في الصراع، المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذي يستمد شرعيته من تسمية مبارك له، قبل تنحيته، أي من دون أي تفويض شعبي وديموقراطي مسبق، فاعتمد «المظهر» الدستوري من اجل تثبيت هذه الشرعية وأعطى لنفسه حقوقاً تفوق أي حق عن شرعية الاقتراع. وما الإعلان الدستوري المكمل إلا تقييد لحرية الرئيس المنتخب. وربما وضع هذا الإعلان على قياس توقع نتيجة الاقتراع الرئاسي ووصول مرسي إلى المنصب. على نحو يطوق الرئيس الجديد ويلغي شرعيته الانتخابية.
هكذا، يتخذ الصراع في مصر مظهر الممارسة الديموقراطية. لكن حصيلة هذه الممارسة تعود لتخضع لرغبات الاستئثار بالحكم، ما ينفي وجود ديموقراطيين يحمون الممارسة الديموقراطية.

روسيا لن تحطم بيديها نموذجها السوري

غازي دحمان
المواقف التي طرحها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمره الصحافي الشهير، والتي تبنى عبرها رؤية، أو مزاعم النظام السوري للحدث، بل وزاد عليها، تعكس الصورة الحقيقية لمبادرة الحل التي تقترحها روسيا للأزمة عبر ما يسمى «مجموعة الاتصال»، والتي يراد لها أن تضم إضافة إلى بعض القوى الإقليمية والدولية، إيران حليفة النظام العضوية وأكبر داعميه ومموليه بالسلاح والرجال والمال، والمدافعة حتى حدود الاستماتة عن بقائه واستمراره.
التقديرات بهذا الخصوص ذهبت إلى مطارح سياسية يمكن من خلالها تصريف المواقف الروسية بالمنطوق السياسي الذي يحكم سلوك الكيانات السياسية عظيمها وصغيرها، والتي ترتكز على الجدوى السياسية ومبدأ الممكن ودراسة الفرص والمخاطر واللعبة السياسية ومناوراتها، وعليه فقد ذهب الكثير من التفسيرات إلى اعتبار أن روسيا تفتح باب المساومة في المسألة السورية انطلاقاً من قراءتها لمعطيات المشهد السوري الجديدة، وأنها في تشددها المعلن إنما تسعى إلى تقوية أوراقها الإستراتيجية في ملف راهنت عليه كثيراً، وفي ظل اشتراطات تفاوضية صعبة فرضتها عليها كل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، تكاد أن تفقدها هيبتها ومكانتها.
ويذهب تحليل آخر إلى أن مرد التشدد البادي في الخطاب الروسي، محاولة لطمأنة النظام السوري، وبعض القوى المؤثرة بداخله، إلى مدى مساندتها، وذلك بهدف جر قدم النظام إلى العملية السياسية والتفاوض، وبذلك يمكن إحالة الخطاب السياسي الروسي إلى كونه مجرد إعلان نوايا تجاه النظام، وبخاصة بمضامينه المدافعة عن الأقليات وتبرئته للنظام من كل الجرائم المقترفة.
ولا يخرج عن هذا السياق اشتراط وجود الطرف الإيراني باعتباره شريك النظام وسنده الإقليمي، على اعتبار أن ذلك من شأنه تشكيل شبكة أمان للنظام قد تسهم في تشجيعه على الدخول في العملية السياسية المنتظرة.
تتأتى قوة هذا النمط من التحليل السياسي بارتكازه إلى قاعدة شهيرة في العلاقات الدولية تعتمد تغليب مبدأ حسن النوايا في سلوك الأطراف الدولية المختلفة، وكذا الارتكان إلى عقلانية ومسؤولية السلوك السياسي لدولة عظمى ومسؤولة بحجم ومكانة روسيا، وبالتالي فإن منطق المغامرة والمناورة بمعناها السلبي يصبح غير وارد.
غير أن السلوك الروسي في سياق الأزمة السورية تعرض لامتحانات عدة، ولم تكن النتائج إيجابية، بحيث يظهر أن ما تمارسه الديبلوماسية الروسية يمثل إستراتيجية وليس تكتيكات سياسية، كما بدت واضحة محاولات توظيف الأزمة السورية في سياق صراع المصالح والنفوذ الذي تخوضه موسكو مع الغرب، وتكمن الإشكالية في هذا الإطار في حقيقة أن حزمة المطالب التي ترفعها روسيا في مواجهة منافسيها وخصومها كبيرة تشمل مكانتها الميدانية في منطقة الشرق الأوسط ومكانتها السياسية ونفوذها في مجلس الأمن، وكذلك علاقاتها الثنائية مع الولايات المتحدة، والتي يمكن تحقيقها عبر تنازلات غربية في خصوص «الدرع الصاروخية» التي ترى أنها تفقدها قدرة الردع النووية، وتسعى لإبرام معاهدة شراكة استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي تشمل إلغاء تأشيرات الدخول لمواطنيها، وكذلك منحها تسهيلات إضافية في إطار منظمة التجارة الدولية، أو تخفيف الدعم الأخلاقي والسياسي الغربي للحركة الاحتجاجية في روسيا.
وما يرفع منسوب الشكوك في السلوك الروسي في طرحه لفكرة مجموعة الاتصال الإصرار على إشراك الجانب الإيراني، ذي السلوك التخريبي في المنطقة والذي ينسب إليه إسهامه الكبير ويشكل مقصود في تطييف الواقع الاجتماعي في المشرق العربي وتخريب التعايش السلمي في المنطقة وإشعال نار الفتنة بين مكوناته والتي اتخذت من العراق ولبنان مراكز انطلاق لها، وتهديد الخليج العربي عسكرياً بشكل واضح وصريح، وهو ما لا يمكن معه فهم الإصرار الروسي على إشراك إيران إلا أنه إما محاولة لإعادة تأهيل إيران وتبييض صفحتها عبر إظهارها كطرف شريك في حل الأزمات وصنع السلام في المنطقة، أو محاولة لشرعنة تدخلها في شؤون المنطقة عبر موافقة دولية صريحة، بما يضمن إعادة صياغة هذا التدخل في إطار الشرعية الدولية ومقتضياتها.
لا يوجد تحت عباءة الدب الروسي ما يخفيه، إذ أن مقاصد روسيا يفضحها سلوكها اللاأخلاقي تجاه الثورة السورية، والواضح أن الهدف من طرحها مبادرة مجموعة الاتصال، عدا عن كونها محاولة بائسة لإعادة ضخ الحياة في شريان النظام السوري الميت سريرياً سوى من قدرته على القتل، محاكمة العالم عبر سجالات منبرية تهدف إلى إعادة تأهيل المنظومة الأيديولوجية الروسية وتبييض سمعة روسيا التي تلطخت بدماء الأبرياء في أكثر من مكان في العالم، وتغيير الصورة النمطية عن ديموقراطيتها الكاريكاتورية، ومحاولة إثبات أنها ديموقراطية مفيدة للاستقرار العالمي، باستثناء هذه الأهداف الرخيصة، لا تحمل المبادرة الروسية أي إمكانية للحل في سورية، إذ من المستحيل أن تقدم موسكو على حل يفضي إلى إخراج بشار الأسد من حكم سورية نتيجة ثورة شعبية، لا لشيء بقدر كونه يمثل انعكاساً لديموقراطية النخبة الروسية، وهذه قمة المصالح الروسية غير المرئية للعالم.
لا شيء في دمشق يوحي بأن النظام يتهيأ لمرحلة تفاوضية، ولا يبدو أن قنوات الاتصال مع موسكو قد حملت مثل هذه الأخبار. النظام الذي يمارس مهنة القتل المتنقلة لم ينقطع يوماً عن القيام بهذه الوظيفة، فهل بسلوكه هذا يساعد حليفه الروسي في تسهيل مهمته التفاوضية؟ يجب أن لا تغرينا عبارة من هنا أو هناك تخترق الخطاب السياسي الروسي عن الواقعية التفاوضية والسعي إلى التغيير السلمي والانتقال الديموقراطي، فتلك مجرد واجهات لسياسة تميزت بالوضاعة واللاأخلاقية، ولا تعدو أن تكون مجرد فخاخ يتم نصبها للعالم على الأرض السورية.

مصر..نصف انقلاب ونصف رئيس ونكسة ثورة

محمد شومان
دخلت مصر مرحلة جديدة من الغموض وعدم الاستقرار، أهم ما يميزها العودة لنقطة البداية في الفترة الانتقالية، التي كان يفترض الانتهاء منها نهاية الشهر الجاري، بعودة الجيش إلى ثكناته، وتسليم السلطة لرئيس منتخب، لكن الجيش لن يعود، بل إن دوره يتضخم حتى لو أعلن غير ذلك!
مع حلِّ المحكمة الدستورية للبرلمان ذي الغالبية الإسلامية، ومشاكل تأسيسية الدستور، عادت السلطة التشريعية للعسكر، وبدأت مصر فترة انتقالية ثانية غامضة لا يعرف أحد متى تنتهي، والمفارقة أنها تجري في ظل وجود رئيس منتخب سيكون على الأرجح من «الإخوان»، وإعلان دستوري مكمل أصدره المجلس العسكري ليقلص صلاحيات الرئيس، ويقنن ولأول مرة في تاريخ مصر انفصال الجيش عن مؤسسة الرئاسة، وتحوله إلى سلطة رابعة، لا تخضع لأي رقابة، بل وحقه في الاعتراض على لجنة كتابة الدستور والمواد التي تقترحها.
المشهد في مصر بالغ التعقيد والتشابك، والتطورات متلاحقة وليسمح لي القارئ أن أشاركه بعض الملاحظات لعلها تفيد في محاولة تفكيك هذا المشهد المأسوي والوقوف على تفاصيله والعوامل المؤثرة فيه:
1- كان لارتباك وضعف الأداء السياسي والتنظيمي للقوى المدنية وشباب الثورة تأثيره الكبير في زيادة الدور السياسي للقوى الإسلامية والعسكر، وقد تحالف الطرفان لتمرير الاستفتاء على تعديلات الدستور وإصدار الإعلان الدستوري وفرض الانتخابات البرلمانية قبل الدستور، والتي فاز بها الإسلاميون، ولكن قرار «الإخوان» خوض معركة الرئاسة أدَّى إلى غضب العسكر ونهاية شهر العسل الذي جمعهما على حساب بقية القوى، بل وعلى حساب سلامة إجراءات المرحلة الانتقالية، فقد أدركت الدولة العميقة بقيادة الجيش ورجال الأعمال وما تبقى من الحزب الوطني خطر هيمنة «الإخوان» على سلطات الدولة، وترفض القوى المدنية وشباب الثورة تلك الهيمنة، إلا أنها ظلت في معظمها بعيدة من العسكر ورموز النظام القديم الذي تجمع حول المرشح أحمد شفيق.
2 - أدى فوز «الإخوان» بالبرلمان إلى تحول كبير في استراتيجيتهم من المشاركة إلى المغالبة، والسعي الجامح وغير المتعقل للسلطة والانفراد بالقرار في تشكيل تأسيسية الدستور، ما عمق من أزمة الثقة بينهم وبين العسكر من جهة، وبينهم وبين القوى المدنية وشباب الثورة من جهة ثانية. وخسر «الإخوان» كثيراً من رأسمالهم الرمزي وسمعتهم الطيبة بين الناخبين نتيجة الأداء المتواضع والمتعثر للبرلمان، والذي عكس نقصاً في الخبرة والقدرة على استخدام الآلة التشريعية لحماية الثورة وتحقيق أهدافها، ولعب الإعلام دوراً مهماً في اغتيال صورة الإسلاميين وتضخيم أخطاء البرلمان وسلوكيات بعض نوابه.
3 - خلال الأشهر الماضية بلغت الأزمة في مصر مرحلة الانفجار، وتوقع الكثيرون حدوث انقلاب عسكري نتيجة توتر العلاقة بين البرلمان وحكومة الجنزوري والعسكر، وتعثر كتابة الدستور، وفوضى وارتباك إجراءات الترشح للرئاسة، والأهم تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في ظل ثورة تطلعات مشروعة وحراك سياسي، لكن الانقلاب لم يحدث، فعسكر الطنطاوي غير عسكر عبدالناصر 1954، فالزمن مختلف والظروف أيضاً، كذلك فإن «الإخوان» والقوى الإسلامية عجزت عن فرض إرادتها، كما أن قوى الثورة لم تنجح في حسم الأمور على الأرض لصالحها، وهكذا تعايشت الأطراف الثلاثة: «الإخوان» والعسكر وشباب الثورة، مع الأزمة بكل تناقضاتها، إلى أن جاء حكم المحكمة الدستورية العليا بحل البرلمان وعدم دستورية قانوني الانتخابات والعزل والذي كان يفترض أن يحرم شفيق من خوض معركة الرئاسة.
4- يمكن القول إن حكم الدستورية هو انقلاب ناعم دبره العسكر استناداً إلى القانون وإجراءات التقاضي الطبيعي، إلا أن سرعة البت في القضية تؤكد الطابع السياسي للأحكام، والتي بمقتضاها عادت سلطة التشريع للمجلس العسكري قبل أيام قليلة من تسليمه السلطة التنفيذية للرئيس المنتخب. لكنها عودة قلقة ومثيرة وربما تفتح الطريق لتوحيد صفوف «الإخوان» وشباب الثورة والقوى المدنية ضد العسكر، لأن حل البرلمان قضى على الكيان السياسي الوحيد المنتخب، وصاحب الشرعية، ومنح سلطة التشريع للمجلس العسكري غير المنتخب والذي يفتقر إلى الشرعية والمشروعية، فالمجلس حاز كل السلطتين التشريعية والتنفيذية بقوة الأمر الواقع واستناداً إلى الشرعية الثورية التي وقف إلى جانبها ضد مبارك في شباط (فبراير) 2011، لكن شرعية المجلس تبخرت نتيجة الأخطاء الهائلة التي ارتكبها خلال المرحلة الانتقالية، والتي أدت إلى حصار الثورة والثوار، والإبقاء على دولة مبارك. من هنا ظهر المجلس العسكري في صورة الطامح للسلطة والراغب في الاستمرار في العمل السياسي.
5- إذا تأكد فوز مرشح «الإخوان» محمد مرسي فسيكون بمثابة رد قوي على الانقلاب الناعم للعسكر، بل إن هذا الفوز سيحوله إلى مجرد نصف انقلاب! وإذا كان فوز مرسي قد شكل مفاجأة للعسكر، لكنه أكد احترامهم للصندوق وحرصهم على عدم التدخل في نزاهة الانتخابات، وكان المجلس العسكري قد استبق إعلان نتيجة السباق الرئاسي بإصدار إعلان دستوري مكمل قلص فيه صلاحيات الرئيس، ومنح لنفسه كثيراً من السلطات، جعلت منه وصياً على كتابة الدستور، ما أكد التوجه العام نحو عسكرة الدولة، فالمجلس العسكري يحوز القوة الفعلية على الأرض، وسيظل في الحكم حتى كتابة دستور وانتخاب برلمان جديد، ولا شك في أن احتكار كل السلطات وعدم الفصل بينها يعرقل عملية التحول الديموقراطي ويؤزم الساحة السياسية، ويؤكد أن بدايات المرحلة الانتقالية الجديدة قد لا تكون صحيحة.
6- يبدو أن مصر بعد الثورة، وليست مصر الثورة، على موعد مع رئيس ينتمي لـ «الإخوان»، ومجلس عسكري يمثل الدولة، ما يعني أن ثنائية الدولة و «الإخوان» مستمرة، والصدامات الدموية والصفقات المريبة مستمرة أيضاً! الدولة – الجيش كانت ممثلة في عبدالناصر وصولاً لمبارك، و «الإخوان» هم «الإخوان»، بتنظيمهم الحديدي وآلية السمع والطاعة والخلط المريب بين الدعوي والسياسي، والإشكالية أن تلك الثنائية تحاصر الناخب المصري، وتحاصر الثورة، بينما شباب الثورة والقوى المدنية غير قادرة على بلورة بديل ثالث أو الالتفاف حول زعيم قد يكون البرادعي أو حمدين صباحي. في هذا السياق يرى البعض أن حل البرلمان وبقاء العسكر والإعلان الدستوري سيحول دون توغل «الإخوان» وهيمنتهم على الدولة والمجتمع، ما يفيد القوى المدنية ويسمح لها بتنظيم صفوفها لخوض انتخابات البرلمان الجديد. ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك حيث يرون أن عودة سلطة التشريع للعسكر تضمن مدنية الدولة، وتحقق قدراً من التوازن بين السلطات.
7- تؤكد موازين القوى على الأرض، والاعتبارات الإقليمية والدولية، أننا لن نكون إزاء سلطة في مصر برأسين، رئيس وجيش ينشب بينهما صراع، وإنما رئيس منزوع السلطات والصلاحيات، وبلا أوراق للضغط. صحيح أنه رئيس شرعي منتخب، بل هو أول رئيس مدني في تاريخ مصر الجمهورية، لكن جماعة «الإخوان» لن تتمكن بمفردها من الضغط على العسكر وحشد القوى السياسية والشارع لتمكينه من ممارسة سلطاته بموجب الإعلان الدستوري، فأزمة الثقة بين «الإخوان» والقوى المدنية وشباب الثورة كبيرة، ويصعب تجسيرها، بخاصة أن بعض القوى الثورية تطالب «الإخوان» بمنع مرسي من تولي الرئاسة وتأدية القسم، إلا بعد إلغاء العسكر للإعلان الدستوري المكمل، وهو إجراء لن تقدم عليه الجماعة، فهي تتجنب الصدام مع العسكر، وقد اتسم رد فعلها على حل البرلمان بالهدوء وضبط النفس. من هنا يتوقع أن يسعى «الإخوان» لعقد صفقة جديدة مع العسكر لتقاسم السلطة.
هكذا تخطو مصر الدولة و «الإخوان» في شكل متعثر نحو صيغة لتقاسم السلطة تأخذ بعض ملامح النموذج التركي - قبل أردوغان - والنموذج الباكستاني، فعسكر مصر ليسوا علمانيين مثل جنرالات أتاتورك، لكنهم أقرب إلى إسلام برويز مشرف. وهم معنيون بالحفاظ على مكاسبهم الموروثة من ثورة 1952، وعدم محاسبتهم على أخطاء المرحلة الانتقالية، أما مصر الثورة فستظل حائرة ومحبطة بين مسارات ما بعد انتخابات الرئيس، وفي انتظار موجات ثورية تحقق أهداف الثورة في العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية، والأغلب أن «الإخوان» والعسكر لن يتمكنا من تحقيق تلك الأهداف في المدى المنظور، وبالتالي فإن الإحباط الاجتماعي والشعور بخيبة الأمل بعد ثورة تطلعات هائلة سيفجران الأوضاع غير المستقرة التي ستعيشها مصر في الشهور المقبلة.

ضبابية سياسية فلسطينية

فايز رشيد
أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس من باريس في المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، عزم السلطة الفلسطينية التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لطلب وضع دولة غير عضو لفلسطين بسبب عدم التمكن من الحصول على اعتراف كامل في مجلس الأمن.
ما قاله رئيس السلطة يتعارض مع ما كان عباس يريد فعله قبل نحو عام: التوجه لمجلس الأمن للحصول على عضوية كاملة لفلسطين في الأمم المتحدة.
وبسبب من التقصير في الأصوات في المجلس (8 بدلاً من 9)، أعلن أبومازن أن السلطة ستتوجه إلى الأمم المتحدة لحسم هذا الأمر، وستكون فلسطين الدولة رقم (194) في الأمم المتحدة، وأضاف قائلاً: وفي حالة فشل هذا الهدف، فستقوم السلطة بحل نفسها.
ما الذي استجد حتى يغير رئيس السلطة توجهاته السياسية بالقبول بعضوية غير كاملة لفلسطين، في الوقت الذي عارضت فيه ذات السلطة الضغوط الكبيرة، وبخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية ودول السوق الأوروبية المشتركة للقبول بعضوية منقوصة على غرار الفاتيكان وسويسرا؟ من الواضح أن الرئيس عباس يتراجع عن الطلب من عضوية كاملة إلى دولة غير عضو. أبو مازن أيضاً تراجع عن حل السلطة وهو الذي وعد باتخاذ خطوات من قِبَل السلطة الفلسطينية ستعمل على تغيير وجه المنطقة، ثم لم نسمع عن اتخاذ أي خطوة تغييرية من تلك التي وعدت بها السلطة. في ذات السياق، تأتي اشتراطات الرئيس الفلسطيني بالنسبة إلى الاستيطان، فهو الذي وعد بعدم الدخول في مفاوضات مع “إسرائيل” في ظل الاستيطان، ثم عاد وتراجع عن ذلك في مفاوضات عمّان التي جرت مع “إسرائيل” في جولات عدة وسميت “بالاستكشافية”، ثم التراجع جاء أيضاً في ما عرف ب “مفاوضات الرسائل”. هذه التراجعات والانحسارات هي دليل ارتباك سياسي فلسطيني. بمعنى آخر، فإن السلطة الفلسطينية عاجزة عن السير في التكتيك السياسي الصحيح. وكدليل أيضاً على هذا الارتباك أنه في الوقت الذي وسّع فيه نتنياهو من قاعدة ائتلافه الحكومي لتصبح بأغلبية (94 نائباً من أصل 120) فإن رئيس السلطة قام بتشكيل حكومة جديدة بدلاً من حكومة ائتلاف تنفيذاً لاتفاق القاهرة للمصالحة الفلسطينية، الأمر الذي جعل معظم الفلسطينيين عديمي ثقة بكل اتفاقيات المصالحة التي يجري توقيعها.
في ظل عدم الوضوح السياسي الفلسطيني، فإن الوضوح في أعلى درجاته يتمثل في ما يتخذه نتنياهو من قرارات وبخاصة في موضوع الاستيطان, فبالنسبة إلى البؤر الاستيطانية (التي بناها المستوطنون الصهاينة بعيداً عن المخطط الاستيطاني للحكومة “الإسرائيلية”)، وعد رئيس وزراء العدو بأنه ومقابل كل بؤرة استيطانية ستزال فإنه سيقوم ببناء عشرة مبانٍ استيطانية في المستوطنات القائمة في الضفة الغربية، وبالفعل (وفي يوم الأربعاء 6 يونيو/ حزيران الحالي) ألحق نتنياهو قرار الحكومة السابق ببناء 300 بيت استيطاني في مستوطنة بيت إيل، ببناء 551 بيتاً استيطانياً آخر في خمس مستوطنات ليرتفع بذلك عدد البيوت التي أقرّها تحت ستار زوبعة إخلاء خمسة مبان سكنية إلى 851 بيتاً. وقد وصف نتنياهو هذا القرار باعتباره تعويضاً لعصابات المستوطنين الإرهابية عن قرار الحكومة الانصياع لقرار محكمة “إسرائيلية” بإخلاء خمسة مبانٍ في البؤرة الاستيطانية.
الضبابية السياسية الفلسطينية تنطبق أيضاً على الارتباك السياسي الذي أبدته السلطة في ما يتعلق بتصريح الرئيس الأمريكي أوباما أمام زعماء الاتحاد الأرثوذكسي اليهودي في الولايات المتحدة (وقد اجتمع بهم في مكتبه البيضاوي في البيت الأبيض)، عن رئيس السلطة بأنه ليس معنياً باتفاق سلام مع “إسرائيل”. ما إن بدأت الصحف “الإسرائيلية” في تداول هذا التصريح الأسبوع الماضي حتى سارع مسؤول ملف المفاوضات في السلطة الفلسطينية إلى نفي هذا التصريح جملة وتفصيلاً (بدأ عريقات مؤلف كتاب: الحياة مفاوضات، في تصريحه وكأنه المتحدث الرسمي باسم الإدارة الأمريكية وباسم أوباما شخصياً). يومان فقط مضيا على تصريح عريقات حتى قام أمين عام الرئاسة الفلسطينية الطيب عبدالرحيم، ليصرّح: “إن الرئاسة تحذّر من تكرار سيناريو التخلص من الرئيس الراحل ياسر عرفات”، ملمحاً بالطبع إلى تصريحات أوباما تلك التي تصب في السياق.
بدلاً من كل هذا الارتباك السياسي الذي تبديه السلطة الفلسطينية في أكثر من قضية، فإن السلطة مطالبة بنزع الأوهام من عقول قادتها بإمكانية جنوح “إسرائيل” إلى السلام، وبخاصة بعد أن أثبتت الإحصاءات أن “إسرائيل” سرقت ما نسبته 78% من أراضي المناطق المحتلة عام، 1967 لتصبح نسبة ما سرقته من مساحة أراضي فلسطين التاريخية 85% بمعنى أن لا مجال لحل الدولتين (فلا دولة فلسطينية قابلة للحياة على مساحة صغيرة)، والسلطة مطالبة أيضاً بإلغاء نهج المفاوضات مع “إسرائيل” وعدم المراهنة على (حيادية) الولايات المتحدة واعتماد نهج المقاومة المسلحة ضد الكيان الصهيوني.

حين يعي الإسرائيلي

أمجد عرار
مشكوك في أن المواطنين الروس، بمن فيهم اليهود، يعرفون الظروف التي يعيشها أصدقاؤهم الذين صدّقوا الدعاية الصهيونية وهاجروا للاستيطان في فلسطين المحتلة. في نهاية الثمانينات، حين كان الاتحاد السوفييتي يتهاوى تحت وطأة “إصلاحات” غورباتشوف، استغلت “إسرائيل” والحركة الصهيونية الظروف الصعبة في تلك البلاد وعبثت بعقول يهود أوروبا وبخاصة اليهود السوفييت كي يهاجروا إلى بلاد “السمن والعسل”، وكان أقصى ما بدر من مواقف خجولة من قادة الامبراطورية المتهاوية، أن اشترطوا عدم توجه المهاجرين إلى الأراضي المحتلة عام ،1967 وأذكر حينها نقاشاً حاداً جرى بين رأيين في الكيان الصهيوني، الأول رأى ضرورة الموافقة على الشرط السوفييتي، والثاني رأى خلاف ذلك. وفيما ردّد إسحاق شامير أن “إسرائيل” كبرى بحاجة إلى هجرة كبرى، رافضاً أية شروط على مكان توجه “المهاجرين” الذين لم يكونوا يهوداً فقط بل كان بينهم مسيحيون، استشاط شمعون بيريز غضباً واضطر للبوح بما لم يعتد عليه، فراح يقول إنه ليس بوسع أحد أن يتابع مسار المهاجر إن كان سيذهب إلى القدس أو الضفة أو غيرهما.
كثيرون من هؤلاء المهاجرين ندموا على تركهم بلادهم وأوطانهم في سبيل كذبة “السمن والعسل”. بعضهم ارتقى أكثر في فهمه معادلة الصراع وموقع “الهجرة” منها. أحد هؤلاء أندري فشنيتسنيكوف الفتى الذي ولد في الاتحاد السوفييتي وهاجر إلى “إسرائيل” مع أسرته اليهودية قبل 11 عاما وكان عمره ثلاثة عشر عاماً. عندما كبر التحق بالجيش “الإسرائيلي” مدة سنة ونصف السنة تخللها انكبابه على إعادة قراءة التاريخ، فكانت تلك الفترة كافية لإحداث صراع فكري ووجداني لديه، صراع قاده إلى تغيّر نوعي قَلَب حياته رأساً على عقب. لم يكتف أندريه بالتفلّت من الجيش بل نقل مكان سكنه من “إسرائيل” إلى مخيّم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين الواقع قرب بيت لحم، وقال لإحدى صحف الكيان “أريد أن أبرهن لكم أنني أسطيع العيش بأمان بين الفلسطينيين طالما أنني أذهب إليهم ليس كعدو”. لم يحتمله الذين أتوا به من روسيا فأودعوه السجن حيث قال للسجانين “أنا ضد الصهيونية.. خذوا إسرائيليتكم وخذوا بطاقة الهوية الشخصية، وضعوني في غرفة مع الأسرى الفلسطينيين”، ورفض التوقيع على شروط إطلاق سراحه التي تتضمن تعهده بعدم الدخول إلى مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية”.
أندريه حسم رأيه أخيراً واختار الموقع المضاد للصهيونية التي اكتشف مكنونها وأهدافها كحركة عنصرية عدوانية توسّعيّة، وهو تخلى عن المواطنة “الإسرائيلية” ويطالب بالمواطنة الفلسطينية، بل وأكثر من ذلك يعتبر نفسه من أنصار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولا يرى أية شرعية ل “إسرائيل”.
ليست حالة أندريه واسعة الانتشار، بل هي بتفاصيلها فريدة من نوعها، لكن “إسرائيل” التي تدرك أن أوسع الظواهر تبدأ بحالة واحدة، تنظر لها بعين الخطورة الكبيرة، ف “إسرائيل” أولاً لا تريد أن تتحوّل إلى ظاهرة مثل رفض “الخدمة” في جيش الاحتلال، وثانياً هي تخشى كثيراً من كل ظاهرة تنطوي على رفض الصهيونية والتشكيك في روايتها التاريخية التي هيأت لإقامة ما وعد به آرثر بلفور البريطاني من “وطن قومي” لليهود.
ليس بالضرورة أن يذهب كثيرون في “إسرائيل”، وبخاصة ممن وقعوا في إغراءات الهجرة، إلى المدى الذي وصل إليه أندريه، فالخبير مردخاي فعنونو لم يطلب الحصول على المواطنة الفلسطينية، ولم يكن سكن بين الفلسطينيين، ولم يكن عميلاً لأية جهة، بل استيقظ ضميره وكشف للعالم ما تملكه “إسرائيل” من ترسانة نووية. لكنه أودع السجن لاكثر من خمسة عشر عاماً وبعدها فرضت عليه الإقامة الجبرية والحرمان من التحدث لوسائل الإعلام. وما من شك في أن هذه المظاهر تتوسّع، لكن من الخطأ المراهنة عليها كثيراً.

الاستيطان ومجلس حقوق الإنسان

أسامة عبد الرحمن
معروف أن الاستيطان مخالف للقانون الدولي والشرعية الدولية، والأمم المتحدة تعتبره غير شرعي، حتى الولايات المتحدة الأمريكية، تعترف بأنه غير قانوني وإن كانت ممارساتها على صعيد الواقع مناقضة تماماً لهذا الاعتراف، إذ تقف بالمرصاد، لأي مشروع قرار يدين الاستيطان.
وإذا كان أوباما قد بدأ عهده بالتأكيد على ضرورة وقف الاستيطان، سعياً إلى حل الدولتين، فإنه نكث ذلك وبدا متماهياً مع السياسة الصهيونية التي تعتبر الاستيطان مرتكزاً محورياً في مشروعها الاستعماري العنصري للاستيلاء على الأرض الفلسطينية، ولم تستخدم الإدارة الأمريكية أي ورقة من أوراق الضغط التي تملكها لإلزام الكيان الصهيوني بوقف الاستيطان، ولو مؤقتاً، لتعود هذه الإدارة متماهية مع سياسة الاستيطان الصهيونية ورافضة لأي تنديد بهذه السياسة، ومجهضة لأي مشروع قرار يدين الاستيطان، والأمم المتحدة التي تعتبر الاستيطان غير شرعي، لا تملك الآلية الفعالة، لتطبيق ذلك على أرض الواقع.
وهكذا يبدو الكيان الصهيوني قادراً على مواصلة بناء المستعمرات الصهيونية، ضارباً عرض الحائط بالقانون الدولي والشرعية الدولية، ولا يعير اهتماماً لأي ردة فعل عربية وغير عربية، شاجبة أو منددة أو مستنكرة للاستيطان.
والسلطة الفلسطينية التي تعتبر المفاضات خيارها الأول شريطة وقف الاستيطان، يقابلها الكيان الصهيوني بإصرار على مواصلة بناء المستعمرات الصهيونية، وفي ذات الوقت، السعي إلى أي شكل من أشكال المفاوضات.
وجاء قرار مجلس حقوق الإنسان في مارس/آذار الماضي الذي تبنى تشكيل بعثة تحقيق في الاستيطان وتداعياته ليمثل كسباً للطرف الفلسطيني، ولكنه لا يتجاوز كونه كسباً معنوياً، ولا يضيف كثيراً إلى موقف الأمم المتحدة أصلاً الذي يعتبر الاستيطان غير شرعي، كما يعتبره القانون الدولي غير قانوني.
ربما يكون بإمكان البعثة أن تسلط الضوء بمنظور أممي على هذا الانتهاك الصارخ للأرض الفلسطينية وللحق الفلسطيني، ولكن توصيات البعثة لن تكون نافذة إلا بقرار من مجلس الأمن، وهو موقع تقف فيه الولايات المتحدة الأمريكية بالمرصاد لأي مشروع قرار يدين الاستيطان، فيما الذهاب بأي توصيات إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يكسبها صفة الإلزام.
وهكذا تبقى هذه التوصيات مجرد حبر على ورق، هذا إن كان بإمكان البعثة أن تقوم بمهمتها في ضوء الرفض الصهيوني لأي تعاون معها للوقوف على حقيقة هذه المستوطنات وامتداداتها على الأرض الفلسطينية على الطبيعة، إضافة إلى ما قد تتعرض له البعثة من ضغوط قوية، قد تؤثر على توصياتها، كما حدث مع بعثات سابقة.
وتظل القضية الأساسية، هي مدى إمكانية إلزام الكيان الصهيوني بوقف الاستيطان، إذ يبقى الحراك الفلسطيني والعربي غير قادر، على أداء دور فاعل وملزم من خلال الأمم المتحدة طالما ظلت الولايات المتحدة الأمريكية العائق الرئيس أمام أي حراك فلسطيني وعربي، وهي الحاضنة الرئيسة للكيان الصهيوني الذي يمارس سياسة الاستيطان رغم اعترافها الشكلي بعدم قانونية هذا الاستيطان إذ يبقى هذا الاعتراف بعدم قانونية الاستيطان، مظهراً خالياً من أي مضمون، بل هو ساقط أصلاً على صعيد الممارسة الأمريكية.
والولايات المتحدة الأمريكية هي الأقدر على إلزام الكيان الصهيوني، بوقف الاستيطان لو كانت جادة فعلاً، ولو كان اعترافها بعدم قانونية الاستيطان حقيقياً، إذا لديها الكثير من أوراق القوة التي يمكن أن تستخدمها لإلزامه بذلك ولتحقيق رؤيتها لحل الدولتين لو كانت جادة فعلاً، ولكن يبدو أن الإدارة الأمريكية أصبحت رهينة السياسة الصهيونية وخاضعة لإرادتها وابتزازها ربما من خلال قوى الضغط الصهيوني التي تتمتع بنفوذ واسع في الإدارة الأمريكية، وإن كان هذا ليس مبرراً كافياً في نظر البعض.
إن الاستيطان واحد من بين مسائل عديدة في إطار القضية الفلسطينية، وإذا كان الاستعصاء إلى هذا الحد في ما يتعلق بالاستيطان، فكيف يكون الأمر بالنسبة للقدس أو حق العودة.
إن هذا يطرح تساؤلاً رئيساً يتعلق بالقضية الفلسطينية برمتها ومدى إمكانية الوصول إلى حل عادل لها يحفظ الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وهذا التساؤل تظل الإجابة عنه منفية في ظل إصرار الكيان الصهيوني على الاستمرار في بناء المستعمرات الصهيونية وتهويد القدس، وممارسة الإقصاء والتهجير حتى يستكمل مشروعه الاستعماري العنصري.
ولذا فإن قرار مجلس حقوق الإنسان بتشكيل بعثة للتحقيق في الاستيطان وتداعياته على الأرض الفلسطينية، لا يوقف الاستيطان ويظل وقعه معنوياً. ولكن القضية الفلسطينية التي يعترف القانون الدولي والشرعية الدولية بعدالتها ليست في حاجة إلى وقفة معنوية ولكنها في حاجة إلى وقفة ملزمة تتجسد في واقع ملموس.

الثورة لم تكن مجرد هبة غضب

عاطف الغمري
الأمر الذي لا خلاف عليه، أن ثورة 25 يناير لم تكتمل ولم تحقق أهدافها التي تجسد روح مصر وأماني مواطنيها التي أعلنت في الثمانية عشر يوماً الأولى من الثورة. وما كان يمكن للثورة أن تكتمل إلا إذا أديرت شؤون البلاد، والتعامل مع أحداثها باعتبار ما حدث هو ثورة، وليس مجرد هبة غضب، يمكن إطفاء شعلتها، بحركة تصحيحية محدودة.
ويخطئ من يحاول إقناع نفسه بذلك، فما حدث في 25 يناير كان مدفوعاً بطاقة دافقة من عاملين يحركانها معاً، الأول أن ما جرى في مصر هو فعل جماهيري تراكمت في وعيه أسباب تصنع مئة ثورة، وليس ثورة واحدة، وهو حدث له سوابق مماثلة في تاريخ مصر الحديث، أبرزها ثورة 1919 التي خرجت جماهيرها بالطريقة نفسها وبلا قيادة مركزية في كل مدن وقرى مصر، متمسكة بهدف وطني التف حوله الجميع، لكنهم عوضوا غياب القيادة، باختيار سعد زغلول رمزاً وزعيماً للثورة، بناء على مواقفه الوطنية الصريحة.
العامل الثاني، أن الثورة جاءت تتحرك ضمن تيار التغيير الذي اجتاح العالم منذ بدء عصر ثورة المعلومات في أول التسعينات، بما حمله من تغييرات جذرية في مفاهيم الحكم والإدارة، والعدالة الاجتماعية، واعتبار الديمقراطية شرعية أي نظام حكم، وإنهاء حالة من العزلة فرضت على مصر، تحول بينها وبين التأثر بقوانين العصر.
وقامت الثورة تعلي صوت الشعب منادياً بإسقاط النظام، ليس لأفراد على قمة السلطة، وإنما كمنظومة كاملة للتفكير والسلوك.
لكن شيئاً من هذا لم يتحقق، مما يعني أن أسباب الثورة مازالت قائمة، ولما كانت الثورة بطاقتها الكامنة فعلاً مستمراً، فإن المشهد السياسي في مصر  رغم أي شيء  دخل مرحلة من التفاعل بين عناصر متعددة، بعضها يتناقض ويتصادم مع البعض الآخر، وبعضها يتلاقى ويتواءم مع عناصر أخرى.
وفي قلب عملية التفاعل هناك من يطمح إلى الإبقاء على النظام السابق، وهناك من يدعو لإسقاط النظام، وإعادة بناء الدولة، على أسس صحيحة.
إن حالة التفاعل هذه تنتقل بنا إلى المرحلة الانتقالية الثانية والحاسمة، حتى ترسو سفينة الوطن على شاطئ اكتمال الثورة، وفق المبادئ المعلنة في الثمانية عشر يوماً الأولى منها.
معنى ذلك أن هذه التفاعلات، إذا قارناها بتجارب ثورات أخرى في العالم يفترض أن تعيد تشكيل الخريطة السياسية بكاملها، من داخل المشهد السياسي الذي تنشط فيه مجموعة من القوى مثلاً:
1- شباب الثورة الذين تعرضوا لخطط ترمي إلى دفعهم إلى الإحباط، وتصويرهم في نظر الناس على أنهم المتسببون في المشكلات التي يعيشونها، بينما لم يكن لهم نصيب في الحكم، ولا ناقة لهم ولا جمل، ومع ذلك فإن الإحباط لم يصل بهم إلى الانسحاب من المشهد، ولاتزال لديهم القدرة على استجماع طاقتهم من جديد.
2- قوى منظمة ارتكبت أخطاء فادحة، أربكت العملية السياسية برمتها، حين حاولت أن تجعل لأهدافها التنظيمية الأفضلية على الأهداف الوطنية الجماعية لعموم المصريين، ولعلها تكون قد استخلصت الدروس والعبر من وقائع الفترة الأخيرة.
3- حركات سياسية ليس لها انتماءات حزبية راسخة، افتقدت في الفترة الماضية القاعدة التنظيمية التي تمكنها من أن تكون فاعلة، في ضبط التوازن في المشهد السياسي ولعلها تعيد تنظيم نفسها بشكل يجعلها فاعلة.
4- بقايا النظام السابق، مدعومة بالتنظيم السري  شبه العلني لمرتزقة البلطجية، الذين كان أمن الدولة يوظفهم في تزوير الانتخابات والتحرش البدني بالحركات الاحتجاجية، والذين استمر دورهم بعد الثورة تستخدمهم قوى الثورة المضادة.
ولم يكن يخفى على وعي المصريين الذين خرجوا في 25 يناير من أجل التغيير، وكذلك من كانوا يتابعون ما يجري في مصر، من مراكز الرصد والدراسة العلمية المجردة في أوروبا وأمريكا، أن ثورة مضادة تدار بخطط محكمة، ابتداء من يوم 11 فبراير/ شباط ،2011 لجعل الحياة اليومية المعيشية للمصريين حالة لا تطاق ولا تحتمل، وهذه المراكز نظمت ندوات وورش عمل، وحلقات دراسية، اتفقت جميعها على أن مصر سوف تزدهر داخلياً، وتستعيد مكانتها إقليمياً ودولياً، لكن ذلك  في تقديراتهم  مشروط بإسقاط النظام، وليس بمجرد إزاحة رئيسه، واستكمال طاقة الأهداف التي أعلنت في ميدان التحرير.
هنا  لا نستطيع أن نتجاهل أن القوى الكبرى وخاصة أمريكا، إضافة إلى “إسرائيل”، كانت ولاتزال تترقب ما سوف تنتهي إليه الثورة، سواء بانتصارها، أو بتعويقها بخطة الثورة المضادة لكي تحدد بعدها اتجاه سياساتها نحو مصر والعالم العربي، ورغم إقرار هذه المراكز بخطورة ما تفعله الثورة المضادة، إلا أنها ظلت متمسكة باقتناعها، بأن ما حدث في مصر ثورة متكاملة، سوف تفرض إرادتها في النهاية، وأن سلوك الثورة المضادة يبقى عبارة عن ارتعاشات جسد موصوم بالعداء للشعب، والولاء لمصالحه الذاتية.
في نفس الوقت فإن “إسرائيل” اعتبرت أن انتصار الثورة  على هذه الصورة  يمثل أكبر تهديد لها، لأن اكتمال أهدافها، سوف يعدل ميزان القوى لمصلحة مصر والعرب، وهو الميزان الذي ظل مائلاً لمصلحة “إسرائيل” منذ قيامها عام 1948. ولم يستطع قادة “إسرائيل” إخفاء طبيعة علاقتهم بمبارك التي وصفوها بالتحالف الاستراتيجي.
إن نتائج اكتمال أهداف الثورة، ستكون متعددة الأبعاد، فهي تبدأ بمثابة البناء في الداخل، ثم بما تشعه مصر في هذه الحالة على محيطها الإقليمي   الذي سيؤدي إلى استعادة زمام القرار السياسي إلى يد الشعوب، بما يعبر عن الأهداف الوطنية الحقة، وإعادة مصر والمنطقة العربية إلى احتلال مكانتها في إدارة النظام الدولي الجديد التي كانت مستبعدة من ترشيحات المؤسسات الدولية لها قياساً على افتقاد النظام الحاكم في مصر للشرعية بمقاييس هذا العصر المتغير، وعزلتها عن ركب الدول الصاعدة في آسيا وأمريكا اللاتينية.

نتنياهو لم ينم

فهمي هويدي
لم ينتبه كثيرون إلى أصداء الانتخابات الرئاسية المصرية في إسرائيل، أو في العالم العربي، وقد أشرت قبلا إلى بعض هذه الأصداء الأخيرة، في حين لاحظت أن صحفنا عنيت بإبراز ما نشرته الصحافة العالمية حول الحدث الكبير. إلا أن أغلب الظن أن المصريين الذين سهروا يتابعون النتائج حتى فجر أول أمس (الاثنين 18/6) لم يخطر على بالهم أن بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل لم يغمض له جفن في تلك الليلة، وإنما ظل ساهرا يتابع النتائج حتى أدرك مع طلوع شمس الاثنين أن الفوز كان من نصيب الدكتور محمد مرسي، وأن الفريق أحمد شفيق، خياره الذي تمناه، لم يحالفه التوفيق في المعركة.
ليس ذلك استنتاجا من عندي، ولكنه خبر بثه التلفزيون الإسرائيلي في نشرة أخبار الساعة السابعة صباح الإثنين، إذ ذكر أن نتنياهو ظل إلى ساعة الفجر الأولى يتابع نتائج الانتخابات المصرية، وأنه أجرى مشاورات عاجلة مع مستشاريه بعد إعلان فوز الدكتور مرسي.
لم يكن ذلك هو الصدى الوحيد، لأن وسائل الإعلام الإسرائيلية أبرزت الحدث في اليوم ذاته (الإثنين) على صدر صفحاتها الأولى وفي مقدمة عناوينها. ومما قالته قناة التلفزة الثانية في نشرة أخبار السابعة صباحا أن نتنياهو كان قد حث الرئيس الأمريكي أوباما على قيادة حملة دولية تشارك فيها بعض الدول العربية لمساندة الفريق شفيق وإنجاحه في مهمته إذا فاز في الانتخابات. وكان مراسل التلفزيون الإسرائيلي في واشنطن قد ذكر أن العديد من الدول بذلت جهودا هائلة من وراء الكواليس لإنجاح الفريق شفيق في الانتخابات. (هل يستدعي ذلك العديد من الأسئلة المثارة حول حملته الانتخابية الباذخة، والتفاف عدد من شخصيات النظام السابق حوله).
في نشرة الساعة السابعة صباحا من ذات اليوم (الإثنين) ذكرت الإذاعة العبرية أن الأوساط السياسية الإسرائيلية أصيبت بصدمة كبيرة، بعدما توالت الأنباء التي رجحت فوز الدكتور مرسي، خصوصا أن التقييمات المسبقة التي نقلتها واشنطن إلى تل أبيب كانت تؤكد أن فوز الفريق شفيق حتمي، وأنه سيصبح رئيس مصر المنتخب.
معلق الإذاعة العبرية ذكر صبيحة اليوم ذاته (18/6) أنه يجب رفع القبعة تقديرا للشعب المصري، لإصراره على التحول الديمقراطي، «رغم شعورنا بالمرارة لاختياره مرسي تحديدا». إلا أن إذاعة الجيش الإسرائيلي نقلت في نشرة الثانية عشرة ظهرا تصريحا لوزير الخارجية أفيجدور ليبرمان قال فيه إن: «مصر أصبحت أخطر مئات المرات من إيران، ويجب على إسرائيل أن تستعد لمواجهة الواقع الجديد».
الوزير الإسرائيلي الأسبق بنيامين بن أليعازر (مهندس العلاقات مع مبارك) قال للإذاعة العبرية، في تصريح بثته في الساعة الحادية عشرة صباحا: إن مصالح إسرائيل والغرب باتت متعلقة بمدى قدرة المجلس العسكري في مصر على الحفاظ على صلاحياته، لذلك فإن احتفاظ المجلس بمعظم الصلاحيات يمثل مصلحة قومية لنا، وإضعافهم يضر بنا. وأضاف قوله إن فوز الدكتور مرسي يعني تغيير البيئة الإستراتيجية بشكل كارثي لإسرائيل، وعليها الاستعداد لمواجهة أسوأ السيناريوهات.
رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق جيورا ايلاند صرح للإذاعة العبرية في نشرة الساعة الثانية بعد ظهر الإثنين بأن فوز مرسي سيفاقم المخاطر الإستراتيجية على إسرائيل، خصوصا في حال سقوط نظام الأسد في المستقبل.
وسط هذه الأجواء التي خيمت على إسرائيل، تناقلت وكالات الأنباء في نفس اليوم (18/6) أن مواطنا إسرائيليا قتل جراء إطلاق النار عليه في منطقة نيتسانا في النقب الغربي، على امتداد الحدود الإسرائيلية المصرية، وعلى الفور خرج وزير الدفاع إيهود باراك ليصرح من خلال راديو «صوت إسرائيل» بأن الحادث «مؤشر على تصعيد خطير وتدهور في السيطرة المصرية على الأوضاع الأمنية في سيناء» ثم استطرد موجها حديثه إلى الرئيس المصري الذي أسفرت نتائج الانتخابات عن نجاحه قائلا إنه يتعين عليه «العمل على استعادة السيطرة الأمنية على شبه جزيرة سيناء لوضع حد للهجمات الموجهة ضد إسرائيل. «وفي الوقت ذاته دعاه إلى الالتزام بجميع التعهدات الدولية بما فيها اتفاقية السلام المبرمة بين البلدين والترتيبات الأمنية المترتبة عليها».
الرسالة واضحة. فإسرائيل التي صدمت بإسقاط مبارك كانت مطمئنة إلى فوز الفريق شفيق وثقتها كبيرة في أنه سيعود بمصر إلى سياسة حليفها وكنزها الاستراتيجي السابق. وحين خاب أملها فإنها لجأت إلى الابتزاز وبدأت التلويح بضعف السيطرة الأمنية على سيناء، بما يهدد أمن إسرائيل، ولوحت بالضغط على الرئيس المصري الجديد لكي يقوم بدور الحارس لأمنها والمدافع عنها، بصرف النظر عما تفعله هي، من جرائم يومية ترتكب بحق الفلسطينيين تستهدف تصفية القضية وتهدد الأمن القومي المصري.
لقد كنت ومازلت أدعو إلى ترحيل ملف العلاقات المصرية الإسرائيلية في الوقت الراهن. والتركيز على استعادة عافية الوضع الداخلي أولا، لكننا أحيانا نصادف موقفا نصبر فيه على الهم لكنه يصر على أن يلاحقنا ويفرض نفسه علينا. ولست أدعو في هذه الحالة إلى الاستسلام إلى هذه الملاحقة الخبيثة، لكنني أدعو فقط إلى فهم ما يجري والانشغال باستعادة العافية المصرية، وليس بالأمن الإسرائيلي. وفي الوقت نفسه، أرجو أن ينتبه الذين أيدوا الفريق شفيق إلى حقيقة المعسكر الذي انضموا إليه والصف الذي التحقوا به.

الموجة الثانية

ميشيل كيلو
كان النظام السوري يعتقد أن تهدئة المدن يجب أن تسبق تهدئة الأرياف، وأن إخراج الناس من شوارع المدن سيفضي حتما إلى تلاشي مظاهرات البلدات المتوسطة والصغيرة، ثم القرى، وأن القضية ليست غير مسألة وقت، فالخطة صحيحة وهناك من ينفذها بلا هوادة، والشعب مشتت وخائف وبلا قيادة، والمعارضة مجزأة أو عاجزة، وليس في الأمر مفاجآت محتملة، وإن هي إلا أيام أو أسابيع قليلة وينتهي كل شيء.
وبالفعل، ركز النظام جهده على المدن، وشرع يفاخر بأن دمشق وحلب ليستا محتجتين أو أنه تم تطهيرهما من الحراك، وخاصة الشعبي والواسع منه. لا بد هنا من رواية قصة دمشق الحقيقية، فقد بدأت الثورة في ضواحيها الشرقية ثم امتدت إلى ضواحيها الجنوبية فالجنوبية الغربية فالغربية فالشمالية، حتى بدا وكأن الحراك يطوق المدينة ويضعها بين فكي كماشة عملاقة بشرياً وجغرافياً. عندئذ، انقض النظام عليها في الشرق أولا بدءا من دوما، ثم نشر جيشه في كل مكان وكرر احتلال وقمع قرى وبلدات الغوطتين الشرقية والغربية، وأعلن أنه تخلص من الطوق وقهر الشعب، فما كان من ضواحي المدينة الداخلية (المهاجرين، ركن الدين، برزة، مساكن برزة، القابون، جوبر، الميدان، كفر سوسة، وأخيرا المزة) إلا أن انتفضت بدورها وردت على الطوق الخارجي بطوق داخلي، عجز النظام إلى اليوم عن فكه أو التغلب عليه، رغم ما ارتكبه من مجازر وعنف، بينما عادت الثورة وانتشرت من جديد داخل الغوطتين الشرقية والغربية، داخل ضواحي العاصمة الخارجية، واتصلت بقوة مع الطوق الداخلي. كيف رد النظام؟ على طريقته المعروفة: بالعنف المتصاعد ومحاولة طمأنة نفسه وأنصاره بالحديث المتكرر عن الانتصار النهائي.
لحلب أيضا قصتها: فقد اعتبرت دوما مدينة الولاء والهدوء. واستخدمت مع دمشق للقول: إن نصف سكان سوريا (عدد سكان المدينتين) ليسوا مع الثورة، وبالتالي: الشعب موال للنظام. كان هذا الكلام يقال، عندما كان يوجد في حلب 14 مظاهرة يومية، وفي حلب وريفها أكثر من خمسين مظاهرة تضم مئات آلاف الأشخاص، وكان الأمن يلقي بطلبة الجامعة من نوافذ أبنية السكن الجامعي أو يقفزون هم من الطوابق العليا، مفضلين الموت على الوقوع في يديه ومواجهة التعذيب. لكن ما يحدث اليوم في حلب لا يترك سبيلا للحديث عن المدينة الهادئة والموالية، لأنها لو كانت كذلك لما انتشرت وحدات عسكرية كبيرة مزودة بالدبابات فيها، انضمت إلى نيف ومائة ألف أمني يحتلونها منذ بدء الانتفاضة.
انتقل الحراك خلال الأشهر الأخيرة إلى طور جديد، فقد نجح في احتواء هجوم الحسم، الذي شنته أكثر قوات النظام عنفا وأفضلها تسليحا في كل مكان من أرض سوريا، ثم حرر مناطق هائلة الاتساع من أي وجود سلطوي، ربما كانت مساحتها قرابة نصف مساحة البلاد. في هذه الأثناء، ازداد الحراك السلمي قوة وبأسا، وتعاظمت المقاومة، حتى إن حمص، التي أراد النظام لهزيمتها أن تقصم ظهر الثورة، ظلت عصية على الإسقاط، وها هي تشمخ بدمارها في وجهه، رغم ما يبذله من جهود مستميتة لقهرها، مع أن هذا لن يفيده حتى معنويا بعد أن سادت روحيتها معظم مناطق سوريا. ولعل ما يجري من مقاومة في حرستا، البلدة الصغيرة الواقعة على طريق دولي والتي لا تبعد غير عشرة كيلومترات فقط عن قلب العاصمة، لهو خير دليل على عجز النظام عن إحداث التحول المطلوب في الصراع، مهما كان جزئيا ومحدودا.
شن النظام هجوما عاما لم يفض إلى أي نتيجة غير جعل الثورة أصلب عودا وأشد مراسا، وعامة / شاملة بدورها. وكان فشله هو التحول المهم الذي عرفه الصراع، لأنه كان فشلا أصاب هوامش مناورة النظام التكتيكية، الذي أعقب فشل هوامشه الاستراتيجية، الواضح منذ بدء الصراع، ويعبر عنه بقاء الثورة واتساعها وتجذرها وتصميمها على النصر. بفشل هجومه، الذي نفذته أقوى وحداته، عادت الثورة إلى المدن أو توطنت فيها بقوة غير مسبوقة، وتأكد الفشل في إخراجها منها، بينما توطدت في الأرياف، التي تحولت إلى مناطق يصعب أكثر فأكثر على قواته دخولها أو البقاء فيها، وانقلب جيشه وأمنه إلى قوة جوالة تنتقل من مكان إلى آخر، لأنه لم يعد يوجد غير أمكنة محدودة تبقى موالية للنظام، بمجرد خروج دباباته منه.
مع اتساع الحراك جغرافياً وبشرياً، وخروج مناطق واسعة من يد السلطة، انضم في الأيام الأخيرة رافد جديد إليها - وإن بعد تأخر - هو ما يسمونه «البرجوازية السورية» أو باللسان الشعبي: «التجار»، الذين قاموا بإضراب عام في دمشق وحلب بالذات، وأعلنوا بطريقتهم العملية انفكاكهم عن النظام، الذي يفقد تأييد السوريين جماعة بعد أخرى، ويواجه حالة متفاقمة من الطرد إلى خارج المجال المجتمعي بكامله، الذي يبدو أن قواه وطبقاته بدأت تدخل بوضوح إلى زمن ما بعد البعث، وتعلن غربة الحاكم شبه الكاملة عن الشعب المقموع والمقتول، الذي شرع النظام يشن عليه عمليات إبادة منظمة في موجة جديدة من العنف، تستخدم كافة أنواع الأسلحة ضد المدنيين في كل مكان وموقع.
هذا هو رد النظام على موجة الحراك الثانية، التي تحوله إلى ثورة شاملة بكل معنى الكلمة، بعد أن كان بعضهم يأخذ عليه أنه ليس حراك دمشق وحلب، وليس ثورة جميع السوريين، بل هو حراك المناطق المتأخرة قليلة السكان.
تقف سوريا اليوم أمام مفترق طرق: نظام يدفع الأمور نحو الحرب الأهلية، وشعب يقاومه ويرفضها. هنا، في هاتين السياستين المتناقضتين تكمن الموجة الثانية، علما بأن الرسمية منهما تأخذ البلاد إلى خراب شامل، والأخرى، الشعبية، تعمل لإخراجها من مأساتها المديدة، وإدخالها إلى عالم مفتوح على الديمقراطية والحرية. أي الخيارين سينجح؛ خيار اليأس والموت أم خيار الأمل والخلاص؟ في الواقع القائم اليوم، تعتبر حظوظ الأمل أكبر من فرص الموت والدمار، رغم ما تتركه الجرائم التي ينظمها أهل الحل الأمني من انطباع بأن تدهور سوريا لن يتوقف عند حد.
يترتب على هذه اللحظة المفصلية استنتاجان: أولهما أن الشعب السوري يتخلص من نظامه بوسائله وقواه الخاصة. وثانيهما أن النظام زائل لا محالة، وأن تصرفاته أخذت تسهم في تقويض وجوده، ولم تعد قادرة على إبقائه في السلطة لفترة طويلة قادمة، لأن الشعب يراكم بصموده الأسطوري مقومات انتصاره!

من الثورة إلى المأزق السياسي

باسم الجسر
الانتخابات الرئاسية في مصر لم تحسم الأمور ولا أرست للثورة قواعد الحكم، ولا لمصر ركائز الاستقرار. وذلك على الرغم من أن الفائز فيها كان مرشح الإخوان المسلمين. فماذا لو كان العسكري أحمد شفيق؟
غريب جدا، بل مذهل هذا الذي تشهده الساحة السياسية المصرية من مفاجآت وتخبط وضياع بعد عام ونصف من اندلاع الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام الحكم فيها. مجلس نيابي ينتخب في ظل دستور غائب ثم يعتبر غير شرعي بحكم قضائي؟ وانتخابات رئاسية تجري في غياب دستور يحدد صلاحيات رئيس الدولة ودوره في السلطة التنفيذية. وأحكام قضائية تحترم وتنفذ هنا، وأخرى ترفض ويتظاهر الناس ضدها، هناك. مجلس حكم عسكري يمارس صلاحيات رئيس الدولة في مرحلة انتقالية ثم يحتفظ بالسلطة التشريعية بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية. نصف الشعب المصري يقترع لأحمد شفيق، خوفا مما قد يترتب عن احتكار «الإخوان» والإسلاميين للحكم من انتقاص لحقوق المرأة وغير المسلمين في مصر، حتى إذا ما فاز مرشح الإسلاميين بالرئاسة، كان أول تصريح له طمأنة الذين صوتوا لخصمه بأنه إنما سيتبع في الحكم «نهجا ديمقراطيا وطنيا مدنيا»، أي ما يقول به خصمه ونال ملايين الأصوات المؤيدة له.
احتل «الإخوان» والإسلاميون أكثرية مقاعد مجلس الشعب. وهمش دور شبان الثورة والأحزاب السياسية المدنية القديمة والجديدة. وجرت انتخابات رئاسية فاز فيها مرشح «الإخوان» في دورتين.. فلماذا، إذن، انفجر الخلاف، فجأة، قبيل وبعد الانتخابات الرئاسية بين «الإخوان» والعسكر؟ هل السبب هو حل مجلس الشعب؟ أم الإعلان الدستوري الجديد؟ أم اللجنة المكلفة وضع الدستور الجديد؟ أم أنه، بكل بساطة، إصرار «الإخوان» وغيرهم من صانعي الثورة المصرية، والمستفيدين منها، على القبض على السلطة بكاملها، وتمسك العسكر بالدور والامتيازات التي يتمتعون بها منذ ستين عاما؟
الذين قاموا بالثورة، من إسلاميين وعلمانيين وديمقراطيين وحزبيين، من حقهم أن يتسلموا الحكم. ولكنهم لم يتفقوا في ما بينهم على تقاسم ثمار الثورة، وكان ذلك من أهم أسباب الوصول إلى ما وصلت إليه البلاد من تأزم سياسي، وإلى وقوع المجلس العسكري والقضاء المصري والمؤسسات الأمنية والإدارية في هذه الفوضى السياسية وهذا المأزق الدستوري. ومن هنا، كان اقتراع نصف الشعب المصري لأحمد شفيق، مؤملا من وصوله توفير الأمن والاستقرار، لا سيما أن أوضاع مصر الاقتصادية والسياحية قد تراجعت بعد الثورة، ولم يقم الحكم بأي خطوة توفر للشعب فرص عمل جديدة وحلولا للمشاكل الحياتية التي يعانيها، وما أكثرها!
ماذا سيحدث الآن، بعد الانتخابات الرئاسية وحل مجلس الشعب والإعلان الدستوري الجديد؟ المجلس العسكري أكد ويؤكد أنه سيسلم السلطة التنفيذية إلى رئيس الجمهورية الجديد.. ولكنه يتحفظ بالنسبة للسلطة التشريعية. فهل كان احتفاظه بها هو الحل الأنسب؟ وهل سيقبل «الإخوان» والقوى السياسية الثورية الأخرى بهذا «الإخراج الدستوري» الفريد من نوعه؟
إن انسحاب المجلس العسكري من الحكم والسلطة بات مطلبا شعبيا داخليا ورغبة دولية. غير أن هذا الانسحاب، سواء تم غدا أو بعد غد، لن يحل المشاكل الدستورية والسياسية «العويصة» التي وقعت فيها مصر في الأسابيع الأخيرة. البعض يرى أن ما يحلحل الأمور هو تأليف حكومة «اتحاد وطني» تضم عدة أحزاب وممثلين عن شباب الثورة. وآخرون يقترحون تأليف حكومة حيادية من شخصيات غير حزبية، تتولى الحكم في الفترة الانتقالية القادمة وريثما يوضع الدستور الجديد وتجرى انتخابات نيابية جديدة. وقد يستغرق ذلك عدة أشهر أو سنة بكاملها. وهنا، يبرز السؤال الحقيقي وهو: هل يستطيع الشعب المصري تحمل هذه النزاعات السياسية التي تصرف الحكم، أيا كان الحاكم، عن الاهتمام الجدي بالمشاكل الحياتية الاقتصادية والاجتماعية؟
إن حكم «الإخوان» والإسلاميين في مصر لن يؤدي إلى قيام دولة دينية على غرار جمهورية إيران الإسلامية، ولكنه سيؤثر في علاقات مصر بمحيطها العربي وبالمجتمع الدولي، ولا سيما بالوضع الراهن للعلاقات مع إسرائيل منذ كامب ديفيد. أما العقبة الداخلية التي سيصطدم بها «الإخوان» والإسلاميون، فهي علاقتهم بالقوات المسلحة وامتيازاتها ووزنها في الدولة المصرية، وسوف يؤدي ذلك إلى تغيير التحالفات السياسية الداخلية، بل والخارجية والإقليمية أيضا.
في المطلق، لن ترجع مصر إلى الوراء بعد الربيع الثوري الذي شهدته، ولكنها، لسوء الحظ، ستعاني أزمات وتمر بمطبات كثيرة قبل أن تتحول إلى دولة ديمقراطية مزدهرة. فالعلة الحقيقية التي يعانيها المجتمع المصري - وأكثر المجتمعات العربية - ليست في نظام الحكم، بل هي أعمق من الشكليات الدستورية التي تتقاتل القوى السياسية حولها.

خيانة الثورة المصرية

سارة خورشيد
توضح النتائج الأولية للانتخابات أن محمد مرسي، مرشح الإخوان المسلمين، هو الرئيس المصري المقبل. وحتى إذا تم إعلان فوز مرسي في وقت لاحق من الأسبوع الحالي، فلن تكون أول انتخابات رئاسية شعبية مصرية هي حجر الزاوية في النظام الديمقراطي. سيكون مرسي بموجب الحكم الصادر عن المحكمة العليا بحل البرلمان، والإعلان الدستوري المكمل الذي أصدره المجلس العسكري، والذي يقيد بمقتضاه سلطات الرئيس، بلا أظافر، وخاضعا للمجلس العسكري السلطوي الذي يبدو غير مستعد لتسليم السلطة قريبا. وأحكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة قبضته على مقاليد الحكم في البلاد، حيث منح نفسه حق التشريع ووضع ميزانية الدولة، والحق في تعيين لجنة صياغة الدستور، والحصانة من أي آلية مراقبة ديمقراطية، وحق نقض أي إعلان للحرب. ومن المتوقع أن لا يكون للرئيس الجديد أي كلمة في السياسة الخارجية وفي علاقات مصر بالولايات المتحدة التي تمنح مصر معونة سنوية عسكرية قدرها 1.3 مليار دولار.
عدم رغبة العسكر في التخلي عن السلطة وإتاحة فرصة لإرساء نظام ديمقراطي واضح منذ شهور، مع ذلك استمرت الولايات المتحدة في دعمها للمجلس العسكري، حيث لا تزال السلطات المصرية تستخدم قنابل الغاز المسيل للدموع أميركية الصنع في قمع المتظاهرين المعارضين للعسكر. عندما صوت بـ«لا» في الاستفتاء على التعديلات الدستورية خلال شهر مارس (آذار) الماضي، بعد أسابيع من خلع الحاكم المستبد مبارك بعد سنوات طويلة من جلوسه على المقعد الرئاسي، كان تصويتا ضد القيام بعملية انتقال للسلطة تحت حكم العسكر الذي أحدث فوضى قانونية لا تزال مستمرة، وصلت إلى ذروتها بحل مجلس الشعب الذي يهيمن عليه الإخوان المسلمون، واستحواذ المجلس العسكري على السلطات التشريعية. ومثلت التعديلات الدستورية، التي تم الاستفتاء عليها، بداية عملية دفعت المصريين والعالم إلى الاعتقاد خطأ بأن مصر تسير على طريق الديمقراطية. في 19 مارس تفاخر الكثير من المصريين بأصابعهم المخضبة بالحبر الفسفوري الذي غمسوا فيه أصابعهم بعد الاستفتاء لاعتقادهم بأن مصر تسير بحسب «خريطة التحول إلى حكم مدني ديمقراطي»، كما يحلو لأعضاء المجلس العسكري وصفه. مع ذلك دائما كان هدف هذه الخريطة المتلاعب بها هو كبت طموحات الشعب المصري بتأجيل التحول إلى الديمقراطية وجر المصريين على طريق رسمه العسكر. ونجح الاستفتاء والانتخابات البرلمانية والرئاسية في تشتيت الناس بفخاخ الديمقراطية.
على الجانب الآخر، لم يتخل نظام مبارك عن السلطة، فربما يكون الرئيس السابق قد خسر منصبه وقدم للمحاكمة مع بعض رموز نظامه (من قبل النائب العام الذي عينه الرئيس نفسه)، لكن لم تصدر بحقهم أحكام نهائية بعد، فيما عدا ذلك لم يتغير أي شيء بعد الثورة، فقادة الجيش والوزراء الأساسيون في الحكومة لا يزالون في مناصبهم. وما زالت انتهاكات وزارة الداخلية لحقوق الإنسان مستمرة بطريقة أكثر وحشية من ذي قبل، فآلاف المصريين العاديين مثلوا أمام محاكمات عسكرية، ويعاني مواطنون مصريون الظلم بسبب المرسوم الجديد الذي يخول الشرطة العسكرية ومسؤولي الاستخبارات اعتقال المدنيين. وكان من المحال أن تتمخض ديمقراطية حقيقية عن عملية تم خلالها انتخاب برلمان ورئيس قبل وضع دستور يحدد وضعهما وسلطاتهما وعلاقتهما بالجيش.
يمكن للديمقراطية أن تعيش فقط في ظل دولة القانون، ولا يمكن أن ترسى في دولة تضربها الفوضى القانونية والسياسية. لقد أنهكت المحاكم المصرية تحت وطأة النزاعات على دستورية المجلس نفسه والجمعية التأسيسية التي شكلها البرلمان المنحل حاليا، والمكان الذي سيؤدي فيه الرئيس الجديد القسم، وكيفية قيامه بذلك في ظل غياب هيئة تشريعية وطنية.
وتستمر حالة عدم اليقين تاركة وراءها خبراء في القانون وقادة الرأي في أتون جدل لا ينتهي يشتت انتباه المصريين بعيدا عن الأهداف الأساسية التي اندلعت من أجلها ثورتهم.
بالنظر إلى تجاهل العسكر المستمر على مدى الستة عشر شهرا الماضية للأسس الديمقراطية، يبدو تعليق وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون الأسبوع الماضي بأنه «لا تراجع عن التحول الديمقراطي الذي ينادي به المصريون» سخيفا.
وعلى الرغم من سيطرة العسكر السافرة على مقاليد الأمور، فإنه ليس لدى إدارة أوباما شك في عودة المعونة الأميركية العسكرية لمصر، بغض النظر عن وضع الكونغرس حماية الحقوق الأساسية كشرط لتقديم المعونة من أجل الحفاظ على التحالف الطويل بين الولايات المتحدة وحكام مصر. وكانت أميركا تستطيع الانحياز للشعب المصري لو أرادت، لكن السؤال هو: هل الحكومة الأميركية ترغب حقا في أن ترى مصر دولة ديمقراطية؟ إذا كانت إدارة أوباما تدعم الشعب المصري في سعيه للحصول على حريته، فينبغي إذن أن تدرك أنه لن يتم إرساء الديمقراطية في البلاد إلا عن طريق الثورة التي بدأت في الشوارع في يناير (كانون الثاني) عام 2011 لا عبر الطرق المشبوهة التي يستخدمها المجلس العسكري الذي عينه مبارك.