Tuesday, June 12, 2012

خطة موسكو.. مراوحة في الدم

راجح الخوري
فشلت محادثات فريديرك هوف مع المسؤولين الروس ولن يكون في وسع الديبلوماسية السرية التي نشطت اخيراً بين واشنطن وموسكو، ان توفر تصوراً يمكن ان يشكل أساساً لبدء تفاهم حول الازمة السورية بين باراك أوباما وفلاديمير بوتين اللذين سيلتقيان الاسبوع المقبل في "لوس كامبوس" بالمكسيك على هامش قمة العشرين.
في انتظار توافر نقاط مشتركة بين الجانبين حول هذه المأساة الدموية، يبقى الواقع كما وصفه مسؤول روسي كبير عندما قال لموقع "بلومبرغ": "ما دامت اميركا وروسيا لا تستطيعان الاتفاق على معالجة مشتركة للوضع فان الطريق سيبقى مسدوداً". هذا الكلام لا ينطوي على اي مبالغة!
اذاً ليس امام السوريين، نظاماً وشعباً، إلا المراوحة في الدم والمجازر المتنقلة، التي ترسم الآن افقاً تصاعدياً بعد مرور 15 شهراً على الأزمة تستنسخ فصول المأساة البوسنية وقد تستمر اكثر مما يتصور الكثيرون، وخصوصاً بعدما احكمت موسكو اقفال مجلس الأمن ليس بـ"الفيتو" وحده بل بدعوتها أخيراً الى مؤتمر دولي حول سوريا يعقد في موسكو او جنيف وتحضره كل الدول المحيطة بما في ذلك إيران، رغم معرفتها المسبقة ان الحضور الايراني سيكون مرفوضاً، فهي ليست من الدول المحيطة، ثم انها تقاتل الى جانب النظام كما تقول المعارضة.
تتألف الخطة الروسية للمؤتمر الدولي من ست نقاط تماماً مثل خطة كوفي أنان السداسية، لكن المضحك المبكي فيها انها تشكل ضمناً وصفة لشراء وقت مفتوح على مداه للنظام، كي يمضي في الحل العسكري الذي ثبت فشله منذ ما يزيد عن عام. ومن خلال قراءة لما نشر عن مضمون الخطة وخصوصاً البند الخامس منها، يمكن القول ان موسكو تناقض نفسها في شكل فاضح عندما تقول حرفياً: "ينبغي ان يقوي المؤتمر المقترح قدرات اللاعبين الخارجيين من أجل تسوية الازمة السورية، وفي حال النجاح تعقد اجتماعات المؤتمر من أجل التفاوض حول الأوجه المختلفة للتسوية بسبل ملموسة أكثر، ومن الممكن ان تنضم الى المؤتمر الاطراف السورية..."!
هذه الوصفة متاهة حقيقية تأتي في وقت تتزايد المذابح والاخطار التي قد تطوف الى خارج سوريا. والمثير فيها انها تنسف كل ما سبق ان كررته موسكو التي دعت دائماً الى ترك السوريين يقررون ما يريدون.
واذا تذكرنا مدى الخلافات في وجهات النظر ومواقف الدول التي تقترح روسيا مشاركتها في المؤتمر، يمكن القول ان في وسع السوريين ان يتفاهموا على الحل في سوريا قبل ان يتفاهم الآخرون على سوريا، والدليل ان لافروف نفسه وصل الى حد الحديث عن "حرب عالمية ثالثة" قد يسببها التدخل الخارجي في هذا البلد.

صراع الانتخابات المصرية

صحيفة الوطن أون لاين
مع اقتراب يوم التصويت في جولة الإعادة في الانتخابات المصرية بداية الأسبوع المقبل تزداد وتيرة الصراع الانتخابي بين المرشحين أحمد شفيق ومحمد مرسي، وهو صراع تعدى مسألة التنافس بين شخصين ليشمل ما يقارب حربا فكرية ومؤسسية مفتوحة بين تيارين.
مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي ينطلق من قاعدة قوية أظهرتها استطلاعات جولة الإعادة في الخارج، حيث تشير أغلب التقارير إلى حصوله على غالبية أصوات المصريين في الخارج، وهو أعاد طرح نفسه خلال الأيام الماضية على أنه مرشح الثورة وليس فقط الإخوان المسلمين، مستعيرا لهجة ثورية قوية في الهجوم على أحمد شفيق واتهامه بإعادة إنتاج النظام السابق وسحق الثورة والثوار في حال عودته، إضافة لاتهامه بالضلوع في حادثة "معركة الجمل" الشهيرة واللعب على وتر أن ترشيح شفيق سيعني الإفراج عن مبارك، وفي كل هذه التحركات الإعلامية لمرسي حاول استمالة القاعدة الشبابية والثورية إضافة لمحاولات متعددة لاستمالة المرأة والأقباط كقواعد انتخابية من خلال عدم تخويفهم من منهج الإخوان القادم.
على الصعيد الآخر، قام أحمد شفيق كما بدا خلال مؤتمره الصحفي الأخير برفع وتيرة الهجوم على الإخوان حد اتهامهم بالضلوع في الانفلات الأمني الذي أعقب الثورة من خلال مساهمتهم في فتح السجون، كما اتهمهم بخيانة الثورة، مستعيرا لغة التخويف الشعبي من وصولهم للحكم وإعادة إنتاج نظام إسلامي متشدد والانفراد بالسلطات، خاصة في ظل التعطيل القائم بخصوص لجنة تأسيس الدستور التي كان يفترض من مجلس الشعب ذي الغالبية الإخوانية أن ينتهي منها منذ مدة طويلة. شفيق الذي يغازل قطاعات كبيرة من الشعب تسعى للاستقرار وكذلك قطاعات الناخبين من المرأة والأقباط حاول تصعيد هجومه على المنهج الإخواني وتخويف المصريين منه بشتى الوسائل الإعلامية الممكنة.
هذا التصعيد من الطرفين يأتي في ظل أجواء متوترة بالأساس نتيجة تعطيل تأسيس لجنة الدستور والخلاف القائم حولها، وكذلك سعي الإخوان بكل الوسائل للضغط نحو حكم تأييد لعزل أحمد شفيق طبقا لقانون العزل الذي يواجه حكما مقبلا من المحكمة الدستورية إما ببطلانه أو قبوله، في مقابل حكم آخر يتعلق بدستورية الانتخابات البرلمانية، مما يعرض البرلمان ذي الغالبية الإخوانية لإمكانية حله أو حل جزء منه.
في ظل كل هذه التوترات تدخل مصر المرحلة الثانية من الانتخابات في مصير مجهول، ويزيد الطين بلة هذا التصعيد والصراع المفتوح بين المرشحين في الوقت الذي يتطلع العالم العربي كله لعودة مصر وتجاوزها لكل ما يحدث؛ إلا أن المؤشرات للأسف تقود للاعتقاد أن الحالة المصرية لا تتجه للتحسن، وخاصة في ظل الاستقطاب والصراع الحاد الذي ظهرت آثاره في الحرب الكلامية بين مرسي وشفيق.

ظهور الذراع الاقتصادية للثورة السورية.. دلالات ومآلات

د. وائل مرزا
منذ أيام، ظهرت إلى الواقع الذراعُ الاقتصادية للثورة السورية بشكلٍ مُعلنٍ وواضح. وبقراءةٍ سياسية بحتة، يمكن القول أن ظهورها سيكون نقلةً نوعيةً في مسيرة الثورة، لأنها تُمثّل عملية انقلابٍ حاسمة لها الكثير من الدلالات، وكان الكثيرون ينتظرونها منذ زمن. من نافلة القول أن الثورة السورية لم تبق مشتعلةً لأكثر من عام في معزلٍ عن عمليات دعمٍ وإسناد كان يقوم بها بعض أفراد مجتمع الأعمال والاقتصاد السوري بشكل متفرق وفردي في أغلب الأحيان. والمعلومات المتوفرة تؤكد أن هؤلاء ضخّوا مبالغ كبيرة لدعم الثورة في مختلف المجالات. بل إن عودة قيمة الليرة السورية للارتفاع، بعد أن هبطت بشكلٍ حاد منذ أشهر، يُعزى في جزءٍ كبيرٍ منه إلى السيولة التي تمّ صبّها في الاقتصاد من خلال ألوان الدعم والمساندة.
لا يختلف اثنان هنا على أن الصمود الأسطوري للشعب السوري خلال تلك الفترة ناتجٌ أولًا وقبل كل شيء عن قوةٍ نفسيةٍ هائلة لهذا الشعب، أفرزت إرادةً عمليةً لا تُقهر، بهرت العالم بتجلياتها وأمثلتها التي باتت أكثر من أن تُحصى وتُعدّ. والحديثُ هنا عن قوةٍ لا تنفع في غيابها أي ثروةٍ اقتصادية ومالية، وعن إرادةٍ فولاذية لا يمكن للمال أن يصنعها، كما يدّعي النظام زورًا وبهتانًا. وإنما العكس هو الصحيح. بمعنى أن تلك القوة ومعها الإرادة كانا بمثابة القاطرة الأساسية التي جرّت باقي مقطورات الثورة السورية، والتي فرضَت ولا تزال تفرض اتجاه وسرعة الأحداث، ليس فقط على النظام وشرائح الشعب المختلفة، وإنما على العالم بأسره.رغم هذا كله، يعرف القاصي والداني أن الثورة بقيت قرابة عام (متروكةً) من قبل النظام الدولي، ويُصبح منطقيًا الحديثُ عن وجود رأسمالٍ وطني صاحبَ الثورة منذ البدايات، وكان يلعب دورًا في عمليات الدّعم والإسناد، ولو في حدّها الأدنى. ومن الواقعية القولُ بأن صمت مجتمع الأعمال، خاصةً في الداخل، كان يصبُّ بشكلٍ قوي في مصلحة النظام. سيّما وأن الأمر لم يقتصر لدى شريحةٍ من هذا المجتمع على الصمت، وإنما تجاوز ذلك إلى دعم النظام بمختلف الأساليب. بدءًا من تمويل (الشّبيحة) وخدمة متطلبات العمل الأمني والعسكري بشكلٍ عام، مرورًا بالارتزاق القذر من الواقع الذي أحاط بالثورة اقتصاديًا ومعيشيًا، وانتهاءً بتمويل الحرب الإعلامية والدبلوماسية والتقنية والنفسية للنظام، من خلال شبكات وشركات صناعة الرأي والعلاقات العامة الداخلية والخارجية.
لهذا، كان طبيعيًا أن يتبجّح النظام أن مجتمع الأعمال والاقتصاد السوري يقف إلى جانبه، وكان طبيعيًا أن يُشكّل موقف هذا المجتمع أكبر علامة استفهام يطرحها النظام السياسي الدولي دائمًا على المعارضة السورية، وكان طبيعيًا أن يكون هذا الموقف، (المُلتبس) في أحسن الأحوال، أرضيةً لتردّدِ المترددين وعذرًا للخائفين والمتشككين من أبناء الشعب السوري. لكن عزيمة الثورة وقدرتها المهولة على الاستمرار تبقى دائمًا العنصرَ الرئيس في قلب المعادلة رأسًا على عقب، وبصورةٍ واضحةٍ وقوية. فالثوار، مرةً أخرى وأخرى، هم الذين يحددون اتجاه البوصلة. وهم الذين يضعون الأجندة. وهم الذين يصنعون الفعل. وهم الذين يُحددون طبيعة الحدث وسرعته واتجاهه. ومن لا يفهم هذه الحقيقة، سيكون عاجزًا عن فهم ظاهرة الثورة السورية، وعن التعامل معها بأي أسلوبٍ وعلى أي مستوى من المستويات.
ها نحن إذًا أمام لحظةٍ مفصليةٍ انكسرت فيها ركيزةٌ أساسية من ركائز النظام السوري.. والأرجح أن ارتفاع منسوب العنف الوحشي الذي ترتكبه عصاباته نتج عن إدراكه للدلالات الاستراتيجية لما حصل بعد انقلاب مجتمع الأعمال عليه. فمن ناحية، لم تبق لدى النظام الآن سوى الركيزة الأمنية والعسكرية التي أُنهكت إلى درجةٍ كبيرة، ومعها ثلةٌ من المرتزقة الذين ارتبطت مصالحهم كليًا ببقاء النظام وأصبح وجودهم بأسره مهددًا في غيابه. لقد كان من ملامح التوفيق أن يتضمن البيان الصادر عن (المنتدى السوري للأعمال)، والذي يمثل الآن الذراع الاقتصادية للثورة، الفقرة التالية: «إن أعضاء المنتدى يعلمون أن قطرة دم شهيدٍ سوري من شهداء الثورة تفوق بقيمتها أي ثروةٍ مادية، لكنهم يدركون أن انتصار الثورة لا يتحقق إلا من خلال تكامل الأدوار. ومن هنا، فإنهم يؤكدون إصرارهم على أداء دورهم وواجبهم بطريقتهم الخاصة، وبأساليب يُدركون أكثر من غيرهم مدى تأثيرها على النظام، بحيث يكونوا، بإذن الله، رأس حربةٍ في إسقاطه المدوّي، وفي بناء سوريا جديدة تكون منارةً للعلم والإخاء والتنمية والسلام في المنطقة والعالم».فمجتمع الأعمال يُعطي الحقّ لأصحابه بهذا الاعتراف، ويُعيد التأكيد على الدور القيادي للثوار في رسم اتجاه البوصلة ووضع الأجندة وتحديد طبيعة الحدث وسرعته واتجاهه. لكنه في الوقت نفسه يرسل رسائل، سيفهمها أصحاب العلاقة، بأن دخوله الميدان بهذا الشكل المباشر والواضح والشامل سيكون المسمار الأخير الذي يُدقُّ في نعش النظام.

المصريون يذهبون للجان أم لعيادات خلع أسنان

شريف قنديل
ملهاة أم مأساة، أم إرهاصات دولة مدنية أم ثورة جديدة؟!
معارك مفتعلة حول "الرئيس المقبل" حيث تتوجه غالبية الشعب إلى اللجان، وكأنها تذهب الى عيادات خلع الأسنان لتسأل الطبيب: أيهما أسهل في الخلع؟! شفيق الذي يعادي الثورة ويدعي ردّها للشباب ممن اغتصبوها، أم مرسي الذي انحرفت جماعته عنها مفوتة أكبر فرصة في تاريخها للالتحام الحقيقي مع الشعب؟!
معارك أخرى حول تأسيسية اللجنة الدستورية حيث يتمسك كل طرف بحصته ويحارب حول نسبته إلى الأبد، والشعب يراقب في كمد! والحاصل أن كل شيء يجري الآن في البلد يمضي وكأنه "بجد"!
المحكمة الدستورية تتأهب لإعلان قرارها في قانون العزل الخميس، والمشير يلتقي الجنزوري لبحث سير انتخاب الرئيس "السبت"!
الدستورية تتأهب كذلك لإعلان قرارها في حل البرلمان.. والبرلمان يجتمع لإعلان معايير اللجنة التأسيسية للدستور، بناء على دعوة المشير!
تحقيقات موقعة الجمل انقلبت رأسًا على عقب، وكأن ركاب الجمال كانوا هم البلتاجي ومرسي وحجازي، ومطلقي الرصاص كانوا عبدالحليم قنديل، وجورج اسحاق، وعبدالجليل مصطفى شيئًا فشيئًا، سيصبح قتلة الثوار هم الضحايا واللواء البطران هو القاتل، والدكتور البرادعي هو المحرض!!
لقد بقي على 30/6/2012م موعد تسليم السلطة إلى رئيس مدني منتخب 18 يومًا فقط، ولأن احتمالية التسليم قائمة، تقفز على الفور عدة أسئلة للمجلس العسكري، ولليسار الثوري، وللقضاء المصري، فليسأل المجلس نفسه قبل أن يسأله الشعب: هل يحقق تسليم السلطة من الفريق مبارك إلى المشير طنطاوي إلى الفريق شفيق أهداف ثورة يناير؟!
وليسأل اليسار الثوري نفسه أيضًا: هل اكتشفتم فجأة بعد أن صدعتمونا على الفضائيات بحديثكم المكرر والممل عن الدولة المدنية أن الفريق شفيق هو في الأصل دكتور، وأن المدرعات والدبابات في الشوارع هي منصات للتبشير بالديمقراطية؟
أما القضاء النزيه فله كل الاحترام وعليه الإجابة عن أسئلة الشعب الملتهبة وعن لفحات الباطل المتوهجة التي جعلت الحُكم الوحيد الموجود في ملفات قتلة الثوار هو "البراءة"!
أما للثورة فأقول لها ما قاله معلمي الأول عفيفي مطر: فلتحملي آلامي.. يا غنوة الربوع والسنابل الدوامي.. ولتحملي عظامي.. هراوة أو حربة أو خشبة.. ولتجعلي خطاي في الظلام.. مسرجة وعتبة.. وتعلقي في الرقبة.. إيقاعك الذي يحرسني من كلمات النفاق والخيانة!

عندما يصاب الإعلام بالعمى

أنس زاهد
قبل أيام قليلة قام الطيران الأمريكي في أفغانستان، بقتل عدد كبير من المدنيين خلال حفل عرس أغارت عليه الطائرات الأمريكية دون أن تميّز ما إذا كان الهدف الذي تقصفه مدنيًّا أم عسكريًّا!
هذه الحادثة أصبحت لازمة من لوازم السلوك اليومي لقوات الاحتلال الأمريكي في أفغانستان. غارة تليها غارة أخرى، ومدنيون أبرياء يتساقطون خلال كل غارة، ثم اعتذار من قيادة القوات الأمريكية، وأحيانًا من الرئيس الأمريكي نفسه، كما حدث عقب وقوع المجزرة التي ارتكبها الجندي الأمريكي المجرم قبل حوالى شهرين -لم يتم حتى اللحظة إحالة الجندي الإرهابي للقضاء -كما وعد أوباما- لكن كل ذلك لم يدفع قوات الاحتلال الأمريكي لتوخي الحذر أكثر من السابق، وبذل مجهود أكبر للتأكد من طبيعة الأهداف التي يقومون بقصفها لتجنب إيقاع المزيد من الضحايا في صفوف المدنيين.
كل مذبحة من هذه المذابح توضح مدى استهتار الأمريكيين، وحلفائهم الغربيين، بأرواحنا كمسلمين. إنهم لا ينظرون إلينا كبشر بل كذباب.. حتى الحيوانات تحظى بتقدير، وكرامة حسب منظورهم، أكثر منا بكثير.. هل سمعتم أن غربيًّا تجرّأ على قتل كلاب، أو قطط، ثم أفلت من العقوبة؟!
اللافت للنظر أن أخبار المذابح الأمريكية في أفغانستان ترد في العادة مصحوبة بالقليل من صور جثث الضحايا. هل سبق وشاهدتم كيف مات الضحايا الأفغان، وقبلهم العراقيون؟ هل سبق ورأيتم ماذا حل بجثثهم؟ هل سبق وأن عرضت أية محطة تلفزيونية صور الأشلاء التي تمزّقت، والأعضاء التي انفصلت عن الأجساد، والملامح المطموسة بفعل التفحم الناتج عن الاحتراق؟ هل تسنّى لنا ولو لمرة واحدة معرفة الأسلحة والقذائف التي يستخدمها الأمريكيون، وحلفاؤهم الغربيون في قتل البشر هناك؟ إنني لم أرَ طوال سنوات الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، صورة جثة ضحية مدنية واحدة توضح مدى بشاعة الجرم.. أم أنكم تعتقدون أن من يموت نتيجة قصف جوي، إنما يموت بشكل أنيق ودون أن يتحول جسده إلى أشلاء مبعثرة في كل مكان؟!
كاميرات الإعلام تعاني من داء العمى مع كل جريمة يرتكبها الأمريكيون. أليس ذلك عجيبًا بعض الشيء؟!

المصالح توجه السياسات

د. سلطان عبد العزيز العنقري
سياسة أي دولة في العالم، كبرت أم صغرت، توجهها مصالحها، ولذلك أطلق على السياسة على أنها «لعبة قذرة» Politics is dirty game لأننا لا نعرف ماذا يدور وراء الكواليس. فالظاهر لنا والباطن الله جلت قدرته يعلمه. قذارة السياسة تتجسد في تركيزها على الماديات وتتجاهل بل تسحق البشر وحقوقهم. فبعد أكثر من خمسة عشر شهرا، وهو عمر اندلاع الثورة السورية، وبعد المذابح والمجازر التي ارتكبها وما زال يرتكبها النظام السوري الدموي، وبعد مذبحة الحولة والقبير وغيرها من المجازر التي يندى لها الجبين، تخرج علينا روسيا وساستها بتصريحات تزكم الأنوف وابتزاز للعرب لا قبله ولا بعده. تصريحات الساسة الروس هو نوع من التبرير للمأزق الذي أوقع الروس أنفسهم فيه، بل نسميه المماطلة وإطالة عمر النظام السوري الفاشي لكي يستمر بذبح شعبه وتدمير مقدرات الوطن ومكتسباته لكي ينشغل العالم بالاستجداء والاستعطاف لروسيا والصين وتقديم التنازلات والمقبلات والمغريات وتعويضهما عن مصالحهما التي سوف تفقدانهما بسبب دعمهما للأنظمة الفاشية وعداواتهما للشعوب كسياسات خاطئة مبنية على المصالح. الرابح في الأزمة السورية هي بالطبع إسرائيل التي تدير من وراء الكواليس التنين الصيني والدب الروسي وتتفرج على العرب وما يحدث من جامعتهم من قرب ومن بعد؟! هل العرب ملزمون بتقديم تعويضات لروسيا والصين في حالة فقدانهما لمصالحهما في أي منطقة من منطقة الشرق الأوسط؟ من قال إن العرب هم عبارة عن بقرة حلوب للصين وروسيا والغرب؟
لماذا لا تتركنا ما تسمى بالدول الكبرى، المحتلة لمقاعد مجلس الأمن الخمسة، في حالنا نتدبر أمورنا؟! كل يوم يخرج علينا وزير خارجية روسيا لافروف بتصريحات واجتهادات وكأنه وصي علينا ويدير شؤون العالم العربي!! فتارة يخرج علينا لافروف بمقترح مؤتمر دولي جديد بل يحدد المشاركين بما فيها إيران وهي ليست دولة عربية؟! وليس لها حدود مع سوريا، وهي المشكلة والبلاء!!، وتارة أخرى تقول روسيا إنها لا تدعم نظام الأسد بل تدعم استقرار سوريا وأمنها؟! شيء غريب ومضحك ومتناقض. وتارة ثالثة تقول روسيا: «إن نقل السلطة في سوريا على غرار ما حصل في اليمن ملائم إذا أيدها الشعب»؟! انظروا الخدع والتلاعب بالألفاظ والابتزاز في الوقت ذاته، بعبارة أخرى إذا أردتم أيها العرب انتقال السلطة مثلما حصل في اليمن فعليكم بالتعويض المباشر وغير المباشر لمصالحنا وللمليارات من مبيعات الأسلحة للنظام السوري التي سوف نخسرها وقاعدتنا الوحيدة في ميناء طرطوس في الشرق الأوسط.؟!! وهذا غير مستغرب على بلد تحكمها المافيا الروسية. ثم تأتي سوزان رايس، كمندوبة لأكبر دولة في العالم في الأمم المتحدة، لديها مفاتيح الحل في سوريا وفي أي بقعة في العالم، لتقول، اقتباسا، «إن إيران جزء من المشكلة وتقف وراء انتشار العنف في سوريا، وأن لها دور في المشكلة السورية وتلعب دور الشيطان عبر دعم النظام السوري بشكل فاعل في سورية». بالطبع السيدة رايس لم تأت بجديد، فإيران، منذ وصول الخميني للسلطة، الذي يقول عن أمريكا إنها الشيطان الأكبر، تقول عن أتباع الخميني الآن حكام إيران على أنهم الشيطان ولا نعرف أيهما الشيطان هل هي إيران أم أمريكا التي أتت بالآيات والملالي في إيران؟!! ثم ترد روسيا وتقول إن اعتبار إيران جزء من المشكلة السورية هي سذاجة؟! ثم يأتي كوفي عنان ويقول بأنه «يأمل في أن تساهم إيران في حل الأزمة السورية»؟!!
ثم يطالب عنان «مجلس الأمن بتكثيف الضغط على سوريا قبل أن يفلت الوضع من السيطرة». ويقول «إن هناك مجموعة اتصال جديدة من دول تدعم النظام ودول تدعم المعارضة». ثم يطل علينا أمين عام الأمم المتحدة، بان كي مون، ليقول لنا «إن سوريا تستخدم أسلحة ثقيلة ضد المراقبين وقتل المراقبين لن يفيد». عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، جو ليبرمان، يقول: «شن ضربات جوية على سوريا سوف يقلب المعادلة ضد الأسد». أما الصين فما زالت إلى الآن تغرد خارج السرب وتقول إنها تعارض التدخل العسكري في سوريا، ويبدو أن التنين الصيني سوف يتخلى عن الأكل بالعصا إلى الأكل بالملعقة الكبيرة جداً من أموال الشعب السوري. وأمين عام جامعة الدول العربية «يطالب بتطبيق الفصل السابع في الأزمة السورية». كم هائل من التصريحات المتناقضة تكشف لنا التناقض والتخبط وكيف أن المصالح «الماديات» توجه السياسات على حساب الشعوب والأوطان.

شر البلية

صحيفة المدينة
إذا كانت المقولة "شر البلية ما يضحك"، فإن البلية تظهر أكثر ما تظهر في تصريحات الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز عشية رحلته إلى الولايات المتحدة التي امتدح فيها الثوار السوريين معربًا عن أمله في أن ينتصروا، وتعبيره عن الأسى لمشهد الأطفال السوريين الذي يقضون في مذابح النظام وفق ما نشرته صحيفة الإنديبندنت البريطانية أمس، ثم قوله بأن إسرائيل لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي إزاء تلك المذابح في إشارة واضحة إلى إمكانية التدخل العسكري. طبعًا لسنا هنا بصدد التعليق على المفارقة فيما ذكره بيريز حول مذابح الأسد، لسبب واحد بسيط وهو أن الأسد تلميذ مجتهد ليس فقط لبيريز بطل مذبحة قانا التي قضى فيها عشرات الأطفال اللبنانيين، وإنما أيضًا لأنه تلميذ نجيب لكافة سفاحي إسرائيل بدءًا من جابوتنسكي ومناحيم بيجن وإسحاق شامير وحتى إيهود باراك وشارون وموفاز. ما هو أكثر أهمية في تصريحات بيريز يكمن في التلويح بالتدخل العسكري تحت حجة الدوافع الإنسانية، وهو ما يسعى إليه النظام السوري بما يوفره له ذلك من فرصة للهروب إلى الأمام. لكن هذا السيناريو الذي يظل محتملاً يجب التنبيه إلى خطورته، مع التفكير بالسيناريوهات الواقعية التي تتبناها الأمم المتحدة والجامعة العربية، بما في ذلك النظر في عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لحماية المدنيين السوريين وفق الفصل السابع بعد المذابح الأخيرة التي شهدتها العديد من المدن السورية، على أن يكون أي تدخل عسكري لوقف تلك الانتهاكات تحت مظلة الأمم المتحدة على نسق التدخل في البوسنة والهرسك لإنقاذ الأهالي من مذابح الصرب (1992-1995).
وإذا كانت موسكو وبكين وحتى بعض عواصم الغرب لا تزال ترفض فكرة التدخل العسكري في سوريا، حيث يظل الفيتو الروسي والصيني يشكلان عائقًا أمام هذه الفكرة، فإنه لا أقل من أن يحظى الثوار بدعم دولي أكبر لما يمكن أن يحققه هذا الدعم من تثبيت شرعية المعارضة والحفاظ على وحدة سوريا، وأن يجري تشديد العقوبات المفروضة على النظام، والعمل على عزله دوليًا وإقليميًا، كما أن الثوار ينبغي أن يدركوا أهمية أن يوحدوا صفوفهم وجهودهم وكلمتهم في مواجهة هذا النظام الإرهابي.

اليمن.. الفقير الغني

مازن السديري
منذ أسبوعين كنت أشاهد منظر الانفجار الذي هز الاستعراض العسكري في اليمن وكان ضحيته العشرات وسط شعب هو أيضا ضحية الجهل والصراعات. للمعلومية اليمن رغم تمركز القاعدة فيه وهي تمتلك قرى ومناطق داخل أراضيه إلا أن اليمن ينال سمعة ممتازة لدى الغرب وأعرف الكثير من الأوروبيين الذين زاروا أو يحبون أن يزورا اليمن وبرغم حالات الخطف والتصنيفات الدولية لمستوى الخدمات السياحية بأنها دون مستوى المقايسس الدولية إلا أن عدد السياح في اليمن تضاعف من 155ألف سائح إلى 274 ألفاً بين عامي 2003 و 2004 والسبب عراقة اليمن بآثار تاريخية وثانيا وجود مناظر خلابة جمالية حيث تعتبر جزيرة (سقطرى) إرثاً إنسانياً وتحظى برعاية الأمم المتحدة وأضيف سبباً ثانوياً وهى الجالية اليهودية في أوروبا من أصل يمني والتي لاتزال تفاخر بأصولها اليمنية وتقدم الفلكلور اليمني كإرث تفخر به مثل رقصة (البرع اليمنية) .
كانت أولى اللطمات التي هزت الاقتصاد اليمني الضعيف أصلاً هو الموقف الغبي للقيادة اليمنية خلال غزو الكويت والذي نتج عنه طرد مليون عامل يمني من دول الخليج في وقت كان عدد السكان هناك 12مليون نسمة أي ما يشكل قرابة 8.3% عاطلين ( لحساب نسبة العاطلين تقسم نسبة العاطلين على القوة العاملة وليس عدد السكان) ولو فرضنا أن القوة العاملة هى نصف السكان ستكون نسبة زيادة العاطلين 16% جراء الموقف اليمني وتخيل ما لهذه النسبة من أثر ودورها كمصدر للاستهلاك والاستثمار داخل اليمن.
في آخر التسعينيات حاول اليمن الحصول على دعم من صندوق النقد الدولي وباءت محاولاته بالفشل والسبب شروط الصندوق لفرض نظام اقتصادي إصلاحي كان يصعب على اليمن تنفيذه مثل تقليص رواتب الخدمات الحكومية في بلد يفتقد قطاعاً خاصاً حقيقياً ومؤسساتياً قادراً على خلق الفرص الوظيفية وكذلك إيقاف الدعم عن الوقود لشعب الكثير من تضاريسه ومناطقه الزراعية في الجبال، كما أن أغلب المستهلكين هم مزارعون والزراعة تشكل 20% من الناتج القومي وتضم أكثر من نصف الطاقة العمالية وأي ارتفاع لأسعار الوقود كان حساسا للنشاط الزراعي الذي يعاني من التآكل السنوي لآباره الجوفية ومع قلة الأمطار وتكون الطبقات الرملية وافتقاد التقنية للتخزين ومن ثم التصدير لجأ الكثير من المزارعين لزراعة النبتة التي يمكن شراؤها محليا وهى نبة (القات) والتي تتزايد بنسبة 6.5% سنويا وإضافة لما لهذه النبة من مساوئ صحية واعتبارها مخدرا فهي أيضا من أكثر النباتات استهلاكا للماء لبلد يواجه تهديد تآكل الآبار الجوفية.
يضاف إلى مسلسل هدر الموارد الطبيعية في اليمن كمية النفط والتي وصل إنتاجها إلى 420ألف برميل يوميا ثم بدأت بالتناقص (هل كان البترول هو بديل دول الخليج في ظن النظام اليمني السابق خلال الحرب) ، لا أستطيع الإطالة ولكن هذا البلد الحبيب والذي يقدر للأسف عدد البطالة فيه حاليا نحو35% وأعتقد أنها ازدادت مع الأحداث الثورية سوف يواجه عدة تحديات منها التزايد السكاني والذي تضاعف في عقدين حتى وصل إلى 24مليون نسمة وكذلك التعليم، وبرغم الوفرة العمالية إلى أن القدرة الكهربائية محدودة بحوالي 1500ميجابيت أي تشكل نسبة 3% من القدرة السعودية وهذا يشكل عائقا للنمو الصناعي وقبل ذلك هو الاستقرار السياسي والأمني. يؤلمني ما يصيب اليمن وعلى الحكومة القادمة معرفة مواجهة الإصلاحات الهيكلية في البلاد والقانونية وقبل ذلك الأمنية في وجه القاعدة والحوثيين وكان الله في عون الأخوة في اليمن.

موسكو وطهران مهمة انتحارية في دمشق

صحيفة اليوم
يبدو أن موسكو وطهران نجحتا في مساعيهما لتمديد المهل الدولية لإعطاء فرق الموت السورية فسحة من الوقت لارتكاب المزيد من المذابح في صفوف الأبرياء السوريين.
ويبدو أن النظام السوري فهم الإشارة الإيرانية الروسية، أنه في الوقت الذي تعمل موسكو على عرقلة أي تحرك دولي لمنع نظام الأسد وميلشياته من ارتكاب المزيد من المجازر، تكثف طهران من مساعداتها العسكرية والمالية ونشر المزيد من الميلشيات الموالية لها في سوريا لمساعدة النظام على تمديد أيامه الأخيرة بقدر ما يستطيع، تعويلاً على أنه ربما تتغير الظروف الدولية ويصبح للنظام فرصة للبقاء شهوراً أخرى على الأقل، حتى وإن كان كل يوم لبقاء النظام يكلف السوريين مائة قتيل ومذبوح ومئات المعتقلين والمخطوفين.
لكن إستراتيجية موسكو وطهران خطيرة بالنسبة لهما وسير على الاشواك في المسرح السوري. لأن السوريين لا يمكنهم أن ينسوا أن آلافا منهم قد قتلوا وعشرات الآلاف قد اعتقلوا أو اختفوا وملايين قد أهينوا، ونهبت منازلهم وأحرقت مزارعهم وشردوا من مدنهم، بتخطيط من طهران ومساعدة من موسكو.
وإذا ما انتهت الأزمة الراهنة في سوريا، وستنتهي بانتصار حاسم للشعب السوري الثائر، سواء بقي الأسد أو رحل، فإن السوريين لا يمكنهم نسيان الجرائم التي ارتكبت بحقهم بدعم من موسكو وطهران. ثم إن نظام الأسد حتى وإن بقي فإنه لن يكون مفيداً لا لموسكو ولا لطهران، لأن الشعب السوري قد أخذ زمام المبادرة الآن وهو الذي يقرر مصير سوريا وعلاقاتها المستقبلية، ولن يستطيع لا نظام الأسد ولا طهران ولا موسكو الصمود بوجه التيار الوطني السوري الثائر. ولن تعود ليالي طهران وموسكو مقمرة كما كانت، ولن تستطيع طهران إعادة اختطاف سوريا مرة أخرى، ولن تستطيع موسكو إملاء ما تريده على القصر الجمهوري بدمشق، حتى وإن بقي الأسد في سدة الرئاسة في سوريا، لأن بقاءه سوف يكون بقاء رمزياً مجرداً من أية سلطة. فالسوريون لن يقبلوا أن يعيدوا رقابهم إلى حبال نظام البعث وقيود طهران وسياطها. والأسد ونظامه يمثلان خنوع سوريا والسوريين للإرادة الإيرانية.
الأجدى لطهران وموسكو أن تبحث عن طريق آخر ووسيلة أخرى غير الإصرار على بقاء النظام السوري المحتضر، الذي يعيش بفعل المساعدات الإيرانية والروسية وبفعل الإرهاب، بينما يفصح النظام عن هويته كل يوم بأنه جسم غريب ومعاد لسوريا وشعبها وأنه مفروض بقوة خارجية.
وأية قوة خارجية لن تكون أقوى من إرادة الشعوب، حتى الولايات المتحدة نفسها اضطرت للتخلي عن نظام الشاه في إيران ولم تستطع مقاومة الإرادة الشعبية. وسترغم طهران على التخلي عن نظام الأسد في سوريا إن إرادت بناء علاقات مستقبل مع الشعب السوري. أما إذا أرادت أن تستمر في إستراتجيتها الانتحارية في سوريا فسوف تجد نفسها قد خسرت الشعب السوري وخسرت الشعوب العربية وأفصحت عن حقيقة مزاعمها التي تدعي أنها نظام مقاوم لإسرائيل.
والثابت لدينا أن إيران حليفة لإسرائيل ومقاومة للشعب السوري الحر.

مرسي أم شفيق

د. علي عثمان مليباري
الجميع يتابع عن كثب مجريات الانتخابات المصرية ويترقب ما تنتجه الأيام المتبقية لها، وليس المصريون فقط الذين يتابعون بشغف حمى المنافسة الانتخابية، إنما يشاركهم في ذلك الكثير من الشعوب العربية والشعوب الأخرى .فوز مرشح حزب الحرية والعدالة الدكتور محمد مرسي بأعلى أصوات الجولة الأولى للانتخابات يراه البعض انعكاساً لجزء كبير من نبض الشارع المصري ونتيجة لدعم الإخوان المنظم والملموس، ولكن هناك من تفاجأ بحصول الفريق أحمد شفيق على تلك النسبة العالية من الأصوات والتي جعلته ثانياً بعد مرسي ومكنته من دخول سباق إعادة الانتخابات رغم تعرضه لحروب إعلامية قوية قبيل موعد الانتخابات.هذه النتيجة صدمت حلم الثوار وضيقت حريتهم وهم الآن أمام اختيارين أحلاهما مر، فالانتخاب انحصر بين مرشح حزب الإخوان المسلمين وبين مرشح الفلول كما يسميه البعض حيث كان آخر رئيس وزراء في عهد الرئيس السابق حسني مبارك.
المرشحان المتنافسان مرسي وشفيق أصبحا الآن نجما شباك وحديث الناس في مجالسهم الذين باتوا على علم ودراية بسيرهم وآرائهم وببرامجهم الانتخابية. عقد المقارنة بين مرسي وشفيق هو الشغل الشاغل الآن للشارع المصري بكل طبقاته وفئاته يدافعون عن مرشحهم الذين يرون فيه رجل المرحلة القادر على تحقيق تطلعاتهم وأمنياتهم.
هناك من يقول إن دولة الإخوان .. إن فاز مرسي.. لا تتسع لغيرهم وقد يقومون بتصفية حسابات سابقة، وهناك من يقول لا لن يحدث ذلك وإن حدث فهو أفضل من أن يحكم البلاد أحمد شفيق الذي قد سيعيدها إلى ما كانت عليه قبل الثورة، وآخرون يرون أن تقدم مصر واستعادة هيبتها سيكون على يد شفيق في حال انتخابه رئيساً لمصر، وهكذا بات الجميع يترقب الأيام المتبقية للانتخابات وشغوفاً بمعرفة من الذي سيتوج بحكم مصر.
المتابعون يعلمون أن بعض شباب والقوى الليبرالية لا يثقون في البرنامج الرئاسي لمرسي مرشح الإخوان ولا يمكن أن يعطوا أصواتهم لشفيق المرشح المحسوب على نظام الحاكم السابق. ولجذب أصواتهم سيعمل مرسي على تقديم بعض التعهدات كتشكيل حكومة ائتلافية وبناء تحالفات للتوافق الوطني مع الأصوات الرافضة لشفيق، وفي المقابل سيهتم شفيق بجذب أصوات المتخوفين من الإخوان وتقديم وعود مدنية تتفق مع أهداف المرحلة المستقبلية حتى يقتنع المصوتون بعدم انتمائه للنظام السابق.
لا شك أن محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك وبعض أركان حكمه السبت قبل الماضي أثارت حالة من الفوضى والانقسامات وستستمر تداعياتها وسيظل الشارع السياسي محتقناً ومليئاً بالشائعات لفترة، وسواءً انتخب المصريون الدكتور محمد مرسي أو الدكتور أحمد شفيق فإن الرئيس المنتخب سيكون تحت المجهر طوال سنوات حكمه الأربعة وهو يعلم أنَ الأمور لم تعد كما كانت، وبالتالي لن يستطيع مرسي أن يكون إخوانياً بالكامل، ولن يكون شفيق امتدادً للنظام السابق.

في السؤال عن معنى الحروب العربية - الإسرائيلية

ماجد كيالي
من بين الحروب الإسرائيلية - العربية العديدة، ثمة اثنتان تحتلان مكانة تأسيسية في تاريخ هذه المنطقة، الأولى حرب 1948، وقد نجم عنها قيام إسرائيل كدولة وكمشكلة، ونشوء قضية فلسطين، والثانية حرب 1967، التي نتج عنها احتلال باقي أرض فلسطين، مع الجولان السورية وسيناء المصرية، وتدشين إسرائيل كقوّة إقليمية عظمى، وهذا يفيد أن باقي الحروب إنما هي هوامش لهاتين الحربين، لأن أياً منها لم تغيّر من واقع وجود إسرائيل، ولا من مكانتها في هذه المنطقة حتى الآن.
لنلاحظْ أن ثمة صعوبة في الحديث عن تلك الحروب، إذ ليس ثمة رواية رسمية عنها، ولا وثائق تعرِض أحداثَها، ولا إحصائيات تشرح موازين القوى والخسائر الناجمة عنها، وكيف حصل ما حصل (؟!!)، ولنلاحظْ أيضاً أن مصطلح «الحروب العربية-الإسرائيلية» إنما هو تعبير مجازي، وينطوي على تلاعب وتورية، لأن معظم هذه الحروب كانت تشنّها إسرائيل من طرف واحد (باستثناء حرب 1973).
على الأرجح أنه قد تم صكّ هذا المصطلح للاستهلاك والتوظيف من قبل إسرائيل والأطراف العربية، إذ من خلاله روّجت إسرائيل لنفسها أمام العالم باعتبارها ضحيّة في وسط غابة من الذئاب، لجلب التعاطف والدعم، سياسياً وعسكرياً ومالياً، ولإظهار منعتها وقوّتها على الصعيد الداخلي. أما النظام العربي، فقد وظّف هذا المصطلح لإثبات براءته، وتكريس شرعيته من جهة، ولتبرير هيمنته الشمولية على البلاد والعباد من جهة أخرى، بما في ذلك مصادرة الحريات، وتأخير عمليات التنمية.
والحاصل أن أي تفحّص لمجريات تلك «الحروب» سيبعث على الدهشة بشأن حقيقة ما جرى، وسيثير الشكّ في شأن أهلية النظم المعنيّة وصدقيّة ادعاءاتها الوطنية، ففي الحرب الأولى (1948) مثلاً، جرى الترويج لهجوم سبعة جيوش على إسرائيل، في حين كانت الدول العربية بالكاد حصلت على استقلالها، ولا تمتلك جيوشاً حقيقية، وخصوصاً أن ماحشدته تلك الجيوش المزعومة لم يزد عن 25 -30 ألفاً، في حين تراوَحَ عديدُ القوات الصهيونية في مراحل القتال المختلفة، بين 60-100 ألف مقاتل. وفي كل الأحوال، فقد تُرك الفلسطينيون لمصيرهم، من دون تسليح، بدعوى أن تلك «الجيوش» ستقوم عنهم بتلك المهمة في غضون أيام! وبالنتيجة، ربحت إسرائيل تلك الحرب ومعها 77 بالمئة من أرض فلسطين، التي تم تشريد معظم شعبها.
وما يجب الانتباه إليه أن إسرائيل هذه، التي كانت قامت للتو، استطاعت في تلك الحرب احتلال 5 آلاف كلم مربع من حصّة الفلسطينيين في قرار التقسيم (1947)، ما زاد حصّتها -بموجب القرار المذكور- من 55 إلى 77 بالمئة من ارض فلسطين، والخمسة آلاف كلم مربع هذه توازي مساحة الضفة والقطاع، التي عادت إسرائيل واحتلتها عام 1967، وتسعى القيادة الفلسطينية منذ عقود لإقامة الدولة المستقلة فيها.
أما الحرب التأسيسيّة الأخرى (1967)، فقد شنّتها إسرائيل على ثلاثة دول (مصر وسورية والأردن)، اثنتان منها لها مكانة مركزية في العالم العربي، وكان في كل منهما قيادة ذات نزعة قومية (مصر وسورية). وقد نجم عن هذه الحرب تدمير البنية العسكرية لجيوش هذه الدول، مع خسارة بشرية تقدّر بحوالى 15-20 ألف عسكري، في مقابل 800 فرد من الجيش الإسرائيلي. وفي تلك الحرب، ازدادت مساحة إسرائيل إلى خمسة أضعاف، مع احتلال باقي الضفة وغزة والجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية.
ما تنبغي ملاحظته هنا أيضاً، أن الحربين الرئيستين اشتغلت إحداهما عكس الأخرى بالنسبة للأطراف المعنيين، فقد نجم عن الأولى صعود القومية العربية (الناصرية والبعثية)، التي تُوّجت بلا منازع على عرش مصر وسورية والعراق، في حين تمّ لجم الوطنية الفلسطينية، بتقويض «حكومة عموم فلسطين» (1948) وبحرمان الفلسطينيين إقامةَ دولة لهم في الضفة وغزة، إذ ضُمت الأولى إلى الأردن، وأُتبعت غزة إلى الإدارة المصرية. أما الحرب الأخرى (1967)، فقد قَوّضت الفكرة القومية ونزعت قداستها، في حين أنها أطلقت الوطنية الفلسطينية، المعطوفة على فكرة المقاومة المسلحة. واللافت أن الحرب الأولى التي مزّقت وحدة العالم العربي، والتي زلزلت أحوال الفلسطينيين، لم تؤثّر على الوضع العربي بالقدر ذاته الذي شكّلته الحرب الأخرى.
أما بالنسبة إلى إسرائيل، التي تأسّست في الحرب الأولى، فقد كان للحرب الثانية تأثيرات متناقضة عليها أيضاً، إذ نتج عنها تحقيق التطابق بين «أرض إسرائيل» و «شعب إسرائيل» (بحسب التعبيرات الإسرائيلية)، باحتلال الضفة الغربية (مع غزة). لكن نتج عن هذا أيضاً المطابقة بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية، ما أدى إلى صعود التيارات اليمينية والدينية والشرقية في إسرائيل، وانحسار مكانة التيارات العلمانية واليسارية والأشكنازية، الأمر الذي أوصل حزب ليكود إلى الحكم لاحقاً.
وهكذا، فرغم عوائد الاحتلال الاقتصادية، لم يكن كله ايجابياً بالنسبة إلى إسرائيل، إذ أنه وصمها بطابع الدولة الاستعمارية العنصرية، وأدى إلى كسر احتكارها لمكانة الضحية، وأثار الشكوك حول معنى الديموقراطية فيها، لاسيما مع الانتفاضة الأولى التي حدثت بعد عقدين من الاحتلال. وبالمقابل، فإن هذا الاحتلال، الذي وحّد «أرض إسرائيل»، وحّد أيضاً الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر، وعزّز هويتهم الوطنية.
ومع أن هذه الحرب نقلت العرب من الصراع على وجود إسرائيل إلى الصراع على شكل هذا الوجود، أي من ملف 48 إلى ملف 67، إلا انه وضع إسرائيل في مأزق من نوع جديد، فهي باتت في مواجهة ما تسميه الخطر الديموغرافي (الفلسطيني)، الذي يهدد طابعها كدولة يهودية، ويطرح التساؤلات حول حقيقتها كدولة ديموقراطية من جهة، ومن جهة أخرى وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة دائمة مع الوطنية الفلسطينية التي تسعى إلى تجسيد ذاتها في دولة في الضفة والقطاع، واستعادة حقوق الفلسطينيين التي أقرها المجتمع الدولي، وضمنها حق العودة للاجئين. وفي تلك الغضون، وجدت إسرائيل نفسها في تناقض فريد في نوعه، فهي لا تستطيع ضمَّ الأرض المحتلة، التي تعتبرها «أرض الميعاد» خاصّتها، ولا هي راغبة بالتخلّي عنها، في ما بات يشكّل واحداً من أهم التشقّقات في المجتمع الإسرائيلي ونخبه السياسية والثقافية.
على ذلك، فكل ما يتعلّق بهذه الحروب يثير الدهشة ويبعث على التساؤل، وقائعها وإحصائياتها والأساطير التي نسجت حولها، وكل ذلك يؤكد بأن إسرائيل إنما تفوّقت وتغلّبت -رغم امتلاكها جيشاً صغيراً- بفضل تميّزها في مجالي القيادة والإدارة والإرادة السياسية وطريقة صنع القرار فيها ومستوى تأهيلها لمواردها البشرية، وليس فقط بفضل مستوى تسلّحها.
ولعل الأشد إدهاشاً وإيلاماً ودلالةً، تلك الفجوة الهائلة بين حجم الخسائر البشرية التي تكبدتها إسرائيل، في كل الحروب التي خاضتها ومع كل المقاومات التي واجهتها، وهي لا تزيد عن 21 ألفاً في 64 عاماً، والخسائر البشرية الباهظة التي تكبدها الفلسطينيون واللبنانيون والسوريون والمصريون... وغيرهم في الحروب مع إسرائيل، وفي الحروب الأهلية التي قامت بسببها، ناهيك عن الاحتلالات والأكلاف السياسية والاقتصادية لكل ذلك.
هذا يعني أن أموراً وسمت إدارة الأنظمة المعنية لأحوال مجتمعاتها، كالنقص في الكفاءة وضعف روح المسؤولية وهدر الطاقات والموارد... تنطبق أيضاً على شكل إدارتها صراعَها مع إسرائيل وحروبها معها. وبالطبع، فإن هذا ليس له صلة بالتضحيات التي بذلها جنود وضباط في خنادق الحرب، وسطروا خلالها صفحات من المجد والبطولة.
قصارى القول أن الحروب العربية-الإسرائيلية هي أقرب إلى أسطورة جرى تصنيعها في الإذاعات والشعارات، مثل أساطير أخرى، فهذه الأنظمة لم تحارب حقاً ولم تهيئ ذاتها للحرب قطّ. وفي الغضون، فإن هذه «الحروب» استمرت أياماً معدودات في حين أن الحروب الحقيقيّة كانت تجري في مكان آخر، ولمواضيع أخرى، وقد نتج عنها تهميش المجتمعات العربية، وتبديد طاقاتها، وإخراجها من السياسة ومن التاريخ.
آن الأوان، مع ثورات الربيع العربي، لإخضاع كل شيء للفحص والنقد والكشف والمساءلة، وضمن ذلك أسطورة «الحروب» مع إسرائيل، وتوظيفاتها السلطوية.

حُروب فضائية باردة

خيري منصور
ليستْ ما يُعرف باسم حَرْب النجوم، ولا صِلة لهذه الحروب بمناورات النجم سواء كان ساطعاً أو انقرض ولايزال نوره مسافراً نحو هذا الكوكب، إنها حرب كلامية أولاً وأخيراً، وإن كانت تستخدم الصورة لمزيد من التأثير أو من أجل التوثيق. فالحدث الواحد له ما يقارب العشر روايات في الفضائيات العربية وغيرها، وهذا يتطلب تدخلاً سريعاً من ابن خلدون أو أحد أحْفاد أحْفادِهِ كي يُقارن بين الروايات ويَحْشِدَ القرائن ليرجح واحدةً على أخرى. لكن الإيقاع الفضائي المتسارع والخاطف لا يتيح لابن خلدون أو أي ابْنٍ آخر، أنْ يجد الوقت ليمارس مهنته، سواء في التأريخ أو التحليل.
إن هذه الحرب أيديولوجية بامتياز، فالمراسلون لا يرصدون غير ما هو مسموح لهم برصده، والكاميرات تُصابُ بالعمى أحياناً إذا كانت المَشاهد لا تتناغم مع السِّياق الإعلامي الذي ترد من خلاله.
ولا يحتاج المُراقب إلى أكثر من بضع دقائق كي يتأكد من هذه الحرب، بحيث يتنقّل بين قنوات عدة ثم يُقارِنُ بين أدائها ونبرة مُذيعاتِها ومُذيعيها. فقد يكتشف أن الحدث قد فَرَّخَ أحداثاً، وأن ما يستحق التصفيق من خلال قناة ما، يستحق الإدانة ورُبما التجريم مِنْ قناةٍ أخرى مُضادة. إن حرب الفضائيات التي تتدرج من البارد إلى الدافئ، رغم برودتها من حيث تصنيف الحروب وأدواتها وساحاتها، تدفع المشاهد إلى التأكد من أن عبارة الإعلام المحايد الذي يقف على المسافة ذاتها من كل الأحداث هي مجرد كلمات في الهواء، لا دلالة لها ولا رصيد. والأرجح أن حكاية الإعلام المحايد هي منذ اشتقاقها تعبير افتراضيّ، أو حدّ أقصى يتعذّر بُلوغه، ويصلح فقط لأن يُقاسَ عليه من حيث الاقتراب من سَقْفِهِ أو الابتعاد عنه، وقد نفهم التبايُن في أساليب التعامل مع الواقع، لكن هذا التباين لا يصلُ حَدَّ التّضاد بحيث يتحول المقتول أحياناً إلى قاتل والعكس صحيح أيضاً.
وأدْلَجَةُ الإعلام بدأت قبل أن يصلَ إلى الحروب الفضائية بزمن طويل، فقد كان المذياع الخشبي منذ بواكير اختراعه قابلاً لهذا التوظيف، وكذلك الصُّحف في طورها البدائي قبل أكثر من قرن ونصف القرن.
إن مجال الاجتهاد في استقراء الوقائع يتسع لاختلافات في حدود المعقول والمنطقي، لكن لا مجال للاجتهاد إزاء حقائق مُصوّرة ولها شهودها. ولسوء حظّ الفَضاء المُؤَدْلج فإن الضحية ليست خرساء، وبالتالي فإن الجرائم كلها تبقى ناقصة ولا تكتمل بحيث تُطوى وتُسجَّل ضد مجهول. والمفارقة هي في كون التَّقدم على صعيد التّقْنية بالنسبة إلى وسائل الاتصال لم يكن متناسباً طردياً مع تقدم في العدالة والموضوعية، وما حدث هو العكس بحيث تم تسخير هذا التقدم في التقنية لمصلحة المزيد من التضليل وإجراء جراحات تجميل لواقع قبيح. قد لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الحروب الفضائية ضاعفت من إرباك مُشاهديها، لأن عدوى الصراعات الأرضية انتقلت إليها.

مرحلة الانتقال وروح الانتقام

مصطفى الفقي
يفزعني  مثل غيري  تلك الروح الانتقامية الوافدة على الشعب المصري في الفترة الأخيرة، ولست أشك في أنها رد فعلٍ متوقع للشحن الطويل من القهر السياسي والفساد الاقتصادي والتراجع الثقافي في العقود الأخيرة، ولكن الكثيرين يتساءلون حولنا: ماذا جرى لهذا الشعب الذي كان معروفاً بالتسامح وسعة الصدر، فما باله اليوم يفرز أحقاداً دفينة ويطرح غضباً عارماً ويمارس عنفاً غير مبرر في كثير من الأحيان؟ هل تغير المزاج المصري أو أن شيئاً ما طرأ على الشخصية الوطنية فدفع الانفعالات الانتقامية للسيطرة على هذه الفترة الانتقالية؟! ولست أدعو من خلال هذه الكلمات إلى نوعٍ من الصفح العفوي أو إسقاط الحقوق أو إهدار الدماء، بل إنني أقول صراحة إن كل شيء قابل للمناقشة إلا أرواح الشهداء، وإني إذ أدعو اليوم أبناء هذا الوطن الواحد إلى مراجعة سريعة للوضع الراهن واحتمالات المستقبل أمامه، فإنني أرصد وبكل أمانة الضباب الذي يغلف حياتنا والغيوم التي تحجب الرؤية أمامنا، والصخب الشديد الذي أصبح سمة لنا، وإذ أقول ذلك فإن عيني على تجارب سبقتنا وشعوب مرت بمثل ظروفنا واستطاعت أن تجتاز العوائق والصعاب بثبات وصبر ورحابة وطنية ورؤية شاملة، دعونا نطرح ما نريد أن نتحدث عنه من خلال النقاط الآتية:
أولاً: إن المصالحة الوطنية الشاملة لا تعني على الإطلاق نسيان الماضي أو إغلاق الملفات، ولكنها تعني بالدرجة الأولى إحداث عملية تعبئة شاملة تسمح لنا بالتحرك إلى الأمام من دون أن ننسى أهمية إلقاء نظرة إلى الوراء بين حين وآخر، إذ ليس المطلوب أبداً أن نعفو عن مستبد أو نتستّر على جريمة ولكن المطلوب بشدة أن نعلي المصلحة العليا للبلاد، ونعلو على الجراح، وننظر إلى المستقبل أكثر من نظرتنا إلى الماضي، وقد تكون تجربة دولة جنوب إفريقيا بقيادة مناضل العصر “نيلسون مانديلا” نموذجاً يستحق الدراسة والتأمل بعدما سقط النظام العنصري في تلك الدولة الإفريقية الكبيرة المتعددة الأصول والأعراق من أفارقة وأوروبيين وهنود وغيرهم، فما بالنا بشعب مصر المتجانس تاريخياً، المنصهر حضارياً، أليس جديراً به أن يمضي على طريق يسمح لهذا الوطن المنصهر تاريخياً، المتوحد ثقافياً، بأن يمضي على طريق يقترب من تلك التجربة الإنسانية الرائعة؟ وأعود فأكرر إن الدماء لا تقدّر بثمن كما أن الشهداء نجوم يُرصّعون تاريخ الوطن، ولكن قضايا النهب والسلب وسرقة الأموال تحتاج إلى مصالحة من نوع آخر ونظرة مختلفة عما نحن عليه، فالقضاء يأخذ مجراه، ولكن القافلة يجب أن تمضي في طريقها من دون توقف، ولا يخفى علينا أن كثيراً من قطاعات الدولة المصرية مصابة بنوع من الشلل الوقتي الذي يجب أن نواجهه في شجاعة وجسارة وإيمان. وقد يقول قائل إن ظروفنا تختلف، فقد كانت القضية في “جنوب إفريقيا” قضية ثقافية ذات بعد تاريخي، وعندما نبذ المجتمع هناك الأساليب العنصرية كان مستعداً بالضرورة إلى استلهام روح العصر والاتجاه نحو المستقبل بشكل مختلف. ولكنني أقول: لا يمكن أن نظل أسرى الماضي، وعبيداً للأحزان، بل يجب أن ننطلق جميعاً في سماحة ورضىً وراء من تأتي به صناديق الانتخاب ومن جاءت بهم الانتخابات البرلمانية أيضاً، ولكن عليه وعليهم، لم الشمل واستيعاب الواقع، لأن الوقت يمضي والوطن ينزف والموارد تتراجع والأزمات تطل علينا كل يوم!
ثانياً: إن الجدل الزاعق الذي يدور، والحوار الهابط الذي نستمع إليه، والتراشق بالاتهامات وتبادل السباب والنقد المتجاوز، كل هذه أمور تدعونا إلى تأمل ما يجري بعين موضوعية ترتفع فوق الآلام سعياً وراء تحقيق الآمال والأحلام، والمسألة ليست بهذه السهولة، فأنا أدرك كما يدرك الجميع، صعوبة تجاوز ما كنَّا عليه وما عشنا فيه، ولكن الأمر في النهاية يحتاج إلى شجاعة الصفح وشيوع روح المصالحة والقدرة على الفكاك من قبضة الماضي اللعين.
ثالثاً: إن حزب “الحرية والعدالة” ومن بعده “الأحزاب السلفية” مسؤولة بالدرجة الأولى عن تحريك الشعب وتعبئة قواه تجاه مسيرة مدروسة للإصلاح تشارك فيها كل القوى السياسية والخبرات الوطنية من دون تفرقة أو استبعاد أو إقصاء، وكفانا حزناً أن النظام السابق قام بتجريف “مصر” من أغلى مواردها البشرية وحصر نطاق حركته في إطار محدود على نحوٍ أدى إلى حرمان كفاءات متميزة من ممارسة دورها الفاعل على الساحة الوطنية والمسرح السياسي، لذلك يجب ألا تقع الأغلبية الجديدة في أخطاء الأغلبية السابقة وإلا فإننا نعيد إنتاج الماضي من حيث الشكل على الأقل.
رابعاً: إن سقوط “جدار الخوف” لا يعني انهيار القيم أو العبث بالتقاليد، أو إطاحة القانون، أو تجميد احترام الأكبر والأكثر خبرة، فالتواصل بين الأجيال هو آلية الحركة نحو المستقبل وصمام أمانها، وواهم من يتصور أن الإصلاح يبدأ من جيل معين أو تيار بذاته، فالكل شركاء في صناعة المستقبل وصياغة الحياة الجديدة لشعب عانى طويلاً وحان وقت دخوله بوابة العصر بشكل مدروس ومنطق حضاري يقوم على رؤية شاملة وإدارة واعية.
خامساً: علينا أن ننظر إلى الخطر المحدق بنا من كل اتجاه، والذي يلزمنا بقدر كبير من الحذر واليقظة خصوصاً على المستويين العسكري والاقتصادي، فدولة “إسرائيل” ترصد كل ما يدور في أروقة السياسة المصرية وتتابع عن كثب ما يجري على أرض أكبر دولة عربية هي رائدة المنطقة تاريخياً ومركزها جغرافياً، ولم يكن وزير خارجية “إسرائيل” يهذي عندما قال إن (الثورة المصرية أشد خطراً على “إسرائيل” من “إيران”)، كما أن بعض تصريحات مرشحي الرئاسة المصرية أثارت قلقاً لدى حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت في “إسرائيل” أخيراً على نحو يتخذه غلاة المتعصبين هناك مبرراً للاستعداد لعمل عدواني جديد قد تكون بعض مناطق “شمال سيناء” هدفاً له.
أليس الأجدر بنا  أيها السادة  أن نركز اهتمامنا على ما يدور حولنا محلياً وإقليمياً ودولياً بدلاً من الخطاب الانتقائي الذي يحجب الرؤية ويعدم الإرادة؟ إن “مصر” بلد ثري بتراثها وشعبها ويجب أن تمضي على طريق أفضل بكثير مما هي عليه، فالانتقام سهل ولكن المصالحة هي التي تحتاج إلى شجاعة وطنية، كما أن الهدم تصرف سلبي ولكن البناء الجاد هو طريق الوطن نحو المستقبل الواعد.

سوريا بين اليمن وليبيا

علي الغفلي
بعد مرور نحو خمسة عشر شهراً على اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية، لم يقرر الرئيس بشار الأسد الفرار إلى خارج البلاد، كما فعل زين العابدين بن علي في تونس، ولم يقرر التخلي عن السلطة كما فعل حسني مبارك في مصر. لايزال نظام الأسد يتمسك بالسلطة، وهو يصر على القيام بذلك من خلال استخدام أقسى الأدوات الدموية، وقد نجح في فرض اليأس في نفوس من يأملون بقرب نهايته بالطريقة التونسية أو المصرية. يضع استمرار نظام الأسد في سدة الحكم المجتمع الدولي أمام أحد احتمالين بشأن كيفية معالجة الأزمة السورية، يتمثل الأول في النموذج اليمني الذي أدى من خلال الضغط الدبلوماسي إلى إجبار علي عبدالله صالح على الانسحاب من السلطة ونقلها إلى نائب الرئيس، ويتحدد الثاني في النموذج الليبي الذي تعاونت فيه الحرب الأهلية مع الحرب الدولية على اجتثاث نظام معمر القذافي.
إذا كان نظام صالح قد اعتمد أسلوب المماطلة والتسويف مع الجهود الدبلوماسية الدولية من أجل تفادي مصير زواله من الحكم، فإن نظام القذافي كان قد اعتمد أسلوب العنف المسلح ضد شعبه من أجل زيادة فرص بقائه في السلطة. تستند استراتيجية نظام الأسد بدورها إلى توظيف الأداتين معاً، إذ إنه يزاوج بين تفريغ المساعي الدبلوماسية الدولية من مضامينها المؤثرة من خلال المماطلة المفضية إلى اليأس من جهة، والفتك بالثورة الشعبية بالأساليب العسكرية بغرض تكسير إرادة القوى المعارضة من جهة أخرى. لقد فقد نظام الأسد شرعيته السياسية من حيث الجوهر، ولكنه لايزال من الناحية الواقعية يمارس السلطة السياسية، وذلك بفضل النجاح الواضح الذي يحققه، للأسف، من خلال الإجهاد الذي تسببت به هذه الاستراتيجية الثنائية بالنسبة إلى إرادة المعارضة السورية في الداخل وقوى المجتمع الدولي المناوئة في الخارج.
في ظل حالة الإجهاد واليأس المسيطرتين على المتعاطفين مع مطالب الشعب السوري إزاء إمكانية وفرص سقوط نظام الأسد، تبدو الخيارات المتاحة من الناحية النظرية على الأقل، متأرجحة بين احتمال تطبيق الأسلوب الدبلوماسي اليمني، واحتمال الاضطرار إلى تبني الأسلوب العسكري الليبي، وذلك ضمن الإدراك السائد بأن مكونات الأزمة السورية والظروف المحيطة بها، قد تجعل من الصعب تصور إمكانية التطبيق الناجح لأي من الأسلوبين من الناحية العملية.
يمكن تصور أن من شأن مثابرة الجهود الدبلوماسية الدولية أن تؤدي إلى الدفع بالرئيس بشار الأسد إلى قبول الانسحاب من السلطة، بيد أن نظام الأسد لن يتسامح مع أي شخص في داخل سوريا أو خارجها يمكن أن يقدم نفسه بديلاً يلقى الدعم الدولي لتولي السلطة في دمشق، وذلك خلاف الحالة اليمنية التي أمكن فيها تحديد البديل المؤقت للرئيس صالح، والذي قبل هذا الأخير نقل السلطة إليه. أبعد من ذلك، لا يبدو أن المجتمع الدولي متفق حتى الآن على شخصية القائد البديل في سوريا، وذلك نظراً إلى الدعم الذي تقدمه كل من روسيا والصين لشخص بشار الأسد، على الرغم من تصريحات مسؤولي هاتين الدولتين بأنهما غير متمسكتين بالأسد، وهي تصريحات فارغة المضمون يجب ألا تنطلي على أحد. أسوأ من ذلك، لقد ارتكب نظام الأسد جرائم بشعة في حق الشعب السوري، إذ بلغت أعداد ضحاياه من القتلى والجرحى والمعتقلين عشرات الآلاف، إضافة إلى المجازر المروعة التي تتنقل بين المدن السورية، ويصعب تصور أن أية مبادرة دولية تهدف إلى نقل السلطة في دمشق على غرار نموذج التسوية اليمنية، يمكن أن تتجرأ على إعطاء أي شخص في نظام الأسد الوعد بعدم ملاحقته جنائياً مقابل تنازل بشار الأسد عن السلطة.
ويمكن تصور، في المقابل، أن التحدي الفظيع الذي تشكله ممارسات القمع والقتل التي دأب نظام الأسد على اقترافها طوال أيام الأزمة السورية الراهنة، يدفع بالمجتمع الدولي إلى أن يمنح خيار التدخل العسكري ضد دمشق أهمية متزايدة، وواقع الأمر هو أن باريس أعلنت صراحة جدية هذا الخيار على الرغم من مخاطره. بخلاف الحالة الليبية، فإن احتمال أن يجر أي نوع من التدخل العسكري الخارجي ضد نظام الأسد، إلى اتساع نطاق الحرب الإقليمية في المنطقة هو أمر وارد تماماً، ومن المؤكد أن مخاطره المروعة تجعل الاعتقاد أن قبول استمرار المستوى الحالي من العنف والقتل في سوريا هو أمر أكثر عقلانية من التهور في التسبّب بامتداد مستويات أكثر خطورة وفتكاً من العنف في حال نشوب حرب إقليمية كأحد المضاعفات المحتملة لأي تدخل عسكري دولي على غرار الأزمة الليبية. وبخلاف الحالة الليبية كذلك، فإن من شأن تحرك أي تحالف عسكري دولي ضد دمشق، أن يبدو بمثابة اعتداء مباشر على كل من روسيا والصين، وهما الدولتان اللتان لا تدخران وسعاً أو توفران مناسبة لتأكيد رفضهما القاطع لأي تدخل دولي في سوريا. إنْ صحّت المخاوف إزاء ردود أفعال كل من موسكو وبكين تجاه التدخل العسكري الدولي في سوريا، فإن القيود التي تفرضها المضاعفات الأمنية العميقة على تطبيق هذا الخيار، تصبح مفهومة بكل تأكيد.
يمكن للدول الخليجية أن تنسب إلى نفسها الفضل في المساهمة الفاعلة في تسوية الأزمة اليمنية بالوسائل الدبلوماسية، تماماً كما يمكن للدول الغربية أن تنسب إلى نفسها الفضل في المساهمة الحاسمة في معالجة الأزمة الليبية بالوسائل العسكرية. لاتزال الأزمة السورية بعيدة تماماً عن أية نهاية متوقعة، ولايزال الفضل في المساهمة الناجحة في معالجتها بأي شكل من الأشكال، تائهاً بين هشاشة الجهود الدبلوماسية ومخاطر الخيارات العسكرية. تتجاوز أهمية الأزمة السورية مطالب الشعب السوري بالحرية والديمقراطية، وتمتد إلى تشكيل القضية التي يمكن أن تتمحور حولها صياغة آليات صعود بعض الدول إلى مراتب أعلى من النفوذ الدولي. إن الكيفية التي سوف تتم من خلالها صياغة نهاية الأزمة السورية، سوف تسهم بدورها في صياغة جوانب مهمة من علاقات القوة في الساحة الدولية، ويمكن أن تؤثر أيضاً في صياغة شكل النظام الدولي المقبل، وهي فرصة لا تريد كل من روسيا والصين وحلفاؤهما تفويتها بكل تأكيد، وسوف تتمسك هذه الدول بممارسة أدوارها الكاملة في إدارة الأزمة ورسم نهايتها بالشكل الذي يخدم صياغة مكانتها الطامحة إليها، في إطار المنافسة العالمية مع الولايات المتحدة وحلفائها.

مصر.. انقسام مخيف

عماد الدين أديب
النخبة في مصر منقسمة بانتظار نتيجة الانتخابات الرئاسية بين مرشح «الإخوان» الدكتور محمد مرسي ومرشح المجلس الأعلى للقوات المسلحة الفريق أحمد شفيق.
الفريق الأول من النخبة أعد حقائبه من الآن للهجرة إلى الخارج إذا فاز أحمد شفيق، أما الفريق الثاني فقد أعد حقائبه للهجرة إذا فاز الدكتور محمد مرسي! وطلبات تأشيرات السفر على السفارات الهامة في القاهرة زادت في الآونة الأخيرة بشكل غير مسبوق، أما طلبات الهجرة إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا فإنها أصبحت تسبب ضغطا وإزعاجا على سفارات تلك الدول في العاصمة المصرية.
أزمة نتيجة هذه الانتخابات، بصرف النظر عن الفائز والمهزوم، أنها سوف تؤدي إلى انقسام حاد في الرأي العام المصري، وسوف تزيد إلى حالة التخندق السياسي والعداء الاجتماعي بشكل غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث.
كانت سمة التعايش والقبول بالآخر هي إحدى الركائز الإيجابية التي تميز المجتمع المصري حتى إلى أن وصلنا إلى مجتمع ما بعد ثورة يناير.
قامت الثورة ولم تحدث عملية مصارحة ومصالحة، بين القديم والجديد، بين القوى التقليدية والثورية، بين أنصار الإسلام السياسي والقوى الليبرالية، بين أنصار العدالة الاجتماعية وقوى الاقتصاد الحر.
باختصار فشل المجتمع وفشلت قواه السياسية في صياغة عقد اجتماعي وسياسي للتعايش في ما بينهما. وآخر هذه المحاولات الفاشلة هي انسحاب بعض الأحزاب من المحاولة الأخيرة لعمل لجنة تأسيسية لصياغة الدستور الجديد للبلاد.
هذه الحالة أوصلت مصر إلى مرحلة تنذر بعدم القدرة على العيش المشترك وفقدان تلك الصفة المميزة تاريخيا للشعب المصري.
عدم القدرة على التعايش والقبول بالآخر هو الذي ينبئ بانفجار كبير - لا قدر الله - فور ظهور النتائج الأولية لانتخابات الإعادة الرئاسية.
يصعب أن يقبل أي طرف بفوز الآخر، ويصعب توقع إقرار أي طرف بنزاهة الانتخابات في حالة خسارته!
الانتخابات ستكون حرة، ونزيهة، وعظيمة، في حالة واحدة فقط وهي حالة فوز المرشح الفائز، أما الخاسر فإنه سوف ينازع بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة في النتيجة. والانتخابات، للأسف، لن تؤدي إلى الاستقرار، والديمقراطية ليست هي الوسيلة التي كان يحلم بها الشعب المصري في ثورته لتحقيق المساواة.
ما أصعب أن يحصل المريض على الدواء الذي يعتقد أنه سوف يساعده على الشفاء النهائي ثم يكتشف متأخرا أن حالته تتدهور إلى حد الاحتضار!
الأسبوع المقبل سوف يكشف عن أمور مخيفة!

الدور الروسي أولا وأخيرا

سمير عطا الله
التدخل العسكري في سوريا موضع خلاف ومخاوف، لكن «اللا» الروسية السوفياتية جعلت الحل السياسي مستحيلا. أغرت النظام بأن يدمر سوريا ويدمر نفسه ويتمادى في الاثنين. خدعت موسكو بشار الأسد كما خدعت جمال عبد الناصر في مايو (أيار) 1967. ليس بالضرورة عن سوء نية، ولكن بالتأكيد عن سوء رؤية ونقص في الإدراك وقصور مزمن في قراءة التاريخ والمستقبل.
اعتمد ضعيفان بعضهما على البعض. واستقوى كلاهما بضعف الآخر. أراد بشار الأسد الخائف على موقعه أن يستند إلى دعم فلم يجد سوى فلاديمير بوتين الذي بدأ يفقد مواقعه كزعيم شعبي ويعود إلى أساليبه القديمة كضابط «كي جي بي» لم يحسب أي منهما الثمن الذي يدفعه بلده.
لو تعدت الرؤية الأفق المخابراتي إلى الأفق السياسي والإنساني، لحاولت موسكو إنقاذ بشار الأسد بإقناعه أن العصر السوفياتي سقط بالردم تحت جدار برلين. لربما كانت أوضحت له أن ألف متظاهر صادق أقوى من مليون متظاهر يتظاهرون بالولاء. لكانت أعطت الرئيس السوري ملف مظاهرات رومانيا يتمعن فيه، وبناء عليه يرسم خطة الخروج من الأزمة والنزول إلى الناس.
قد تطول مأساة سوريا فيما يعتقد النظام أن الحسم قريب، ويعتقد الروس أن النجاة الثنائية ممكنة. كلاهما يخدع نفسه ويخون الآخر. إذا مزق النظام سوريا فلن يبقى لروسيا ذرة رمل في الشرق العربي والعالم الإسلامي. وسوف ترى أن مسلمي الهند يبعدون دلهي عن موسكو ويفصلون العقد التاريخي بينهما. وسوف يرى النظام السوري بعد تبين حجم الخسائر أنه أصغى إلى حليف تقوم دبلوماسيته على خواء العتاد، الذي هو مراوحة في الطريق المسدود وبرك الدم المفتوحة.
يقال إن روسيا تساند دمشق لكي تحمي قرضا قدره 14 مليار دولار. هذا كلام صبياني. الاتحاد الأوروبي أقرض بنوك إسبانيا وحدها 125 مليار دولار. لم تعد فلسفة الأرقام كما كانت أيام فقر العرب ومجاعة السوفيات. لكن لا سوريا خرجت من فكر الماضي وآيديولوجيات الثقافة المنتهية المفعول، ولا روسيا تخلت عن مفاهيم بدايات القرن الماضي وعقلية بطرس الأكبر.
سوف تكون ساعة المواجهة والمحاسبة شديدة الصعوبة بين فلاديمير بوتين وبشار الأسد. وأيضا بين «سيرغي»، كما ناداه وليد المعلم تحببا، و«وليد». ولكن بعد فوات الأوان على الفريقين. وسوف يتذكر الرئيس السوري ماذا حدث للذين اعتمدوا على موسكو: من مصر الناصرية إلى الثورة الفلسطينية إلى صدام حسين إلى معمر القذافي إلى اليمن الجنوبي إلى سياد بري.. إلى آخره.

لبنان وطن يفرغ من الكبار

إياد أبو شقرا
«واجب القيادة أن تخلق قيادات لا أن تنتج أتباعا»
(رالف نادر)
بينما يواصل الرئيس السوري بشار الأسد «حواره» مع شعبه بالمجازر وحمّامات الدم، انشغل الرئيس اللبناني ميشال سليمان بدعوة قادة لبنان إلى المشاركة في «جلسة حوار وطني» منتظر عقدت أمس.
ليس هناك تناقض صارخ أكثر من هذا التناقض بين كيانين توأمين.
فهناك في دمشق رئيس تسلّطي يعتبر الحكم احتكارا عائليا أبديا في وطن «دعائمه الجماجم والدم» (كما قال أحد كبار شعراء العرب المعاصرين). وهنا في بيروت رئيس توافقي يلعب دور حَكَم ملعب بلا صافرة ولا بطاقات صفراء أو حمراء.. في «دولة طوائف» فيها من نفوذ الطوائف - بل قُل الطائفة الواحدة - أكثر بكثير مما تحمله من ملامح الدولة، بل هو أصلا جاء إلى الرئاسة بموجب «اتفاق - خديعة» سرعان ما انقلب عليه المتحكمون بالطائفة المهيمنة بمساعدة عملائهم الصغار.
هناك في دمشق سلطة فئوية تزعم أنها علمانية وتقدمية (؟) في حين أنها تشكّل امتدادا لمشروع إقليمي طائفي مدعوم تكتيكيا - وبوقاحة غير مسبوقة - من قوتين عالميتين لم تعرفا الديمقراطية وحقوق الإنسان يوما في تاريخيهما الطويلين. لا يمينا ولا يسارا. وهنا في بيروت «تمثيلية» لها واجهة سلطة ممثلوها يتحركون وفق «سيناريو» أعد لهم.. ولا قدرة لهم على شطب كلمة منه.
اليوم، وسط المجازر التي يزرعها نظام دمشق بحقد مريب على امتداد أراضي سوريا، اجتمع في أراضي لبنان مَن يُفترض بهم أنهم قادة الأطياف اللبنانية المختلفة للانخراط في «حوار» كل المعنيين به يدركون سلفا أنه «حوار طرشان» لم يفضِ في الماضي، ولن يفضي في المستقبل، إلى أي نتيجة. وعلى رأس هؤلاء من دعا إلى الحوار.. أي الرئيس سليمان نفسه، الرئيس الممنوع من ممارسة الرئاسة، والمحاصَر بسلاح غيره، والمعرّض لسهام قيادات مشبوهة وحقودة من قلب طائفته.
لقد كان منظر الرئيس سليمان - مع الاحترام لشخصه - مثيرا للشفقة وهو يجول قبل ايام على عواصم دول الخليج مستجديا التفهم والزوار والمصطافين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من اقتصاد منهار قد يعجل في انهياره فشل موسم الاصطياف، وما لهذا الفشل المحتمل من تبعات على قطاع الخدمات الحيوي في لبنان.
غير أن سليمان يعرف، قبل غيره، السبب الوجيه وراء طلب حكومات دول الخليج من مواطنيها تحاشي زيارة لبنان. في حين أن «المتحاورين» ينقسمون إلى فئتين: الفئة الأولى استحوَذ أبرز أطرافها على مفاصل السلطة بقوة السلاح، وبالتالي، لا يمكن أن تقبل بأي تعديل في ميزان القوى المحسوم لصالحها. والفئة الثانية يقدر معظم مكوناتها ظروف الرئيس المغلوب على أمره، ويرى أنه من المفيد للبلاد ككل تعزيز صمود الرئيس - ولو مؤقتا - في وجه قوى الهيمنة الطامعين بإلغاء الدولة ومؤسساتها، وربط لبنان بالمنظومة الإقليمية الإيرانية، التي تدعمها موسكو وبكين نكاية بواشنطن.. وتغض الطرف عنها تل أبيب.
خلال الأسبوع الفائت، تنادت الهيئات الاقتصادية اللبنانية لإطلاق نداء استغاثة في مؤتمر هو الأول من نوعه في بيروت. وأمام الحضور قال أحد المتكلمين باللهجة العامية، ولكن بحرقة واضحة، ما معناه أن على السلطة أن تقرر أي اقتصاد تريد؟ وهل في لبنان «اقتصاد سلم» أم «اقتصاد حرب»؟ مشيرا بصدق إلى أنه يستحيل تطبيق السياسات المالية المألوفة في «اقتصاد السلم»، على ما غدا فعليا «اقتصاد حرب»!
بصفة عامة، يجوز القول إن اقتصاديي لبنان نجحوا، بفضل صدقهم مع أنفسهم وواقعيتهم، وطبعا حصافتهم المهنية، في الصمود بوجه ظروف عاتية غير مواتية لفترة طويلة نسبيا. غير أن نداء الاستغاثة هذا يشير إلى أن التحديات التي يواجهونها اليوم، وسط الجو الإقليمي الخطير، غدت أكبر منهم.
هذه الصفات الإيجابية، مع الأسف، ما عادت تتوافر في غالبية السياسيين الناشطين على الساحة اللبنانية. ولذا كان بديهيا استمرار التخبط السياسي، بل قل الانحدار السياسي، بينما تمكن قادة الاقتصاد حتى اللحظة في تجاوز ويلات حرب ضروس طالت نحو 15 سنة، ودمرت البشر والحجر.
وبالأمس، مع غياب غسان تويني، أحد عمالقة السياسة والإعلام والفكر في لبنان والعالم العربي، يستمر أفول القيادات والشخصيات الفكرية اللامعة التي أسهمت في بناء ثقافة الحرية والتعددية في لبنان.. تاركة البلاد في عهدة زُمر لا تؤتمَن على دكان صغير.. فما بالك على وطن ومواطنين؟
مع غياب غسان تويني، وقبله نصير الأسعد وقبله نسيب لحود خلال الأشهر القليلة الماضية.. تتقلص كثيرا المساحة التي يشغلها «الكبار». ويتمدّد مستنقع «صغار الصغار» ويزداد نتنا.
في سبتمبر (أيلول) من عام 1972، كان غسان تويني أحد خطباء حفل تقليد راحل كبير آخر، هو الزعيم كمال جنبلاط، «وسام لينين» في قصر اليونيسكو ببيروت، مع العلم أن العلاقة بين الرجلين في حينه كانت تمر بمرحلة فتور. ويومها وقف تويني، بحضوره وبلاغته المعهودين، ليستهل خطابه بكلمات: «يا حليفي حينا وخصمي حينا وصديقي في كل حين».
رجال من هذا الوزن، شرفاء في العداء وشرفاء في التحالف، يجمعهم على الدوام الاحترام المتبادل، يفتقدهم ويفتقر إليهم لبنان وسوريا اليوم.
أمثال هؤلاء فقط يعرفون معنى الحوار، ويقدرون مسؤوليات التعايش، ويتجاوزون أحقاد الدماء. أما الدمى فلا تستطيع أن تكون إلا دمى يحركها الآخرون.

سوريا والفاتورة الروسية

حسين شبكشي
المتمعن في المشهد العالمي ومواقف الدول الكبرى المؤثرة بخصوص الثورة السورية الكبرى ضد نظام بشار الأسد، لا بد أن يقف مطولا لمحاولة فهم وبالتالي تبرير الموقف الروسي تحديدا ودعمه المطلق لبشار الأسد بالسلاح السياسي والدبلوماسي والاستخباراتي والعسكري أيضا، وذلك على الرغم من تزايد نقمة الرأي العام العالمي بسبب وتيرة جرائم نظام دمشق الطاغية بحق شعبه واتساع دائرة القناعة بأهمية وضرورة زواله.
روسيا تبحث عن الثمن المقابل لتغيير موقفها من الثورة السورية. تقليديا كانت روسيا إبان حقبة الاتحاد السوفياتي الدولة الأكثر استخداما لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن بالأمم المتحدة، وهي الأكثر تخليا عن حلفائها؛ فعلتها من قبل مع معمر القذافي وصدام حسين وميلوسيفيتش، وبالتالي إمكانية «الاستغناء» عن بشار الأسد ونظامه من جهة روسيا واردة جدا إذا كان بمقدورنا الحكم بما تم في السابق من قبلها بحق غيره. روسيا تبحث عن صفقة تؤمن لها مدخلا وممرا صريحا وآمنا لغازها يمر بالأراضي السورية إلى البحر المتوسط، وكذلك تبحث عن موقع قدم طويل الأمد كقاعدة عسكرية على ضفاف المتوسط أيضا ليكون عينا لها على القارة الأوروبية لتستعيد به وجودا رمزيا حرمت منه نتاج التوسع الكبير وازدياد نفوذ الحلف الأطلسي. وروسيا ترى ضرورة دعم «القوى الأخرى» الخارجة عن النفوذ الغربي التقليدي، فعلى الصعيد الاقتصادي، هي تدعم وبقوة شديدة دول «البريكس»، وهي مجموعة البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا كتكتل اقتصادي «بديل» عن المعسكر الغربي، له توجهات وتطلعات مختلفة، وهي ستواصل دعمه حتى يتحقق ذلك، وفي الوقت نفسه تدعم روسيا وبقوة شديدة جدا مجموعة «شنغهاي» التي تضم دولا مثل الصين وروسيا وكازاخستان وغيرها من الدول، واليوم يدعو هذا التكتل أفغانستان للدخول فيه، وهذا سيكون بالطبع مفاجئا وحتى مذهلا للكثيرين، وترغب روسيا في أن يتنامى دور هذا التكتل ليكون بديلا عصريا وحديثا وعمليا لحلف وارسو الذي طواه الزمن مع سقوط الاتحاد السوفياتي.
روسيا لديها قناعة قوية اليوم، وخصوصا في حقبة فلاديمير بوتين رئيسها الحالي القادم من ظل رئاسة الوزراء الشرفية، أنها لا بد أن تترجم تقدمها الاقتصادي المتنامي بتوسع في نفوذها السياسي عالميا، ولكنها إلى الآن لم تتمكن من ذلك وتعتقد أنه لم يحالفها الحظ لتحقيق نجاحات اقتصادية مهمة مثل الصين والهند، حيث مكنتهما أن يكون لديهما نفوذ عالمي متنام.
روسيا اقتصاديا لا تزال تعتمد بشكل رئيسي على عوائد النفط والغاز والذهب والماس، وهي جميعا مصادر طبيعية، ولكن لا يوجد لروسيا نفس الحظ من عوائد الصناعات المختلفة في قطاع الدفاع والطيران والفضاء والسيارات والقطارات والمعدات الثقيلة، وهي مسألة مقلقة جدا للروس وحكومتهم لأن هذه القطاعات تحديدا هي صاحبة النصيب الأكبر في أرقام التوظيف، وهذه مسألة مهمة للغاية في مجتمع تتنامى فيه نسبة البطالة بدرجة مقلقة قد تكون أحد مصادر التهديد الأمني مستقبلا، خصوصا في وسط جاليات الأقليات الإثنية المنتشرة وسط روسيا الاتحادية.
هذه الأسباب ستجعل من إصرار وعناد الروس كبيرا في الحفاظ على جيوب من التأثير في مناطق «تصريف» لمنتجاتها لدى دول مثل فنزويلا وإيران وسوريا على سبيل المثال، وتتناسى كل التحفظات والمعارضة الدولية بحق أنظمة الحكم في هذه الدول. أما الملف السوري، وتحديدا نظام الأسد، لديها فيجري الإعداد «الأخير» لسداد ثمن فاتورة صفقة روسيا للاستغناء عن بشار الأسد، لأن معالم التفاصيل بدأت تتضح مع وجود هيكل جديد للمجلس الوطني السوري وقبول عام عالمي للاستغناء عن بشار الأسد وعدم التمسك به وازدياد واضح في دعم الجيش الحر وازدياد قوته وتأثيره. روسيا ترغب في الفاتورة والثمن، ومتى ما تحقق ذلك الأمر تكون «خلصت القصة»، والثمن أولا وأخيرا بالنسبة لروسيا هو اقتصادي، بعيدا عن كل الشعارات والمبادئ والأهداف.

هل من منقذ في سوريا

علي إبراهيم
هناك علامات على أن الأزمة السورية دخلت في مرحلة تشبه الأسابيع الأخيرة لنظام العقيد الليبي معمر القذافي حينما ظل النظام هناك يكابر ويطلق التصريحات النارية، ثم حدث الانهيار المفاجئ ودخل الثوار إلى طرابلس وهرب أركان النظام إلى النهاية الدموية التي رأيناها. وكان يمكن للنظام لو اتبع حلولا سياسية قبلها بأشهر أن يجنب البلاد الدم والاضطراب وانهيار المؤسسات الذي حدث وما زالت تداعياته مستمرة حتى اليوم.
طبعا الحالة السورية مختلفة حتى لو كانت هناك ملامح تشابه في السيناريو الذي تحول من مظاهرات سلمية تطالب بالحرية والعدالة إلى مواجهات مسلحة ووضع أشبه بحرب داخلية يستخدم فيها السلاح بكثافة. فالجغرافيا السياسية الداخلية في سوريا أكثر تعقيدا، وكذلك الجغرافيا السياسية الإقليمية لها، بما في ذلك المواقف الإقليمية والدولية التي جعلت الأزمة جزءا من صراع أكبر يدفع الشعب السوري ثمنه.
علامات الانهيار وفقدان النظام السيطرة أصبحت واضحة، فعندما نشاهد فيديو قاعدة كتيبة الصواريخ قرب حمص، التي قالت المعارضة إنها انشقت، والقصف الجوي لها من قبل النظام بعد انشقاقها، فلا بد أن يشعر الجميع بالخطر من المسار الذي يمكن أن يتجه إليه هذا الصراع بين نظام يكابر ومتشبث بالحكم من دون استعداد لتقديم حلول حقيقية، وبين المعارضة التي أثبتت على مدار نحو عام ونصف العام تقريبا أن هذه الانتفاضة غير قابلة للإخماد، وأن العودة إلى الأوضاع السابقة غير ممكنة.
وهناك حديث رئيس المجلس الوطني السوري الجديد، أن النظام في أيامه الأخيرة وأنه فقد السيطرة على أجزاء كبيرة من سوريا، ويؤكد ذلك التصعيد الذي نراه في الأعمال العسكرية مثل القصف المستمر لحمص وحتى لأحياء في دمشق، وعودة الاشتباكات إلى مناطق دخلها النظام سابقا، ومظاهرات أيام الجمعة التي يخرج فيها عشرات الآلاف متحدين رغم القمع والاعتقالات.
الغريب أن هناك شبه إجماع أو اتفاق دولي وإقليمي على أن بقاء هذا النظام أصبح مستحيلا، وأن تغيير النظام قادم لا محالة عاجلا أم آجلا، لكن لا توجد رؤية واضحة للكيفية التي يمكن أن يتم بها ذلك، أو كيفية تقصير الفترة حتى لا تكون التكلفة باهظة، سواء على صعيد الثمن الذي يدفعه الشعب السوري أو الثمن الذي سيدفعه الأمن الإقليمي للمنطقة.
ولعل أكثر ما يقلق بعض الأطراف الخارجية هو القلق من مصير ترسانة الأسلحة الضخمة التقليدية وغير التقليدية الموجودة لدى النظام السوري، وما يمكن أن يحدث لها لو حدث انهيار بدأت ملامحه تظهر في الوحدات العسكرية التي تتسارع فيها الانشقاقات، وجرى فقدان السيطرة على هذه الأسلحة. لكن الأخطر من ذلك هو القلق على مستقبل سوريا نفسها إذا استمر نزيف الدم والعنف يتصاعد بهذا الشكل مع المجازر التي ترتكب من قبل ميليشيات غير نظامية تابعة للنظام، وما يخلفه ذلك من ثأرات وصعوبات أمام مصالحات مستقبلية وإعادة بناء الدولة.
ومن الواضح أن العالم كان يقدم رجلا ويؤخر أخرى في تعامله مع الأزمة السورية منذ بداية الانتفاضة، بينما منح النظام فرصا كثيرة في محاولة لتفادي السيناريو الذي نراه أمام أعيننا حاليا. ولم تكن هناك استجابة من قبل أصحاب القرار في دمشق، وحتى خطة المبعوث الدولي كوفي أنان تعامل معها النظام باستخفاف شديد، رغم قبوله بها، رغم أنها كان يمكن أن تقدم له مخرجا.
لقد شبه وزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ الوضع في سوريا بأنه أصبح الآن أشبه بوضع البوسنة والحرب الأهلية فيها قبل أن يتدخل الغرب عسكريا ضد صربيا لوقف المذابح. ولو عدنا بالذاكرة إلى أزمة البلقان، وقتها، فسنجد أنها انتهت بعدة كيانات وجغرافيا جديدة على أنقاض يوغوسلافيا القديمة. فهل هذا ما يريده النظام في سوريا، وقد بدأ الحديث يتصاعد الآن عن عدم استبعاد التدخل العسكري، وهو أمر تزداد احتمالاته كل يوم مع وتيرة القتل اليومية؟ وهو مسار سيكون مؤلما لو حدث، فلا أحد يريد حربا أهلية في سوريا، أو أن يتمزق كيان وجغرافية الدولة وتنهار مؤسساتها بشكل كامل، وهو طريق تدفع إليه طريقة التفكير الانتحارية للنظام حاليا، ما لم يظهر منقذ أو منقذون من قلب مؤسسات الدولة هناك لديهم القدرة والشجاعة على تولي المسؤولية في مرحلة انتقالية وإقصاء القيادة الحالية.

رهان طهران ورهائنها.. التفكير خارج الصندوق

محمد الرميحي
لإيران رهانات كثيرة في المنطقة العربية، تستخدمها طهران من أجل دفع مصالحها إلى وضع تفاوضي أفضل، خاصة مع القوى الغربية النافذة، أوروبا والولايات المتحدة. أول رهان على العراق الذي يكاد يتحول إلى رهينة إيرانية، فقد أصبح من المعروف - حسب تصريحات جهات كثيرة في العراق، منها المتحدثون باسم التيار الصدري، ولكن ليس وحدهم - أن أي تغيير سياسي في القيادة العراقية، يجب أن توافق عليه طهران، فهم يفاوضون طهران من أجل السماح لهم بطرح الثقة عن نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي، الذي بدوره له علاقات وثقى بطهران وقواها السياسية، ويحتمي بها وقت الحاجة! فطهران اليوم في بغداد هي بيضة القبان، أين تَمِل البيضة الإيرانية، تَمِل معها السياسة العراقية قاطبة، إلا بعض القوى الصغيرة.
وبجانب ما يعترف به علنا حزب الله اللبناني أنه مناصر وبلا هوادة للسياسة الإيرانية في الشرق الأوسط، بل وتابع لها، وهو رأس العمل الإيراني المنظم في لبنان وما جاورها من مناطق عربية، خاصة في الإعداد السياسي والعسكري للكوادر، كما التدريب الإعلامي. عدا أن إيران تحتفظ بعلاقات وثيقة مع حركة حماس من منظوري المساندة السياسية، والمساندة الاقتصادية. بجانب ما أصبح معروفا على نطاق واسع من يد خفية لإيران في بعض مناطق الخليج، تحرك مجاميعها متى شاءت وبأي اتجاه تريد، ولها مسارب في اليمن والصومال، كل ذلك بجانب تحالف مصلحي مع كل من روسيا والصين. وأخطر ما يمكن أن يحدث في التفكير الاستراتيجي العربي أن يستخف بقدرات إيران التحريكية.
ومن جهة أخرى، يتحدث كوفي أنان عن تكوين مجموعة اتصال دولية من خارج مجلس الأمن ومن داخله، تتولى النظر في مستقبل الوضع السياسي في سوريا، بعد كل تلك المجازر والقتل، ويقترح أن تكون إيران عضوا فيها، ورجل مثله (مع خبرته الطويلة في العمل الدبلوماسي والسياسي الدولي) لا يقترح هذا الاقتراح عفو الخاطر، وهو خير من يعرف تشابك العلاقات الدولية. ظهور الاقتراح على السطح يفترض جس نبض طهران مسبقا، وعلى أي طريق سوف تتقدم في المسار السوري من أجل تغيير النظام هناك، لأنه يعلم علم اليقين أن دخول إيران في لجنة كهذه مع الإبقاء على شروطها العلنية في استمرار النظام، يعطل أساسا خطته التي في باطنها التخلص من النظام كما هو قائم، كما يعلم أن اقتراحه «حافا جافا» دون اتفاق مسبق على خارطة طريق ينتهي في آخرها النظام السوري، لا يلقى موافقة من الأميركان أو الغرب وحتى العرب. فاقتراح دخول إيران إذن في اللجنة يعني أن هناك اتفاقا مسبقا على تغيير جلد النظام السوري، ولكن ليس دون جائزة ما لطهران.
إن أخذنا كل ذلك بعين الاعتبار فإن إيران لما لها من الأذرع في المنطقة العربية، تستطيع أن تصل عن طريق استخدامها، إلى اتفاق تاريخي مع القوى الغربية، خاصة إن لعبت الورقة السورية بنجاح، كما يرغب ويريد كوفي أنان نفسه.
من المحتمل أن تضحي إيران بالنظام السوري كما نعرفه، حيث استهلك كل احتياطيه السياسي، ولم يعد قادرا على النفع في المستقبل، وما يؤكد ذلك خطاب مندوبه العبثي بشار الجعفري في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث بدا مفككا وخارج السياق، وسيكون النظام السوري بعد اليوم محاصرا ومنبوذا وتقلع من أصابعه أظافر كانت تستفيد منها طهران! إنما شروط تغيير النظام السوري الحالي (من وجهة نظر إيران) يتطلب أمرين: الأول وصول إيران مع القوى الغربية إلى اتفاق يترك فيه لإيران مناطق نفوذ معتبرة مع تحرر من الضغوط الاقتصادية الهائلة عليها، والثاني ترك هوى إيراني ما في دمشق، يشابه الهوى الإيراني في بغداد إن لم يكن بالتطابق، فعلى الأقل دون انقلاب عدائي ضدها، لأن دمشق مهمة بذاتها وأيضا كممر للحليف الأكثر قربا، وهو حزب الله اللبناني، المستودع الاستراتيجي والبوتقة العربية لما تريد إيران تحقيقه في المنطقة.
أفضل سيناريو يمكن تخيله ينتج من مجموعة الاتصال كهذه هو التخلص من رأس النظام السوري مع المجموعة القليلة حوله، وترك النظام برأس علوي يحقق أمرين؛ الأول ولاء مستمر لإيران مع كل التسهيلات المطلوبة، وثانيا يبتعد عن تغيير لون النظام تغيرا جوهريا.
بالنسبة لكوفي أنان يعد ذلك نجاحا يفتقر إليه في سني تقاعده، وبالنسبة لدول الغرب، يعتبر حلا وسطا ولو صعبا، يكفيهم التكاليف الباهظة السياسية منها، والمالية في السير على طريق سيناريو ليبيا أو حتى مصر. فاللاعب الأكثر قدرة على تقديم شيء ملموس اليوم في الموضوع السوري هو إيران بالمساندة مع حليفيها الروسي والصيني، وكل الحلفاء الثلاثة تخيفهم حركة شارع غير منضبط حين يقرر اقتلاع حكومات قائمة على الاضطهاد والقمع.
الروس هاجسهم ما حدث ويحدث من احتجاجات على لعبة الكراسي بين فلاديمير بوتين، الرجل القوي منذ 12 عاما في روسيا، ورفيقه، ديمتري ميدفيديف، وقد بدا الأول يشدد التضييق على حق التظاهر في بلده، ليقلل من مخاطر الغليان الشعبي على غرار ربيع العرب، والصينيون لا يزالون يتذكرون ما حدث في ساحة تيانانمن بين 15 أبريل (نيسان) و4 يونيو (حزيران) 1989، التي قادها طلاب ومفكرون وانتهت بمذبحة، كما أنهم عطشى للنفط الإيراني الرخيص نسبيا، الذي يسد شرههم للنمو الاقتصادي المرموق، أما الإيرانيون فإن التلويح باللون الأخضر واسمي موسوي وكروبي اللذين قادا الثورة الخضراء في شوارع ومدن إيران عام 2009 وقوبل تحركهما مع الجماهير بقبضة حديدية، يصيبهم بحكة جلدية مفاجئة أشبه بالأكزيما. الأطراف الثلاثة من مصلحتهم إضعاف الطلب على بضاعة الحريات التي تتفشى في المنطقة، عن طريق إفشال تذمر واسع كالتذمر السوري، من مصلحتهم احتواؤه أو حرف مقاصده، بعد ذلك التبشير بأن ليس كل ربيع يمكن أن يأتي بالهواء الطلق والخضرة اليانعة، وهو كلام يمكن أن يقال للجبهات الداخلية في الأنظمة الثلاثة!
آخر الكلام:
أبشع تعبير استعمل في الإعلام مؤخرا هو الذي أشار إليه التقرير الأول للجنة المراقبين الدوليين في سوريا حول مذبحة القبير، قال: «لقد شممنا رائحة اللحم الإنساني المحترق! وشاهدنا أشلاء بشر متناثرة، وكان هناك آثار معدات حربية ثقيلة، لا يمكن أن تستخدم إلا من الجيش»!

هل هو الجهاد في سوريا

مشاري الذايدي
كان وزير الخارجية البريطاني مقاربا للصواب حينما شبه الوضع في سوريا الآن بالوضع في البوسنة والهرسك، حيث امتدت حرب مفجعة من 1992 إلى 1995. هو شبه بين الوضعين بعامل الاحتراب الأهلي الطائفي، ورسم حدود جديدة بين الطوائف معمدة بالدم، حتى بين القرية والقرية.
أزمة بلاد البلقان تلك ما زالت قابلة للقراءة والتأمل، كيف انقض الجيران الصرب على جيرانهم البوشناق المسلمين، وهم جيرة منذ مئات السنين. فجأة استيقظت النزعات الطائفية العميقة. وحينها كانت البوسنة - وهي البعيدة كثيرا عن بلاد الشام - مسرحا مغريا لجميع الجهاديين في العالم الإسلامي.
ما جرى في البوسنة يحاكي ما يجري الآن في سوريا، وقد قرأت تقريرا نقل عن جريدة «نيويورك تايمز»، يتحدث عن هواجس الطائفة العلوية الآن، بعد انفجار الحرب فعلا بين السنة والعلويين، وهي حرب يبدو أن نظام الأسد يعتمدها كحل أخير أو خيار شمشوني، لجر الطائفة العلوية رغم أنفها معه في الصراع الوجودي.
حتى لو كنت معتدلا من أبناء العلويين، أو حتى مناهضا أو منتقدا للنظام، فقد لا تكون الأمور مضمونة لدى الأكثرية المناصرة للثورة، خصوصا السنية، بعد طوفان الدم والمجازر التي اقترفها الشبيحة من العلويين، وهم يصرخون: شبيحة للأبد.
نعم، السلاح لم يدخل إلى الثورة السورية إلا متأخرا، والثورة ظلت نحو نصف سنة سلمية، رغم بطش أجهزة الأسد، ورغم تخاذل المجتمع الدولي، ومعه الجامعة العربية، وكان حمل السلاح من باب الاضطرار والدفاع عن النفس، وهو حتى الآن سلاح خفيف وشبه خفيف، في مقابل الصاروخ والدبابة والطيارة، لدى جيش الأسد وأجهزته الأمنية، وقطعان الشبيحة الهمجية.
لكن ما كان العقلاء يحذرون منه منذ أكثر من سنة إن لم يحتضن المجتمع الدولي والإقليمي المعارضة السورية، ويتعامل معها بنفس الميزان الترحيبي الذي تعامل به مع ثورة ليبيا ومصر، واليمن، أن النهاية ستكون سوق هذه الثورة والمعارضة سوقا إلى السلاح وحرب العصابات، قيل هذا الكلام بهذا الوضوح، أكثر من مرة، ولكن القوم في غيهم يعمهون.
المضحك المبكي الآن، أن الجميع يبدي دهشة زائفة حيال إمكانية وقوع حرب أهلية في سوريا، وتحولها إلى نزاع محلي معقد، يفيض إلى كامل منطقة الشرق الأوسط، حسبما تشي به تصريحات المبعوث الدولي والعربي كوفي أنان، وغيره من ساسة الغرب والشرق.
جيش الأسد وأجهزته الأمنية وشبيحته، بدعم علني من الحليف الروسي والإيراني، وذيل إيران في لبنان حسن نصر الله، يفترس لحوم السكان المدنيين في الشمال والجنوب، وما من رادع له، فقط مبادرات وبعثات مراقبين تزيد الطين بلة، من بعثة الجنرال السوداني «الكارثة» مصطفى الدابي، إلى بعثة الكارثة الأخرى النرويجي روبرت مود.
هل كان ينتظر من السكان السوريين، أن يتقبلوا القتل والسحل والاغتصاب والقصف، لحين اقتناع أوباما وبوتين بحل ما؟!
هذا، فوق كونه عارا إنسانيا، غباء سياسي أيضا.
لو أن المجتمع الدولي نزع الغشاء عن عينيه، وشاهد الأمور كما هي، لبادر بقيادة المعارضة وتوحيد صفوفها وحمايتها من تسلل المتطرفين الدينيين إليها، من خلال قطع الطريق على أي تفسير طائفي للأزمة السورية، لكنه لم يفعل، وفوق أنه لم يفعل، يستغرب من حماية الضحية لنفسها وحملها السلاح!
آخر فصول هذا الفجور الأخلاقي السياسي هو كلام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حول أنه يريد منع الحرب الأهلية والطائفية في سوريا، ونقده الواضح للسعودية بأنها تدعم المعارضة السورية لأسباب طائفية، بينما «حضرته» ورئيسه بوتين لا يفعلان ذلك من خلال إمداد الأسد بكل أنواع السلاح والدعم المخابراتي والسياسي، ومعهما إيران!
أي وقاحة هذه..
أما نهاية هذه الإدارة الدولية السيئة للملف السوري، فهو أنهم، من واشنطن مرورا بلندن إلى موسكو، يقولون إنهم يريدون منع الانزلاق نحو الفوضى والحرب الأهلية، أي بين السنة والشيعة. ولكن مؤدى ما يفعلونه فعلا هو فتح الأبواب كلها نحو هذه الحرب.
ربما الكلام الذي سأقوله الآن يغضب الجيش السوري الحر والمعارضة السورية ومن يناصرهم بشكل عاطفي مطلق.. ولكن لا بأس.
قبل أيام نفى قائد «الجيش السوري الحر» رياض الأسعد ما توارد من أنباء حول مشاركة كويتيين في القتال مع «الجيش الحر» على الأراضي السورية. وكانت صحيفة «القبس» الكويتية أوردت أنباء، في عدد الأحد الماضي، عن دخول مواطنين كويتيين إلى الأراضي السورية للمشاركة في القتال بجانب «الجيش الحر» ضد قوات الحكومة. وأكد الأسعد حسب صحيفة «الوطن» الكويتية أن ما يثار عن وجود مقاتلين من جنسيات عربية غير صحيح جملة وتفصيلا، وقال إن «النظام السوري يسعى لبث مثل هذه الأخبار لإيهام العالم».
شخصيا، أتفهم كلام العقيد الأسعد، وأنه يأتي في سياق الرد على دعايات إعلام الأسد، وأبواقه، وحقا أن نظام الأسد محترف للكذب والتمويه. هذا معلوم. لكن هذا شيء، وما يراد قوله هنا شيء آخر.
أعتقد أن الساحة السورية الآن، بعد استفحال المجازر التي يرتكبها نظام الأسد ضد السكان المدنيين «السنة»، وحتى غير السنة من أنصار الثورة، كما جرى في مدينة «سلمية» الإسماعيلية، أصبحت ساحة مغرية لكل من يريد «الجهاد» ضد «الطاغوت» السوري الحاكم في دمشق.
لقد حول بشار الأسد نفسه إلى هدف مثالي للجهاديين، فهو مستكمل لشروط الشر المستطير والصافي، هو دموي إلى حد التوحش، وكاره لأهل السنة، وعميل لإيران. كلها مواصفات مثالية لجعل من لا يفكر في الجهاد من الشبان أو الناس الذين يرون العالم فقط على هيئة حرب بين أهل الإسلام وغيرهم، يلتهبون شوقا للقتال.
الكل يعلم أن بشار الأسد وأجهزته جربوا الاستفادة من هذه الطاقة الجهادية الجامحة، في العراق ولبنان، وليس يغيب عن البال استخدامه لجماعة فتح الإسلام في لبنان، ثم استخدامه لبعض الشيوخ الجهاديين في تجنيد الشبان العرب للذهاب إلى العراق ومشاغلة أميركا هناك، وقد تحولت حدود سوريا نحو 5 سنوات بعد سقوط صدام حسين في أبريل (نيسان) 2003، إلى محطات شحن وإسناد للزرقاوي وغيره في العراق.
الآن، ربما يتذوق الأسد من الكأس نفسه!
وفي فبراير (شباط) الماضي «نسب» إلى أيمن الظواهري، قائد «القاعدة» الحالي، دعوته الثانية للجهاد في سوريا ضد نظام الأسد، والحض على القتال في «شام الرباط والجهاد بإذن الله وقوته دولة تحمي حمى الإسلام». حسب مفرداته. وشجع على الثبات والصمود «ضد النظام العلماني الطائفي».
زبدة القول هنا، كما سبقت الإشارة في مناسبات أخرى، أن الثورة في سوريا بدأت حرة وطنية متعالية على كل النزعات الطائفية، وكان الشعار الجامع للثورة: «واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد» وكان يتم تسمية كتائب الجيش الحر بأسماء رموز وطنية مناضلة مثل سلطان باشا الأطرش وصالح العلي، الأول درزي والثاني علوي. لكن مع استمرار التخاذل - إن لم يكن التآمر الدولي - والفجور في القتل من قبل الأسد، حشر الأهالي في الزاوية، ولم يبق إلا الدفاع عن النفس بكل ما هو متاح، ومن ضمن ما هو متاح: الحرب باسم الدين.
هذا هو نتاج الإدارة الكارثية للمجتمع الدولي والعربي أيضا لثورة كانت من أرقى وأنبل الثورات العربية، شجاعة، وخطابا مدنيا.
ما زلنا نأمل أن الوقت لم يفت بعد.

حيرة أوباما بين إيران وسوريا

جاكسون ديل
هناك وجهة نظر تقول إن الارتباط بين مشاكلنا مع سوريا ومشاكلنا مع إيران هو ارتباط واضح ومباشر إلى حد ما، فنظام بشار الأسد في سوريا هو أقرب حليف لإيران، وهو همزة الوصل بينها وبين الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط، كما شكلت سوريا جسرا بريا لنقل الأسلحة والمقاتلين من إيران إلى لبنان وقطاع غزة. ومن دون سوريا، كانت ادعاءات إيران بالهيمنة على المنطقة، وقدرتها على تحدي إسرائيل، ستذهب أدراج الرياح.
وبالتالي، كما صرح قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال جيمس ماتيس، أمام الكونغرس في شهر مارس (آذار) الماضي، فإن سقوط الأسد سوف يكون «أكبر نكسة استراتيجية لإيران خلال 25 عاما». ولا يعد تحقيق ذلك مجرد حتمية إنسانية عقب قتل ما يربو على 10 آلاف مدني، بل يعد أيضا مصلحة استراتيجية كبرى لإسرائيل والولايات المتحدة.
لماذا إذن تبدي إدارة الرئيس أوباما وكذلك حكومة بنيامين نتنياهو فتورا، على أقل تقدير، تجاه أي تدخل عسكري حتى لو كان غير مباشر من أجل إسقاط الأسد؟ أحد أسباب هذا الفتور هو القلق مما سيأتي بعد ذلك الديكتاتور. وبالنسبة لأوباما، يعد أحد العوامل الكبرى في موقفه هذا هو حملته الرئاسية، وما زعمه من أن «مد الحرب يتراجع» في الشرق الأوسط. غير أن الحسابات المتعلقة بسوريا وإيران تعد كذلك أكثر تعقيدا مما يبدو في البداية، ذلك أن ما يربط بين الاثنتين ليس التحالف القائم بينهما فحسب، ولكن أيضا أن الولايات المتحدة وحلفاءها وضعوا هدفا مستقلا وعاجلا لكل منهما على حدة. فالهدف بالنسبة لسوريا هو إقصاء الأسد وإحلال نظام ديمقراطي محله، أما الهدف بالنسبة لإيران فهو منعها من امتلاك سلاح نووي. وقد اتضح أن الخطوات التي يمكن أن تحقق النجاح على إحدى الجبهتين لن تؤدي إلا إلى تعقيد الاستراتيجية الغربية على الجبهة الأخرى.
ويعد الشغل الشاغل لإسرائيل هو القيام بعمل عسكري، حيث يرى أنصار التدخل العسكري في سوريا (وأنا منهم) ضرورة أن تشارك الولايات المتحدة وحلفاؤها مثل تركيا في إيجاد مناطق آمنة للمدنيين والقوات المناوئة للأسد على طول الحدود السورية، وهو ما يتطلب غطاء جويا وربما بعض القوات «التركية». ولكن إذا تورطت الولايات المتحدة في عملية عسكرية في سوريا، فهل سيظل من الممكن تنفيذ هجوم جوي على مواقع إيران النووية؟ وماذا لو أقدمت إسرائيل على شن ذلك الهجوم بينما لا تزال العملية الموجهة إلى سوريا مستمرة؟
الإجابة الواضحة هي أن النتيجة قد تكون فوضى لا يمكن التحكم فيها، ولهذا فحينما سألت مؤخرا مسؤولا إسرائيليا كبيرا عن احتمال حدوث تدخل غربي في سوريا، كانت الإجابة: «نحن نركز على إيران. أي شيء قد يسبب تشتيتا عن إيران لن يكون مفيدا كما قد يبدو».
وبالطبع، فإن أوباما حريص على تحاشي القيام بعمل عسكري في إيران بأي حال من الأحوال، غير أن الاستراتيجية التي يتبعها هناك - والتي تتلخص في عقد صفقة دبلوماسية تقضي بإيقاف البرنامج النووي - تضيق أيضا من الخيارات المطروحة أمامه في سوريا. وأي صفقة مع إيران سوف تتطلب دعما من روسيا، التي يتصادف أن تستضيف الجولة التالية من المفاوضات. وروسيا، بدورها، تعارض إزاحة الأسد، الذي ظل لوقت طويل صديقا لها، من السلطة بأي شكل من الأشكال.
وإذا كان أوباما يرغب في الحصول على دعم فلاديمير بوتين في ما يتعلق بإيران، فربما يتعين عليه التقيد بالإجراءات التي قبل بها بوتين بشأن سوريا، مما يضع الإدارة الأميركية تحت رحمة موسكو. فأوباما ليس أمامه سوى أن يتضرع إلى بوتين، الذي يرمقه بنظرات جامدة، كي يدعم إقامة نظام ديمقراطي في سوريا، أو أن يوجه تحذيرا غاضبا إلى بوتين، بينما ترتسم على شفتي الأخير ابتسامة مليئة بالشك، بأن موسكو بذلك تمهد الطريق لنشوب حرب طائفية مأساوية.
والسبب الرئيسي في هذه المشكلة هو اختلاط وتضارب الأهداف الأميركية في الشرق الأوسط. فهل تريد واشنطن إسقاط نظامي الأسد وخامنئي الديكتاتوريين اللذين يتسمان بالوحشية والعداء ويوجد بينهما تحالف وثيق، أم أنها تريد أن تتوصل معهما إلى صفقات تحتوي ما يمثلانه من تهديد؟ الإجابة هي أنها تريد الاثنين معا ولا تريد أيا منهما في الوقت ذاته، إذ تقول إدارة الرئيس أوباما إنها تسعى إلى تغيير النظام في سوريا، في حين أنها حددت الهدف في حالة إيران بإقامة علاقات ودية مع المرجعيات الدينية هناك في مقابل منع انتشار الأسلحة النووية.
ويحاول أوباما «تربيع هذه الدائرة» عن طريق السعي إلى إيجاد منهج دبلوماسي متعدد الأطراف تجاه كلا البلدين، ولكن إذا كان الهدف هو تغيير النظام في سوريا، فإن قرارات مجلس الأمن والخطط المكونة من ست نقاط على غرار تلك التي تقدم بها كوفي أنان سيكون مصيرها الفشل، وأي شيء آخر غير ممارسة مزيج من الضغوط الاقتصادية والعسكرية، عن طريق معارضي الأسد أو أطراف خارجية، لن يستطيع أن يضع نهاية لهذا النظام.
وهذا الانهيار، بدوره، قد يضعف النظام الإيراني نفسه الذي يسعى أوباما إلى عقد صفقة معه، لذا فليس من المستغرب أن تحاول طهران إضافة سوريا إلى المواضيع المطروحة للمناقشة في الجلسة الأخيرة من المفاوضات، أو أن يرغب أنان في إدراج إيران ضمن «مجموعة اتصال» جديدة تم تكوينها كي تلعب دور الوساطة من أجل التوصل إلى تسوية في سوريا.
وقد رفضت إدارة الرئيس أوباما كلا المقترحين، لأنهما يتعارضان مع تغيير النظام السوري. وهذه البلبلة قد تسعد فلاديمير بوتين، ولكن من المستبعد أن تحقق الكثير بخلاف ذلك.

حمدين صباحي ودور صانع الرئيس

غسان الإمام
ما هي الليبرالية؟ باختصار وتبسيط شديدين، فالليبرالية هي اقتصاد السوق. ومجتمع مدني. منفتح. متحرر. متسامح. ظاهرة الليبرالية العربية برزت بقوة مع الانتفاضات. وتمثلت أساسا بالقوى الشبابية التي نزلت من عالم الإنترنت الافتراضي، إلى الميادين والشوارع، مطالبة بالتغيير السلمي والسياسي.
لأن الليبرالية تيار وسطي بلا آيديولوجيا صلبة، فقد تعرضت للخطف. تقمصت القوى الدينية المتسيسة شعارات الليبرالية في الحرية والديمقراطية. وتمكنت من الاستيلاء على السلطة، أو المشاركة فيها، من المغرب إلى مصر.
كان الإخوان المسلمون، ومن هم على شاكلتهم، في المحافظة الدينية غير القادرة على التكيف مع الحداثة السياسية، أكثر القوى الدينية نجاحا في قرصنة الليبرالية. في مصر، نصب الإخوان أنفسهم حراسا للانتفاضة (يسمونها ثورة). ومن مخافر الحراسة المتقدمة (مجلس الشعب والشورى. المساجد. ميادين التحرير) انطلقوا مع السلفيين، في غزوة مظفرة على جبهتين: استولوا على السلطة التشريعية (75 في المائة من المقاعد). وحاولوا استيعاب القوى الليبرالية الشبابية والحزبية.
أدى فشل القوى الشبابية، في تحويل الانتفاضة إلى ثورة، إلى إحباط وانكسار واضحين. الإحباط قاد إلى سلبية سياسية عمياء. فقد توزع شباب الانتفاضة على حركات وأحزاب سياسية غامضة في ادعاءاتها الليبرالية، وفي مقدمتها «الإخوان».
أما الانكسار فقد أقام حلفا غير مكتوب بين الشباب و«الإخوان» للانقضاض على الفلول (بقايا النظام القديم)، ومناصبة المجلس العسكري العداء، متناسين دور العسكر (وليس المدنيين) في إجراء أول انتخابات حرة في تاريخ مصر.
عجز الانتفاضة، في التصرف كثورة، ارتد بالقوى الشبابية إلى الشارع والميادين، في شعبوية أقرب إلى الغوغائية. اشتد السعار الشبابي، بتحريض من الإخوان، بعد صدور الأحكام على رأس ورموز النظام القديم.
وهكذا، فقدت الليبرالية الشبابية والإخوانية بوصلة المسار السياسي المنطقي والعقلاني. شن الجانبان هجمة عارمة على القضاء الذي أصدر أحكاما «مخففة». ارتفعت الحناجر في الميادين مطالبة بإعدام مبارك، من دون أي اعتبار لمبدأ «الرحمة فوق العدالة». نصبت محكمة ميدانية لمحاكمة وإعدام دمية عجوز مريض. سجين. في الرابعة والثمانين من العمر، وفي تجاهل تام لماضيه العسكري المشرف الذي شوهته محاباته لأسرته. وإهماله فساد بعض رجال «البزنس».
لم يكن ضمير مصر مرتاحا لهذا التحريف الشعبوي الإخواني والشبابي لقيم الليبرالية، في الحرص على الأمن. الاستقرار. النمو الاقتصادي. تجسد غضب الأغلبية الليبرالية الصامتة، في وضع رمز كفء ونادر، من رموز النظام القديم (الفريق أحمد شفيق) في مقدمة منافسي الشيخ محمد مرسي الذي مكنته «ماكينة» الحشد الإخوانية من تصدر جولة الحسم الانتخابي (16 و17 يونيو «حزيران» الحالي).
أتناول الانتخابات الرئاسية من خلال مواصلة الحديث عن الليبرالية المصرية. أعتقد أن التصعيد الانتخابي للشيخ مرسي ليس المفاجأة الانتخابية. الظاهرة المفاجئة هي الليبرالية الناصرية التي سجلت بقيادة المرشح حمدين صباحي انتماء نحو خمسة ملايين ناخب مصري إلى حركتها. فوضعته كالمرشح الثالث والمستقل، من دون اعتماد على المال السياسي، أو «ماكينة» انتخابية محترفة.
نعم، حمدين صباحي ليس مرشحا في الجولة الثانية. لكنه مؤهل للعب دور «صانع الرئيس»، إذا ما عرف كيف يستخدم هذه الكتلة الانتخابية الهائلة، في التصويت للمرشح الأكثر ليبرالية. مع الأسف، فقد ارتكب صباحي سلسلة أخطاء، في مسيرته السياسية، منذ انفجار الانتفاضة المصرية.
استطاع صباحي بلورة حركة ناصرية جديدة غير مشوبة بالرمادية الماركسية، في حزب «التجمع» الذي ضم منذ تأسيسه ماركسيين. واشتراكيين. وناصريين، بقيادة الماركسي «المؤمن» خالد محيي الدين، أحد رفاق عبد الناصر في ثورة الخمسينات. بل تجاوز الأحزاب الناصرية الصغيرة التي ولدت كالفطر، بزعامات شابة. أو مخضرمة لم تستطع، بسبب تنافسها وعدم جديتها، تأسيس قاعدة شعبية، كتلك التي شكلها صباحي.
غير أن الليبرالية الناصرية الصباحية ظلت أسيرة البيئة المحلية المصرية. ولم تخرج إلى البيئة العربية الأوسع، على الرغم من أنها تبدو أكثر تحررا وانفتاحا، من ناصريي المؤتمر القومي العربي الذين تنتابهم حالة بكائية على صدام، ممزوجة برعاية لشعار «الممانعة» الزائف الذي رفعه بشار، بديلا لشعار «المقاومة».
آمل في أن أتناول قريبا دور الليبرالية الناصرية الجديدة، في حديث عن تمرد بيي «المؤتمر القومي العربي»، بمناسبة انعقاد لقائه الثالث والعشرين، في تونس أخيرا، من دون أن يسجلوا موقفا حاسما من الإسلام السياسي. وقضية الحرية والديمقراطية، في جمهوريات الانتفاضة.
الخطأ الذي يمكن أن يكون مميتا لليبرالية صباحي، هو حلف «الجنتلمان» مع «الإخوان»، على أساس العداء لـ«فلول» النظام القديم. من حسن حظ صباحي أنه اكتشف متأخرا حقيقة «ليبرالية» الإخوان المحافظة. وأدرك أن الشيكات السياسية التي أصدرتها في الموسم الانتخابي، هي بلا رصيد في الالتزام بتداول السلطة عبر صندوق الاقتراع.
الكارثة أن صباحي أصلح الخطأ بخطأ أكبر! أعلن أنه سيقوم بتأسيس «تكتل سياسي» كبير. ثم ناقض نفسه داعيا الملايين الذين صوتوا له، إلى التصويت حسب رؤاهم ومواقفهم الشخصية، معلنا حياده وعدم تصويته لمرسي أو شفيق!
كسياسي يعرف كيف يؤكد زعامته وشجاعته في اللحظة المناسبة، ربما كان على حمدين صباحي أن يخوض غمار الجولة الرئاسية الثانية، من خلال توجيه وقيادة خمسة ملايين ناخب، في التصويت للمرشح البديل، للمرشح الإخواني.
خسر «الإخوان» كثيرا من شعبيتهم ومصداقيتهم، عندما أصيبوا بالتخمة، نتيجة الشراهة في ابتلاع الوعود التي بذلوها. ابتلعوا الانتفاضة الليبرالية الشبابية. السلطة التشريعية. سفهوا أحكام القضاء على رموز النظام القديم. تورطوا في معركة مع القضاة، بإصرارهم على مواصلة النظر في مشروع قانون السلطة القضائية، في برلمان إخواني لا يتمتع بمشروعية كبيرة. ثم انتزعوا مع القوى الدينية الأخرى، ما يقرب من نصف مقاعد اللجنة التأسيسية المكلفة بوضع الدستور الجديد.
مصر بحاجة إلى رئيس قوي ومستقل. ضعف شخصية محمد مرسي، وطواعيته للمرشد. ومكتب الإرشاد. وللرأسمالية الإخوانية التي يمثلها راعيه خيرت الشاطر. ثم رفضه تقديم التزام خطي بالوعود الانتخابية التي بذلها لصباحي والآخرين، كل ذلك جعل من تلك الوعود شيكات سياسية بلا رصيد. وكانت الحملة الإخوانية. المركزة على شخص المرشح المستقل المنافس أحمد شفيق، من أسباب الاستخفاف بقوة وشخصية رئيس، كالشيخ مرسي، على الرغم من أن «الماكينة» الانتخابية الجبارة، ربما تكون قادرة على صنع «معجزة» فرضه رئيسا في الجولة الثانية.
ليس كل رجال النظام القديم فاسدين. حملة الإخوان على شفيق ظلمته. وأفادته. شفيق أظهر كفاءة في إدارة مؤسسة ضخمة كالطيران المدني. وتقدم بشجاعة كمرشح معبر عن موقف 54 في المائة من الناخبين الذين لم يصوتوا في جولة «غزوة الصناديق» الأولى.
خانت الشجاعة الدبلوماسية المخضرم عمرو موسى. هو الآخر لم يدع ناخبيه (2 مليون ناخب) إلى التصويت لرمز هو مثله، متهم بأنه من فلول النظام القديم. ورجع المرشح عبد المنعم أبو الفتوح عن «جاهليته»، داعيا ناخبيه (أربعة ملايين) إلى التصويت لمرشح «الهداية» الإخوانية. فهل خانت الشجاعة أيضا المرشح الناصري حمدين صباحي، ففضل السباحة في «فراغ» الحياد؟ أم هي أزمة انكسار الليبرالية وإحباطها التي تمنعه من لعب دور «صانع الرئيس» بعد أيام قليلة؟!

هل نشب الصراع في بيت الاسد

عبد الرحمن الراشد
في رأي أحد العارفين أن المجزرتين اللتين ارتكبتا الأسبوعين الماضيين، بمعرفة قوات النظام وحمايته، وربما مشاركته، تدللان على أن بشار الأسد فقد سلطته على الأمن والجيش. فالمجزرتان حرضتا العالم على أخذ موقف أكثر تقدما، حيث أغلقت سفارات سوريا في معظم دول العالم وتحركت عدد من الحكومات لتقديم الدعم المادي والعسكري للثوار، وأحرجتا حلفاء الأسد الذين عجزوا عن تبرئته واكتفوا بالمطالبة بتحقيق في الجريمتين. أيضا، لم يتمكن الأسد في المرتين من ترتيب مسرحية على عادته. فهو في كل جريمة يقوم بها نظامه وتكون ضمن نص معد سلفا، يلقي باللائمة على خصومه. في المجزرة الأولى، في منطقة الحولة، وصل المراقبون ليشهدوا بأن قوات النظام تقوم بقصف البلدة المنكوبة، ويجدوا من الأدلة ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة للتخلي عن تحفظه، فاتهم النظام السوري بارتكاب جرائم، وأعلن أن النظام فقد شرعيته. وفي المجزرة الثانية في منطقة حماه، سارع النظام إلى منع المراقبين من زيارة الموقع إلى بعد أيام لترتيب المكان والقصة.
هذا لا يعني أن رأس النظام بريء من المجازر التي ترتكبها قواته والميليشيات المحسوبة عليه، بل تنبئ بوضع جديد، أن القيادات الأخرى أصبحت لا تأتمر بأمر الرئيس أو تنسق معه، والأرجح أن شقيقه ماهر هو الذي يتحكم ميدانيا ويدير البلاد، والذي وصف دائما بأنه صاحب الحل الدموي.
ما الذي قد يعنيه هذا التطور، إن صحت الرواية؟
يبدو كانقلاب في داخل النظام وسينتهي بإبعاد بشار الأسد، وصعود المتحكم الفعلي ميدانيا. وهنا، يوجد ماهر الأسد الذي هو أكثر وضوحا في مواقفه وأعماله، أن نظامه في حالة حرب مفتوحة ضد أغلبية الشعب السوري. أما بشار، فقد عهدناه يلعب دور الوجه المسالم للنظام، نفس الدور الذي قام بتمثيله في سنوات حكمه الاثنتي عشرة الماضية. فهو متورط في اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق، رفيق الحريري، وعشرين آخرين من الشخصيات اللبنانية، مع هذا حرص بشار على الظهور بمظهر البريء دائما، وأنه الرجل الوديع المتحضر. ورغم خصومته الشديدة مع الحريري ونصف قادة لبنان، فإنه كان يخفيها عن الجميع، ولم تظهر على السطح سوى رواية واحدة مؤكدة تكشف عن حقيقته. بشار التقى الحريري وهدده بالقتل صراحة، وفور عودة الحريري إلى عاصمة بلاده أعلم عددا من خاصته بما حدث. هذه شخصية بشار الأسد الحقيقية التي يحرص دائما على إخفائها، والظهور بمظهر الزعيم الضحية لمؤامرة أجنبية تريد تلبيس نظامه قضايا القتل. الكثيرون لم يصدقوا ادعاءه. وعندما بدأت أول ملامح الثورة السورية تكررت نفس التجربة، حيث التقى أكثر من وفد، مثل الأتراك الذين قالوا إنه وعدهم بالتغيير والإصلاح، وما لبثوا أن اكتشفوا كذبه. مسؤول خليجي يقول إنه زاره في مارس (آذار) بعيد اعتقال أطفال درعا وتعذيبهم وثورة الأهالي ونزواتهم للتظاهر. يقول: نصحناه صراحة ومباشرة بمحاسبة مرتكبي جرائم درعا الذين عذبوا الأطفال وهددوا آباءهم، ويقول: اقترحنا عليه أن يذهب شخصيا إلى هناك لترميم العلاقة. وعدهم بأن يفعل، لكنه زاد من قواته ومن الاعتقالات، واخترع آنذاك قصة السلفيين الذين يقومون بقتل الناس وأن قوات النظام لا علاقة لها بما يحدث!
الأرجح أن عائلة الأسد ليست في وضع يسمح لها بارتكاب تصفيات داخل صفوفه، لكن الأقرب أن إدارة الأزمة لم تعد مركزية في قصر الرئيس، الكثير من المؤشرات تبين تضارب التصريحات وسرد الروايات بين الأجهزة المختلفة. الرئاسة تريد الحل الأمني، لكنها تفضل إخفاء آثار الجرائم أو إلصاقها بالطرف الآخر، وقادة الجيش، حيث يقود شقيقه ماهر، يريد الترويج لجرائم قواته من أجل إخافة المواطنين والقضاء على الثورة. ولهذا، توجد مئات الفيديوهات التي صورها أفراد من الجيش وهم يرتكبون الجرائم بحماس، ومن بينها صور مرعبة، مثل قائد دبابة يتعمد دهس مدني ثم يلتفت إلى الكاميرا ويظهر وجهه ساخرا من الجريمة التي ارتكبها لتوه!