Saturday, June 9, 2012

ماذا جرى لـ الربيع العربي بعد 15 شهرا

زين العابدين الركابي
بعد صدور الحكم فيما عرف بـ«قضية القرن» في مصر: كتبت جريدة «الإندبندنت» البريطانية تقريرا متشائما وصفت فيه الحالة بأن «ظلا ما يخيم على الربيع المصري».
وقد تكون الصحيفة مبالغة في تقريرها وتقييمها.
بيد أنه بتجريد الحالة من المبالغة، يبقى هناك ما يثير القلق والمخاوف. فمن عقلاء مصر أنفسهم من يبدي خوفه من مآلات المستقبل في بلاده.
لماذا انقلبت النشوة بزوال رأس النظام السابق إلى هذا المستوى من الانزعاج والخوف؟
ثمة أسباب عديدة: بسيطة ومركبة، لعل أعمقها وأبرزها:
1 - المبالغة الهائلة في تصوير ما وقع بأنه «ثورة لا مثيل لها في التاريخ الإنساني» وبأن هذه الثورة ستخرج مصر - سراعا - من التخلف إلى التقدم، ومن الديكتاتورية إلى الديمقراطية، ومن القحط المعيشي إلى مستوى من الازدهار الاقتصادي الرائع. ومن القلق والاضطراب إلى الاستقرار المكين، ومن الخوف من الغد إلى استبشار بهيج بالمستقبل.. إلى آخر الصورة الوردية التي رسمتها الأماني العراض.. وعندما لم يحصل ذلك: باء الناس بالإحباط والمرارة والمخاوف المتنوعة.. فالسبب - من هنا - هو الإسراف في رسم الصورة الوردية. فمن طبيعة الإنسان أنه إذا أمّل في شيء أملا كبيرا، ثم لم يجده: امتلأ حسرة وإحباطا.
وهذه نقطة جد مهمة ينبغي إشباعها بمزيد من الوقائع:
أ - في إبان الموجة الاشتراكية العالية: بُشِّر الناس برغد من العيش غير مسبوق. وبما أن الإمكانات وطبيعة الاشتراكية لا يحققان ذلك على أرض الواقع، فإن تلك الوعود المجنحة تبخرت تحت ضغوط الواقع المعيشي المرير.. وهذا هو السبب الرئيسي في «كفران» الناس بالاشتراكية الموهمة - إن صح التعبير -
ب - حين انخرط الشعب الأفغاني في كفاح واجب وصدوق ضد الاتحاد السوفياتي المحتل - يومئذ -.. وقد كان لهذا الكفاح قادة بطبيعة الحال -.. وهؤلاء القادة بشر من البشر: لهم استقامتهم وصدقهم، وفيهم أهواؤهم وطموحاتهم، لكن في ذروة الكفاح، ومن أجل تشجيع هؤلاء القادة على الكرّ الطويل النفس على أعدائهم.. في تلك الذروة وجد هؤلاء القادة من الثناء والتقدير ما يفوق حقيقتهم حيث صوروا وكأنهم كوكبة من الملائكة الأطهار (كما يحصل الآن لبعض الإسلاميين في الربيع العربي). فلما اختلف قادة الكفاح الأفغان على «الدنيا»، أي على مراكز الدولة ومفاصلها: أصيب الناس بصدمة شديدة، ولو كان هؤلاء الناس واقعيين ينظرون إلى أولئك القادة بأنهم بشر من البشر فيهم الصدق وفيهم الهوى والغرض لَمَا أصيبوا بتلك الصدمة الشديدة.. أو - على الأقل - لكانت صدمتهم أخف وألطف.
خلاصة السبب الأول للعتمة الحاصلة في مصر هي:
الإسراف في الأماني الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والإسراف - كذلك - في الثقة بالسياسيين والأحزاب السياسية.
2 - السبب الثاني للعتمة الحاصلة في مصر هو «فقدان الرؤية» الاستراتيجية.
إن مصر دولة مركبة غير بسيطة، كبيرة غير صغيرة، متجذرة - في التاريخ والحضارة - غير سطحية، عرضة للتغيرات العديدة غير جامدة ولا هامدة.
وبلد هذه طبيعته، وهذا شأنه لا يدار التحول فيه بالخواطر والانطباعات والذكاء المجرد، أي الذكاء غير المدعوم بالدراسة والبحث: النظري والميداني.. نعم، لا يدار مثل هذا البلد إلا بـ«رؤية استراتيجية» تستغرق الأبعاد الزمنية الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، وما جرى وما سيجري في كل بعد: من نجاح وفشل.
ومن الواضح: أن هذه الرؤية لم تكن موجودة غداة اندلاع الثورة المصرية في مطلع عام 2011.. وهذا الوضع معلّل بما يلي:
أولا: لم تكن هناك «خريطة فكرية» واضحة المعالم والأهداف: كفلسفة للثورة، وقائدة لخطاها.. ولهذه الحال نفسها علة دفينة مفردة وهي: أنه لم يكن هناك «رواد فكريون» - بالمعنى الموضوعي للتعبير -.. فمن المعروف مثلا: أن الثورة الأميركية قد نجحت وانضبطت - إلى حد ما - بسبب وجود رواد فكريين كبار لهذه الثورة من أمثال «تومس بين» الذي يوصف بأنه «اللسان المعبر عن الحراك الأميركي كله» قبيل الاستقلال وفي أثنائه.. والنضج الفكري الأميركي واضح جدا في «وثيقة الاستقلال» الأميركية: تفكيرا وتعبيرا، أو مضمونا ولغة.. ثم إن هذه الوثيقة نفسها قد غدت خميرة الدستور الأميركي الذي قاد خطى الولايات المتحدة الأميركية عبر أكثر من قرنين متتابعين.
ثانيا: السبب الثاني لهذه العتمة: فقدان الرؤية - كذلك - تجاه «الأسس الضرورية والموضوعية» لإعادة بناء الدولة.. ومن تلك الأسس:
أ - الدستور.. أوليس عجبا من العجب: أن تجرى انتخابات رئاسية دون دستور؟!.. وكتابة الدستور ليست مجرد إجراءات وصيغ، بل هي - قبل ذلك - رؤية واضحة للمضامين الكبرى التي ينعقد عليها الاتفاق الوطني، ويطمئن الجميع إلى عدالتها وجدواها وفعاليتها: كطبيعة الدولة، والمبادئ الموجهة للدستور والأمة مثلا.
لقد انقضى عام ونصف وعام - تقريبا - على قيام الثورة المصرية، وهي مدة كافية لبلورة دستور واضح وراسخ.. فلماذا لم يحصل ذلك؟.. أهو الغرق في تفاصيل هي دون الأهمية الدستورية بكل تأكيد؟. أهو الكسل والعجز؟. أهو تقديم «الشأن الحزبي» على «الشأن الوطني»؟
ب - صلاحيات رئيس الجمهورية (وهي جزء من الدستور الذي لم يوضع حتى الآن).. لو أن الجولة الأولى في الانتخابات أدت إلى تفوق أحد المرشحين بنسبة كبيرة لأصبح لمصر الآن رئيس للجمهورية، ولكنه دون صلاحيات!!.. فلماذا هذا التنكيس في الأولويات؟.. هل من أسباب ذلك: الانتظار حتى يُعرف اتجاه رئيس الجمهورية (أهُو علماني أم ديني) ثم تفصل الصلاحيات على قدّه؟!
ج - صلاحيات المجلس النيابي.. فعلى الرغم من انتخابه منذ شهور لا تزال صلاحياته غامضة تجاه الحكومة (التي أبت أن تخضع لمساءلته)، وتجاه رئيس الجمهورية الذي لم تحدد صلاحياته هو نفسه.
د - يضم إلى ذلك «تسيير شؤون الدولة المجتمع»، فهناك اضطراب في هذا المجال: فالمعايش تزداد سوءا.. والأمن يزداد ترديا.. والنسيج الاجتماعي يزداد تمزقا بل امتد سوء الأوضاع إلى الإسلام نفسه فحملات تشويه الإسلام تزداد سعارا من حيث أن هذه الحملات تفترض أن الإخوان المسلمين هم «الإسلام»!! ولما كان أداؤهم السياسي - في البرلمان وغيره - موضع سوء ظن وريبة، فإن سوء الظن هذا عكسه البعض - بجهالة أو بخبث - على الإسلام ذاته.
والظلام المخيم على الربيع المصري - حسب تعبير «الإندبندنت» - هو وصف يشمل دولا أخرى غشاها الربيع العربي.. فالدولة اليمنية تتعرض لمخاطر شتى في جنوبها وشمالها ووسطها، وكلما بذلت جهود لتحسين الأوضاع، نشطت الأيدي المخربة - التي دأبت على التخريب - لتفشل تلك الجهود: الداخلية والخارجية.. أما ليبيا فهي على حافة هاوية سحيقة، بعد تهيؤ بعض الأقاليم للانفصال، وبعد استيلاء كتائب مسلحة على مطار طرابلس، وبعد الهجوم على الشرطة العسكرية في بنغازي، وفي ظل حكم مركزي ضعيف وقليل الخبرة ومضطرب القرار. ولكي لا يزداد الظلام سوادا نقول: لا شك أن مشكلات الديمقراطية وأخطاءها أخف وأقل تكلفة من مشكلات الديكتاتورية وخطاياها. فمشكلات الديمقراطية ناتجة عن فهم خاطئ لها وللحرية - بالتالي -.. أما مشكلات الدكتاتورية فهي «إعدام الحرية».. وفرق كبير بين حياة تشوبها أخطاء يمكن إصلاحها وبين موت يذهب بالحياة نفسها.
ولسنا نعيب على الآخذين بالديمقراطية. فهذا خيارهم، وإنما نعيب عليهم أنه أقفلوا باب الاجتهاد فيها ومن ثم عجزوا عن استنباط «النموذج الوطني للديمقراطية» المتكيف مع الجغرافيا السياسية للناس، وهو عجز سببه الكسل الفكري الذي يستسهل الاستيراد، ويستصعب الإنتاج والإبداع.

العبث في بر مصر

عادل درويش
نشاهد في مصر الآن مسرحية هزلية من كوميديا العبث: ردود فعل الثوار على نتائج جولة أولى من انتخابات طالبوا بها ثم تغير مزاجهم فرفضوا قواعد اللعبة بين فصلي المباراة؛ وردود فعل أكثر جنونا على حكم القضاء على الرئيس السابق حسني مبارك. مثقفة أدانت «الحكم الظالم» لممثل تلفزيون «الجزيرة» القطري الدائم في الميدان: «الحد الأدنى لازم إعدام مبارك». فما هو الحد الأقصى لإرضاء المدموزيل الثورية.. سحب المشنوق مبارك من أظافر قدميه تدريجيا في مستويات جحيم كوميديا دانتي؟
تشكيك هستيري في نزاهة القضاء، رغم مسؤولية الثوار أنفسهم عن إخفاق الادعاء في تأمين أحكام (أصدرها الثوار مسبقا) ضد جمال وعلاء مبارك. فالقضاة (والمحلفون في الأنظمة المتقدمة) يدرسون ملف الادعاء (النيابة) لإصدار الحكم بموازنة الأدلة وإجابات الشهود بما لا يرقى إليه الشك مقابل ما ينجح الدفاع في التشكيك في صحته.
ولأنه من المستبعد انحياز القضاة لمبارك (حتى بافتراض تغلغل الفساد فهل يخاطر قاض عاقل بتحدي الثور الهائج المندفع؟) فهناك احتمالان:
أن التهم المنسوبة مصدرها شائعات نقلتها الصحافة عن الثوار ولم تبن على أدلة مادية.
أو أنه لإرضاء الثوار تسرعت النيابة ببدء مرافعات الاتهام قبل اكتمال الأدلة، خاصة أن القضاء المصري (أقل مؤسسات الدولة تضررا بعبث ضباط انقلاب 1952) لا يزال يتبع العدالة المتحضرة بتفسير الشك لصالح المتهم. فإذا كان ثوار التحرير والمثقفون جادين في استعادة الديمقراطية، فهي لا تقوم بلا حكم قانون ضابطه النهائي قضاء متحضر مستقل عن العواطف والتقلبات يحكم بالأدلة المجردة. أو البديل قضاة من روايات «ألف ليلة وليلة» يصدرون الأحكام على مقاس مزاج المستمتع بصوت شهرزاد بإغرائه المثير، ويكون كمجلس قبائل طالبان الذي حكم (ونفذ بوحشية الأسبوع الماضي) بذبح فتيات بجريمة الغناء في عرس مختلط الجنسين في وزيرستان.
الثوار في مظاهرات مطالب الانتقام (وليس العدالة) يتحملون مسؤولية خروج النيابة عن المألوف، إذ كان يفترض البدء بتجريد هذا النوع من القضايا من البعد السياسي والضغوط الآيديولوجية ليكون القانون الجنائي مقياسها الوحيد.
الادعاء والدفاع يطلبان التأجيل في الجلسة الأولى، فتقتصر أهميتها على تسجيل موقف تاريخي بأن رئيس الدولة خاضع للقانون والجميع متساوون أمام العدالة. للأسف بدلا من شرح الحقائق للشعب تحولت الصحافة ومعلقوها إلى عزف طبول الانتقام الغوغائي.
ولتكون القضية محاكمة للنظام نفسه توقعت استمرارها لسنوات لا لأشهر، والادعاء يكرر طلب التأجيل لجمع أدلة عمرها 30 سنة، والدفاع بدوره يقدم ما يفند الأدلة ويبحث عن ثغرات التشكيك فيها فيتاح للشعب معرفة معلومات أخفيت عنه.
خالد شيخ محمد، المتهم الرئيسي بتدبير أكبر جريمة قتل متعمد عرفها التاريخ الحديث في 11 سبتمبر (أيلول) 2011، لم تبدأ محاكمته إلا بعد عشر سنوات من القبض عليه وشركائه، انهمك محامو الادعاء أثناءها في جمع الأدلة.
استمرار الثوار المصريين في التظاهر لهدف هزيل (الانتقام من مبارك وابنيه) أنساهم الهدف الاستراتيجي الأكبر، وهو إعادة بناء الديمقراطية المصرية، ودفع بالنيابة لإرضائهم بالإسراع بمحاكمة لم يتوقع القانونيون أن تبدأ قبل ثلاث سنوات على الأقل.
ومضيا في العبث تجاهلت الفضائيات غير المسؤولة فقهاء القانون وإثارة مناقشات إعداد الطعون واستئناف الحكم، فصوبت الكاميرات والميكروفونات نحو متظاهري الميدان ليستمر مسلسل تخريب الاقتصاد وتطفيش السائح والمستثمر وتشويه سمعة القضاء المصري.
والحماس نفسه كان رد الثوار على تراجع مرشحهم صباحي، الثائر بماركة «بالروح بالدم هنحارب كل الدنيا» وبحلم استنساخ الديكتاتورية الناصرية، إلى المركز الثالث (بفارق مليون صوت عن الأول) بمظاهرات تطالب بتغيير قواعد اللعبة التي وضعوها بأنفسهم، محاولين إلغاء الشوط الثاني من مباراة تحمسوا لبدايتها.
للأسف توقعنا هذا العبث في 9 أبريل (نيسان) 2011، وحذرنا في هذه الصفحة من التفاؤل بما سماه البعض بـ«الربيع العربي». وكررنا أن الديمقراطية ليست مجرد انتخابات حرة، وإنما هياكل بناء (building blocks)، وإرساء للقانون، وحذرت (4 يونيو/ حزيران، 2011) من أن ما يهدد مصر هو ثورة بلا بوصلة ستدفع بالشعب للاستبدال بالديكتاتورية المباركية (كالفصل الثالث من ديكتاتورية يوليو/ تموز، 1952) ديكتاتورية ظلام القرون الوسطى، لتخنق أذرع أخطبوط الكراهية مستقبل الأمة.
اتضحت العلامات في الأيام الأولى من «انتصار ميدان التحرير». فالاحتجاجات التي بدأت في 25 يناير (كانون الثاني) لم تفرز قيادة تعلن أهدافا، بعكس ثورة 1919 التي تعد بكل المقاييس أنجح ثورات التاريخ المصري الحديث لوضوح أهدافها منذ يومها الأول.
ظل شعار الثورة الفرنسية «الحرية.. الإخاء.. المساواة» هدفا ترجم إلى دستور لا يزال مطبقا اليوم. ثورة 1919 رفع سعد زغلول شعارها بإنهاء الحماية واعتراف المجتمع الدولي بدولة ملكية دستورية ديمقراطية الحكم إكمالا لمسيرة بدأها محمد علي قبل قرن.
في 2011 سمعنا هتافات وليس أهدافا ثورية: «إسقاط النظام»، وتبعه «ارحل.. ارحل».. فرحل الرجل بالهليكوبتر.. طيب.. وبعدين؟
المثقفون وثوار الميدان يساقون بشعاراتهم إلى نفق حفرته جماعة (قال مرشدها علنا «طز في مصر» معلنا تفضيله أن يحكم البلاد إندونيسي يقبل يد الكاهن الأعظم على انتخاب مصري يحترم القانون «الوضعي»)، لها هدف محدد وفق استراتيجية رسمت في عشرينات القرن الماضي.
ثوار مساقون إلى صدام مع المؤسسة العسكرية (التي حمت مصر والجماهير، رافضة القيام بما ارتكبه عسكر ليبيا وتنفذه عسكرتارية سوريا)، ليكون الفائز جهاز الإرهاب السري المسلح بتمويل خارجي ضخم يتناسب عكسيا مع الحجم الفعلي للكيان السياسي الخارجي. استراتيجية مرسومة للاستيلاء على مصر كخطوة أولى لتحقيق ما أسست الجماعة أصلا من أجله: تصحيح «الإثم» الذي اقترفه أتاتورك قبلها بأربع سنوات بإنهاء خرافة الخلافة. وما التلونات ونكث العهود والاغتيالات وتشعب التنظيمات كالجماعة الإسلامية، وتنظيم الجهاد ومشتقاته كـ«القاعدة»، إلا تكتيكات مرحلية في استراتيجية تحقيق الخلافة و«طز في مصر».
المثقفون وثوار الميدان بلا استراتيجية، ومطالبهم لم تتغير مضمونا عن هتافات 2011: «اشنق.. اشنق» بديلا لـ«ارحل.. ارحل».. فيساقون إلى «تفليل» (من فلول) المرشح موضع ثقة المستثمرين والاقتصاديين والجيش، وحجتهم عدم الرجوع بمصر إلى 24 يناير 2011. أكاديمية مصرية قالت على «فيس بوك» إن الرجوع 18 شهرا يمكن بعدها الانطلاق للأمام، أفضل من العودة إلى عصور تكفير من يتحدى خرافة دوران الشمس حول الأرض.

الثورة السورية المستمرة

أكرم البني
ثمة سؤال يطرحه الكثيرون في هذه الآونة حول نقاط القوة التي تقف وراء استمرار الثورة السورية، في ظل ما تشهده من قمع عنيف ومعمم يتجاوز كل تصور وفي ظل فداحة ما تقدمه من ضحايا وجرحى ومعتقلين ولاجئين، وأيضا في ظل مشهد يبدو فيه الحراك الشعبي وكأنه يترك ليواجه مصيره وحيدا، أو ما يصح تسميته بغياب موقف عربي ودولي داعم، فالأول لا يزال متأخرا وفي أحسن الأحوال لم يرق إلى مصاف شدة ما يكابده الناس، والثاني يعاني من تشتت وحسابات سياسية يعيقان خطوة التقدم لإعلان موقف أممي يدين ويوقف هذا التوغل غير المسبوق في القهر والتنكيل!
لا نضيف جديدا حين نقول بوجود إيمان راسخ وعميق لدى الشعب السوري بضرورة التغيير، نابع من شدة معاناته خلال عقود من القهر والتمييز والتهميش، وصل الأمر في بحر السنوات القليلة المنصرمة إلى حدود غير مقبولة، أوضح ما يمكن أن يقال فيها، إنها أباحت لأهل الحكم كل شيء وأطاحت من دون أي مسؤولية بأبسط حقوق الناس ومصالحها، وأوصلت الأمور إلى حد يتجاوز كل طاقة على الاحتمال، ليغدو العيش محالا وترجح كفة تفضيل الموت على الخضوع للوضع القائم.
لكن الإيمان وحده لا يكفي، فما يزيد قوة الثورة ويرفع روح الإيثار والاستعداد لتقديم التضحيات، شيوع إدراك أو لنقل شعور عام لدى جموع المحتجين، بأن ما يحصل هو لحظة للتغيير يصعب تكرارها أو هو فرصة تاريخية لن تعوض للخلاص مرة وإلى الأبد من منطق القوة والتمييز والغلبة، وأن أي توقف أو عودة إلى الوراء سيمكن الدولة الأمنية من التحكم أكثر بحياة الناس ومصائرها ويضع الأجيال القادمة في شروط ستكون أسوأ بكثير مما هو قائم الآن، وهنا يمكن أن نضيف دور الاحتجاجات الشعبية، التي اتسعت وامتدت لتشمل معظم المدن والبلدات السورية، في إعطاء أمل وثقة بقوة الثورة وبقدرتها على تحقيق أهدافها، يعززهما التراجع المستمر في قدرة أدوات القمع على محاصرتها أو سحقها.
إن فشل الخيار الأمني والعسكري في حسم الأمور وكسر شوكة الحراك الشعبي بعد ما يقارب الخمسة عشر شهرا على انطلاق الثورة عزز ثقة الناس بجدوى ما يقومون به وبأن قضيتهم أصبحت قضية موت أو حياة لا مجال للتراجع عنها، والدليل أن المناطق المدمرة والمنكوبة تظهر من جديد كأنها المناطق الأكثر تحديا والتي بمجرد انحسار الحضور الأمني، أول ما تعاود وتبادر، وهي تعض على جراحها، للتظاهر والاحتجاج وتأكيد مطالبها وشعاراتها، مما يشجع على القول إن صمود الناس رغم كل ما سبق قد وضع الثورة عند نقطة لا عودة منها، خاصة أن دعاة الحسم العسكري قد جربوا وبصورة مبالغ فيها كل أنواع القمع والأسلحة الجبارة ولم تنجح تجاربهم المحمومة في إطفاء جذوة الثورة، كما لم تنفعهم مناوراتهم الإصلاحية أو محاولات إثارة الخلافات والتفرقة بين الجماعات الأهلية أو تشويه الثورة سياسيا وأخلاقيا بوصفها بالطائفية والسلفية أو التشكيك بوطنيتها وبأنها أدوات لمؤامرة خارجية.
وضوح مطالب الحرية والكرامة والقيمة الأخلاقية للمظاهرات الشعبية التي تتحدى الموت واتساع البنية التكوينية للقيادات الميدانية لتعوض ضعف المعارضة السورية التقليدية التي أرهقها القمع والعزلة التاريخية عن الناس، هي حوافز سياسية صريحة لهذا الاستمرار المبين للثورة السورية، وإذا أضفنا ما تعممه الثقافة الإسلامية من حب للشهادة طلبا للحق ورفع الظلم وأيضا روح الوفاء للدماء الذكية التي أريقت ولمعاناة الجرحى والمعتقلين والمشردين، وما يترتب على ذلك من حرج أخلاقي في التراجع ونكث الوعود، ومن مسؤولية كبيرة في الحفاظ على ظواهر الاحتجاج والاستبسال في التظاهر، ثم الحماسة المنقطعة النظير لمن يفاخرون في المناطق التي عرفت إدارة أهلية لشؤونها، بأنهم تذوقوا طعم الحرية وصار الموت سهلا دونها! يمكن أن نقف عند أهم الأسباب التي لا تزال تحفز همم الشباب وتشد من عزمهم للاستمرار في ثورتهم، وتساعد تاليا على كسر تردد آخرين وضم فئات جديدة إلى الصفوف، وبالفعل ثمة أعداد كبيرة أخذت ترفد الحراك الشعبي، يصعب تفسير دوافعها مع تصاعد شدة القهر والتنكيل، هل لأن حاجز الخوف انكسر نهائيا في نفوسها بعد هذا الزمن الطويل من عجز السلطة عن الحسم، أم لانحيازها الأخلاقي مع المتظاهر الأعزل واشمئزازها من عنف أعمى لا يعرف حدودا أو ضوابط، أم لإيمانها أخيرا بأن ما يحصل اليوم هو معطى تاريخي أصيل للخروج من الأزمة السورية المزمنة؟!
ونضيف، يستمد المحتجون السوريون القوة والأمل من الثورات العربية التي تتقدم والتي كرست بصورة لا رجعة عنها إمساك الناس بقضيتهم، ولا يغير من هذه الحقيقة حين يجري تضخيم بعض المظاهر السلبية التي تشهدها هذه الثورة أو تلك للطعن بجدوى التغيير وأن ثماره هزيلة بالمقارنة مع حجم التضحيات التي يتطلبها، أو إثارة المخاوف من احتمال تقدم تيارات إسلامية متطرفة لقطف ثمار التغيير وحرف الثورة عن أهدافها الحقيقية في بناء مجتمع المواطنة والدولة المدنية الديمقراطية.
وأيضا ثمة شعور عند السوريين يزيدهم ثقة وإصرارا هو أن ثورتهم صارت الشغل الشاغل لدى الشعوب العربية والإقليمية المجاورة، وأن ما يقومون به من استبسال وإيثار في تقديم التضحيات هو موضع تقدير وإعجاب، وأن ثمة ترقبا كبيرا لتأثير هذه الثورة الفريدة في مستوى المشرق خصوصا والعالم العربي عموما. ليس الغرض من عرض نقاط قوة الثورة السورية وحوافز استمرارها تقديم أمل كاذب أو شحنة تفاؤل، بل للإشارة إلى أن خمسة عشر شهرا على انطلاق الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية ورغم شدة القمع والعنف المطبق ضدها، تعني أن الثورة تجاوزت مرحلة الانتكاس، وأن خطر إجهاضها أو كسر شوكتها صار وراءها، وأن الشعب السوري الذي استبعد تاريخيا من حسابات الانتفاضات والثورات، يفاجئ الجميع اليوم ويبرهن أنه يزخر بطاقة لا تنضب وباستعداد عالٍ للتضحية، من أجل حياة حرة وكريمة!

الثورة والصناديق

آمال موسى
نظريا ذهب في اعتقادنا أن الشرعية الانتخابية التي تستمد من صناديق الاقتراع، هي الطموح الأكبر للبلدان العربية التي شهدت ثورات أطاحت بالأنظمة التي كانت تحكمها. ذلك أن الانخراط في نهج ديمقراطي والاحتكام إلى الانتخابات آلية رئيسة في المنظومة الديمقراطية يفرض آليا القبول بنتائج صناديق الاقتراع مهما كانت. فالانتخابات خيار أساسي ضروري وتمثل في حد ذاتها امتحانا صعبا لمدى استعدادنا للدخول الفعلي في الديمقراطية لأنها لعبة ذات شروط لا ينفع معها الانخراط فيها دون الالتزام بقوانينها.
غير أن واقع الحال في تونس أول بلدان الثورات، وبدرجة أكبر في مصر التي تلتها بعد أسابيع قليلة، لا يولي الاحترام اللازم لنتائج الانتخابات التي أُقيمت في مرحلة ما بعد الثورتين. فأصبح الجدل الدائر بين النخب اليوم في هذين البلدين يتمركز بالأساس حول أيهما أقوى وأكثر أهمية: شرعية الثورة أم شرعية الانتخابات؟
وأول ملاحظة عامّة يجدر التلويح بها في ظل مثل هذا الجدل الخطير أن القبول بهذه الثنائية لن يحسم الحاضر ولا المستقبل، ذلك أن الطرف الخاسر في الانتخابات سيظل دائما محتميا ورافعا شعار الشرعية الثورية وهو سلوك سياسي سيقضي على محاولات أي انخراط جدي وحقيقي في المسار الديمقراطي لأن مثل هذا الانخراط الحلم والضرورة في الوقت نفسه يشترط قبول كل الأطراف المشاركة في العملية الانتخابية بنتائج صناديق الاقتراع سواء أكانت لصالحه أم ضده.
وفي الحقيقة العودة إلى التمسك بخطاب الشرعية الثورية بعد خوض الانتخابات بالنسبة إلى الأطراف الخاسرة هو بمنزلة الانقلاب على الديمقراطية ذاتها، بل إن في ذلك تشكيكا ومحاولة لتحويل وجهة الأغلبية التي صوتت للخصم السياسي. ما يغيب عن ذهن هواة السياسة وحتى بعض محترفيها فكرة أن الديمقراطية هي حكم أغلبية الشعب الذي هو أيضا خليط من عقليات وأفكار ومصالح وحسابات وأوهام مما يجعل من الديمقراطية عملية محفوفة بالمفاجآت والمفاجعات أيضا، ولكن رغم ذلك قد أثبتت نجاعتها كمنظومة قيم وآليات لتنظيم المجتمعات وتقنين المجال السياسي وتحصينه من الديكتاتورية واستحواذ نخبة سياسية معينة على الحكم دون سواها.
إن أول دروس الديمقراطية التحلي بروح سياسية عالية وتهنئة الفائز في الانتخابات بكل شجاعة لأن في ذلك تجسيدا لجوهر الديمقراطية وتلبية لشروطها، وهو أمر في غاية الدقة لأنك في اللحظة الذي تقبل فيه أنت بقوانين اللعبة الديمقراطية فإنك تضمن لنفسك من سيقبل بها في صورة فوزك في المستقبل حيث لا أبدية في الحكم، ورأينا مؤخرا في الانتخابات الفرنسية كيف نجح الاشتراكيون في العودة إلى الإليزيه بعد 17 عاما أي إنه عندما نضمن تأسيس القواعد اللازمة للديمقراطية يصبح المجال السياسي شاسعا وآفاقه رحبة وممارسة الحكم والخروج منه تحددهما صناديق الاقتراع.
إن هذا التأرجح بين الاحتماء بالشرعية الانتخابية أو الشرعية الثورية طبقا لنتائج الانتخابات ولمسألة الفوز أو الفشل أمام صناديق الاقتراع وضع يعكس حرفيا وبدقة شديدة حالة التذبذب والتردد في العقليات والممارسات. كما أنه تأرجح لا يخلو من مراهقة سياسية ومكر سيكون ضحيته الشعب، إذ دائما سيكون هناك خاسر ومن ثمة سيقوم الخاسر من خلال رفع شعار الشرعية الثورية بمعاقبة الأغلبية التي لم تختره.
إننا في حاجة إلى التفكير بأكثر وطنية وبأقل مكر ممكن وساعتها سندرك أن الانتخابات أول استحقاقات الثورة وأن عظمة أي ثورة تكمن في أنها لحظة تاريخية نادرة حاملة لزمن ثقافي وسياسي جديد يجسدهما مشروع قيمي وسلوكي ونظام مغاير من العلاقات والأفعال ومن ثم فإن الاعتراف بالشرعية الانتخابية هو اعتراف بالشرعية الثورية التي لا بد من أن تُترجم وتتخذ أشكالا جديدة من أهمها إعادة بناء الدولة ومؤسساتها والشعب دون أن ننسى أن الانتخابات كأهم عناوين الديمقراطية وآلياتها من استحقاقات الثورة وأن الثورة هي ذلك الحدث التاريخي الاستثنائي الذي سمح بفرض الديمقراطية حقا لا تفريط فيه.

القُطب المخفية في المسيرة المصرية

محمد الرميحي
أكثر من قطبة مخفية تتوارى خلف الصراع السياسي المحتدم في مصر، يكاد يصبح الصراع أحجية معقدة لا حل لها، ومن المحتمل أن تدخل مصر معه في نفق ظلامه دامس، عندما يترك الأمر إلى تقرير الشارع، وهو شارع متغير المزاج ويستفيد السياسيون منه عندما يرغبون فيتركونه مستثارا، ثم يأمرون جماعاتهم بالانسحاب منه عندما يروق لهم ذلك!
هناك ثلاث قطب مخفية قبل توجه المصريين إلى صناديق الانتخاب بعد أسبوع من اليوم لاستبدال رئيس مخلوع ومسجون مريض، برئيس قد يكون مسجونا في المستقبل، ولكن ليس في سجن كلاسيكي، بل في سجن سياسي تضيق رقعة المناورة حوله. السباق اليوم إلى كرسي الرئاسة بين أحمد شفيق ومحمد مرسي، بعض المصريين يناصرون واحدا منهما، وبعضهم ضد الاثنين معا، وهنا تبدأ القطب المخفية.
القطبة الأولى هي ذلك التيار الذي يعارض وصول أحمد شفيق إلى الرئاسة، كونه من النظام السابق، وقد يكون ذلك منطقيا في نظر البعض، إنما السؤال يكمن في الإجابة عن سؤال ما هو النظام السابق؟ هل هو نظام مبارك؟ وإلى أين يمتد؟ هل يصل إلى أول عام أصبح فيه مبارك رئيسا بعد اغتيال الرئيس محمد أنور السادات في 6 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1981؟ أم هو نظام يمتد إلى عصر السادات بين 1970 - 1981؟! أم يمتد الحديث عن النظام السابق منذ عام 1952 في ظل الرجل القوي جمال عبد الناصر؟
إن أردنا الحقيقة العارية فإن ما يشتكي منه المصريون اليوم من ثقل يد الدولة البوليسية، وفقد الحريات وضعت أسسه فيما بعد عام 1952 واستمرت الممارسات تنمو بتضخم إلى آخر عهد مبارك. لقد كان اضطهاد الإخوان المسلمين واليساريين وغيرهم في عهد عبد الناصر هو الأكثر شراسة، منذ ذلك الوقت تأسست الدولة القمعية لقطع دابر المعارضين، بل إن قانون «الغدر» الذي أصدره عبد الناصر عام 1952 ليقمع به المعارضين لنظامه هو أول الغيث، ثم جاء السادات ليعمق مفعوله بإصدار قانون «العيب» في آخر السبعينات، كلاهما استنزف كل ما خلفه النضال السياسي المصري بعد الحرب العالمية الأولى من حراك سياسي معقول وسقف للحريات مشوب بحماية القانون، وكانت تلك الفترة هي التي أنتجت الكثير من الإبداع المصري الحديث، وبالقضاء على الحريات لم تقم للعمل السياسي المستقل قائمة كما بدأت عبادة الفرد. فأي «نظام سابق» يريد المصريون التخلص من أدرانه؟ إذا أخذنا كل تلك الفترة الطويلة من وأد الحريات بعين الاعتبار، يبرز لنا تناقض واضح، في محاولة تأهيل «الناصرية» من خلال قواها الجديدة ممثلة بالسيد حمدين صباحي وآخرين، فهل يعني احتمال عودة «بعض نظام مبارك الطويل» هو المكروه القديم، وأن احتمال عودة «النظام الناصري أو بعضه» ليس من النظام القديم؟! والأنظمة الثلاثة المسلسلة في وأد الحريات متساوون! فوق ذلك أليس البرنامج السياسي لحزب الحرية والعدالة له علاقة وثيقة بالماضي، الذي لا يملك أدوات يستطيع بها حل مشكلات الحاضر المطالبة بالحرية ورغيف العيش مع الكرامة، إنه عشق مجبول على معايشة القديم.
القطبة الثانية هي فكرة العزل وإصدار قوانين يشوبها العوار وتركبها الشخصانية، فعند العودة إلى التواريخ التي لا تخطئ نجد أن أحمد شفيق لم يكن ترشيحه لكرسي الرئاسة مفاجأة لأهل السلطة الجديدة في مصر، لقد أعلن رسميا أنه سوف يرشح منذ 14 فبراير (شباط) 2012 ومع ذلك لم يتحرك أحد للمطالبة بعزله أو الحديث عن ترشحه بشكل سلبي، لقد كان يُنظر إليه من قبل النخبة السياسية الجديدة على أنه غير مضر ولا مهدد. إذ متى تحرك مجلس الشعب من أجل إحياء نصوص قانون «الغدر» الناصري وتغيير بعض نصوصه لتجاوز قانون «العيب» إلى العزل، لقد تم التحرك بعد أن أعلن عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات السابق ونائب رئيس الجمهورية السابق لأيام ترشيحه لكرسي الرئاسة، وكان الإعلان في 6 أبريل (نيسان) العام الحالي، بعد ذلك الإعلان تحرك الجميع لشعورهم بالخطر الجدي من هذا الترشيح، وفتح الحديث عن قانون لـ«العزل» خوفا من عمر سليمان لا من غيره، وحتى وقتها استمر عدم الاهتمام بترشيح أحمد شفيق، فكان أن صدر القانون المعيب في 24 أبريل وبسرعة محملا بعدد من العيوب، سليمان استُبعد، ربما بسبب قصور في أوراق ترشيحه، كما أعلنت اللجنة العليا للانتخابات، وربما لأسباب بعد خفية، إلا أن القصف التشريعي المحمل بالعوار استمر من جديد، وكأنه يعيد ما اشتُكي منه في السابق من «تفصيل القوانين». ما فجر موضوع أحمد شفيق من جديد هو حصوله من خلال صناديق الانتخاب على المركز الثاني في السباق الذي ضمه مع ثلاثة عشر مرشحا والذي لم يكن متوقعا، فعادت الأمور إلى التسخين من جديد وإلى التذكير بالعزل حيث تبين أنه منافس خطر، وبدلا من ترك الأمر إلى الجمهور المصري كي يقرر من يريد بشكل حر، دخلت النخبة الجديدة لإعادة نفس الآليات القديمة واستخدام القانون لعزل المنافسين، بل إن الرهان الآن على قبول المحكمة الدستورية العليا لقانون العزل، ولكنها إن قبلت الطعن في تركيبة المجلس نفسه (وهذا محتمل) سقط قانون العزل تلقائيا!!
القطبة الثالثة.. واضح مما يحدث على الساحة من صراع، أن لا أحد يؤمن بما تفرزه صناديق الانتخاب ممن يدّعون عشقهم للديمقراطية، فقد قررت الصناديق استبعاد البعض، وأراد هذا البعض أن يعود من الشباك بالقول إنهم يريدون مجلسا رئاسيا، يشاركون فيه فقط لأنهم دخلوا الانتخابات وفشلوا! كيف تستقيم ديمقراطية بهذا الشكل، وقد بدأت عوجاء، يضاف إليها شكوك الفائز الأول محمد مرسي، ودفع فريقه القوي باستبعاد أحمد شفيق بعد كل هذا المشوار الانتخابي، ذلك يعني تفسيرا واحدا هو تخوف حقيقي من النتائج التي بُشر أنها ستكون مزورة إن لم ينتخب من تريد النخبة الجديدة انتخابه. إنها محاولة لتعديل قوانين اللعبة في أثناء اللعب وإن تم ذلك فهو لا يخرج عن ازدراء ما يتفق عليه إن جاءت نتائجه على غير الهوى، وهو أمر يخيف من المستقبل.
تلك ثلاث قطب مخفية في مسلسل العمل السياسي المصري، تنبئ بأن القادم لن يخرج صلبه كثيرا عما خبره المواطن المصري منذ عام 1952، وهي خمرة يني في وعاء السلطان الجديد.
آخر الكلام:
الرحمة جزء من العدل، ومبارك رجل مسن وهو على كل حال كان الرئيس المرضي عنه لفترة طويلة، له ما له وعليه ما عليه يترك للتاريخ، معاملته بعد الحكم بالكثير من الثأرية والتهديد بمحاكمة من جديد سوف يسجل في تاريخ الحكام المصريين الجدد بشكل سلبي، اتقوا ما يكتبه التاريخ.

دولة المرشد بين إيران و الإخوان

عبد الله بن بجاد العتيبي
عبر قرون وقرون كان التاريخ في مجراه الكبير يحمل الكثير من التناقضات، تلك التي تشير إلى تصرفات البشر كأفراد أو مجموعات، وكدول وإمبراطوريات، كانت تنطلق من دوافع غرائزية لم تلبث أن تحولت إلى دوافع أكثر تعقيدا أخذت في التبلور على شكل قبلي وأممي وديني وطائفي.
لقد خرجت، باتساق مع حركة التاريخ ومتغيراته، قراءات لفهم ذلك التاريخ بدأت كمناهج أولية حاولت الحفاظ على توازنها المعرفي، ثم تطورت لاحقا لتستقل بكونها علوما جديرة بالاستقلال العلمي، وهي العلوم الكبرى التي تفرعت عن الفلسفة، ولم تزل تتشكل وتتخلق كلما دعت الحاجة وتطور البشر.
حتى لا ننساق مع تنظير عام، فإن التاريخ الحديث يشير إلى أن حركات الإسلام السياسي وخطاباتها قادرة فكريا وتنظيميا على عبور الخطوط السياسية والطائفية الحمراء، بغية الوصول لهدف الاستحواذ الكامل على السلطة السياسية باعتباره هدفا أسمى يتلو الاستحواذ على السلطات الأخرى.
في التمهيد للثورة الإسلامية في إيران، فقد كان بعض منظريها، كعلي شريعتي، متأثرا بأفكار بعض حركات الإصلاح الديني العربية، ثم حدث تلاقح مستمر بين الإسلام السياسي في نسخته السنية ونسخته الشيعية، ونستطيع تذكر دور نواب صفدي والتأثير المتبادل بينه وبين «الإخوان المسلمين» وقد ذكر جزءا منه علي الطنطاوي في ذكرياته، كما يوضح السيد طالب الرفاعي مؤسس حزب الدعوة العراقي مزيدا من هذا التبادل بين «الإخوان المسلمين» وحركات الإسلام السياسي الشيعية في أماليه التي نشرها الباحث الجاد رشيد الخيون، كما أن الخميني قد تأثر كثيرا بطروحات المودودي الذي كان ملهما لسيد قطب، وقد ألف على منواله كتابه «الحكومة الإسلامية»، ثم عاد المودودي بعد نجاح الثورة الإيرانية ليتمنى أن يكون مثل الخميني.
إن الثورة ضد الشاة كانت تضم أطيافا متعددة منها الليبرالي واليساري والقومي والديني، غير أن الخميني استطاع بعد نجاح الثورة أن يزيح الجميع، وأن ينتصر في كل الخصومات السياسية ليثبت نفسه مرشدا أعلى تجتمع في يده كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ونستذكر هنا ما قاله المفكر الإيراني محسن ديكور: «لم تكن الثورة الإيرانية ثورة إسلامية دينية، بل ثورة وطنية، شارك فيها فئات من الشعب يعملون في إطار التيار الليبرالي والجبهة الوطنية والتيار اليساري. لم يتوقع الذين شاركوا فيها حتى من رجال الدين في الأيام الأولى بعد قيامها أن تصبح لهم اليد العليا في السلطة» («الشرق الأوسط» 13 فبراير/ شباط 2009).
لقد استخدم المرشد الإيراني بذكاء كل أدوات الصراع السياسي في لحظتها التاريخية، فبالتخويف من عودة نظام الشاه وبقاياه، استطاع قمع بعض خصومه، كما استطاع عبر انتخابات محكومة بلحظتها التاريخية أن يمرر انتصار الحزب الموالي له «جمهوري إسلامي» في البرلمان ثم يفعل من خلاله ما يشاء، ثم تفرغ لاحقا لا لإعادة كتابة دستور جديد فحسب بل لإعادة صياغة مفهوم الدستور نفسه، وباختصار فقد استطاع ركوب كل الموجات والشعارات والتوجهات حتى أعلن دولة المرشد وألغى الجميع.
والمقارنة تفرض نفسها هنا، فما يجري في مصر اليوم يوحي بكثير من التشابه مع ما جرى في إيران بالأمس، فالمشتركات كبيرة، وإن اختلف التوقيت وموازين القوى. إن عين المراقب لا تكاد تخطئ أن «الإخوان» يصنعون الأمر ذاته، فهم يخوفون من قوى النظام السابق، وهم بعد تصريحهم بعدم الترشح في البرلمان عادوا للاستحواذ على الأكثرية فيه عبر حزب «الحرية والعدالة»، بل إنهم استبقوا الخميني بخطوة حين أرادوا السيطرة على إعادة كتابة الدستور تلك التي لم تمكنهم منها أحوال مصر وظروفها المعاصرة، فعادوا أدراجهم لركوب الموجات المتاحة شبابا ثائرا ومرشحين خاسرين وتوجهات قومية وآيديولوجية، وسيقدمون لاحقا كل أنواع التفسيرات والتأويلات للمفاهيم والشعارات التي صعدوا عليها.
إن أسس الثورة الإيرانية من تيارات ومفاهيم وأفكار تم تحويرها بسهولة لخدمة المرشد الأعلى، وإن مخاضا مماثلا يجري في مصر، فـ«الإخوان» يسعون جهدهم لاقتحام السلطة القضائية والتدخل في شؤونها بشتى السبل، وهم يحلمون أيضا بالقدرة على التغلغل في الجيش واستمالته لصفهم، ولئن صحت الأنباء بتوافدهم على تركيا لنقل التجربة التركية تلك التي رفضوا تصريحات قائدها أردوغان عن العلمانية، فربما كان من أهم ما يريدون نقله عن التجربة التركية هو قدرتها على تحييد الجيش، وقد بدأوا بمغازلة الجيش عن طريق طلبهم في البرلمان لرفع رواتب عناصر الجيش 400%.
نقل أبو الحسن بني صدر الرئيس الأول للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لقاء مع قناة «الجزيرة» عن الخميني قوله: «وفي خطب الجمعة شجع رجال الدين على تزوير الانتخابات للوصول إلى البرلمان، وذهبت إليه وقلت له: إن هذا الأمر مرفوض، أجابني أن لا كلمة للشعب، الكلمة لرجال الدين» ولئن جاء الخميني على أكتاف الشعب بتياراته وشارعه ثم تنكر له فإن ذلك تحول لمنهج متبع في إيران حيث صرح المرشد الثاني خامنئي إبان الثورة الخضراء بأنه «لن يرضخ للشارع».
كان الشاه في نهايات حكمه يتساءل باستغراب: «هل يمكن أن يكون كل الأشخاص المثقفين الذين تلقوا علومهم في جامعات إيران وفي الخارج أنصار الخميني حقا؟ هل هذا معقول!» وأجابه إحسان نراغي: «بالنسبة لهم، الخميني رمز قبل كل شيء» (من بلاط الشاه إلى سجون الثورة) ص130.
الثورات بحاجة لرموز، وقد كان الخميني رمزا للثورة الإيرانية توافقت عليه التيارات قبل أن يمسحها جميعا، ولكن احتجاجات مصر بلا رمز سياسي يمتلك كاريزما قائد ورؤية متكاملة للواقع والمستقبل، فأنتج تدافع التيارات معركة رئاسية بين عسكري ووزير سابق يتبنى الدولة المدنية، وجماعة الإخوان المسلمين التي تتبنى الدولة الدينية وإن سمتها مدنية بمرجعية إسلامية.
مع نفي التطابق، إلا أن بعض أحداث التاريخ تعيد نفسها بشكل أو بآخر، ووجود التشابه حين يكون كبيرا يغري بالمقارنة، وقراءة الماضي تعين على استكشاف المستقبل.
أخيرا، فإنه أيا كان المنتصر في مصر، فإنه سيواجه تحديات كبرى في بناء الدولة والعلاقات مع دول المنطقة والعالم، وسيكون عليه أن يواجه استحقاقات صعبة، وأن يأخذ قرارات مريرة وغير شعبية.

الخطاب الخامس وربما الأخير للرئيس السوري

منذر خدام
ألقى الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد خطابه الخامس منذ اندلاع ثورة الشعب السوري ضد نظامه، وذلك بمناسبة افتتاح الدور التشريعي الأول لمجلس الشعب الذي تم «انتخابه» مؤخرا كتتويج لحزمة «الإصلاحات» التي أنجزها خلال الخمسة عشر شهرا الماضية. من هذه الزاوية أراد الرئيس السوري أن يبدو خطابه وكأنه خطاب رجل منتصر قد أنجز جميع الإصلاحات المطلوبة، في حين أنه لا يعدو كونه، على الأرجح، خطاب وداع مقدم اجتهد ملقيه أن يبدو هادئا فلم ينجح.
لقد حاول الرئيس في أكثر من موضع في الخطاب أن يوحي لمستمعيه بأنه في كل ما يقوم به منذ بدء الأزمة في سوريا يهدف إلى تحقيق مصلحة المواطن، فالمواطن بالنسبة إليه هو «المنطلق»، وعليه لا بد أن يكون «رأي المواطن هو البوصلة» التي يسترشد بها. وهو أيضا، بحسب ما جاء في الخطاب، يتعلم من الشعب إذا أرد أن يواجه مشكلة معينة، غير أن المواطن الذي يسترشد الرئيس برأيه، والشعب الذي يتعلم منه، قد قالا كلمتهما وهي أنهما يريدان «إسقاط النظام».
لكن بعيدا عن الجوانب الشعبوية في الخطاب، وهي جوانب قصدها الرئيس لذاتها، وبعيدا أيضا عن الدروس التعليمية التي تعود أن يلقيها علينا وعلى غيرنا في جميع خطاباته، فإن أقل ما يمكن أن يوصف به الخطاب هو أنه جاء مخيبا للآمال، وبعيدا جدا عن الواقع، وبالتالي فهو لا يتناسب مع طبيعة الأزمة التي تسبب فيها نظامه الاستبدادي للشعب السوري ولسوريا الكيان السياسي. لقد شكل الخطاب صدمة كبيرة حتى لكثير من مناصري النظام ولأولئك الواقفين على «الحياد» أيضا، والذين بدأوا يتساءلون بأصوات مسموعة عن مخرج للأزمة يأتيهم به الرئيس بإعلان تنحيه وتحمل مسؤولية ما يجري في سوريا، أو في الحد الأدنى يعلن عن اتخاذ إجراءات جريئة وحقيقية لتطبيق خطة كوفي أنان. فبعد كل هذه الدماء التي سالت في سوريا، من غير المنطقي أن يبشرهم رئيسهم بمزيد منها.
وحتى بالنسبة لمعارضي النظام السوري وللعالمين بطبيعته الطغموية المافيوية، فإنهم لم يكونوا يتوقعون هذه المغالاة والمكابرة في تجاهل حقيقة ما وصلت إليه الأوضاع في سوريا. فلا يزال الرئيس السوري بعد سقوط أكثر من عشرين ألف شهيد، ونحو ستين ألف معتقل ومفقود، وأكثر من مليون ونصف مليون من المهجرين، وبعد كل الدمار الذي تسببت فيه آلته العسكرية والأمنية لمختلف مرافق الحياة في سوريا، يصر على أن ما يجري في سوريا ليس أكثر من مؤامرة خارجية وهجوم إرهابي شامل، بهدف إحداث «فتنة» بين السوريين. بل وذهب بعيدا هذه المرة إذ اتهم شعبه بالإرهاب، وأنه صار أداة من أدوات المؤامرة الخارجية على بلاده!! في تعبير واضح عن الإفلاس السياسي.
يقول الرئيس في خطابه «تتصارع في سوريا قوتان؛ الأولى تدفع للوراء بما تحمله من محاولات لإضعاف سوريا وانتهاك سيادتها» بما تقوم به من «قتل وتخريب وجهل وتخلف وارتهان البعض للخارج» في إيحاء مكيف لكنه واضح الدلالة إلى الجماهير المنتفضة، و«القوة الثانية تدفع باتجاه الأمام بما تحمله من تصميم على الإصلاح تجلى بحزمة القوانين والدستور الجديد»، وهو هنا واضح في تعظيم دور نظامه. بل وذهب الرئيس بعيدا في تعاليه على الواقع عندما قال إن ما قام به من إصلاحات صدَّ «جزءا كبيرا من الهجمة» الخارجية الدولية على نظامه. لقد تجاهل الرئيس أن نظام حكمه لسوريا مستمر منذ نحو خمسة عقود، وأنه المسؤول الوحيد عما وصلت إليه الأوضاع فيها من تأزم وتعقيد، فهو المتسبب فيها بداية، وهو الذي عمقها وزادها حدة ثانية، وهو الذي يصر على تجاهل رؤية المخرج الوحيد منها وهو رحيل نظامه كما يطالب الشعب السوري بذلك.
لم ينس الرئيس السوري أن يتحدث عن الحوار مع المعارضة للبحث عن حل سياسي للأزمة، ولذلك خصها بجزء مهم في خطابه. لكن السؤال عن أي معارضة يتحدث الرئيس بعد أن استثنى من الحوار معارضة الخارج بذريعة أنها تدعو للتدخل العسكري الخارجي في سوريا، وبعد أن استثنى المعارضة التي وصفها بأنها تنتظر «توازنات الخارج» أو «تتلقى الأوامر» منه، ويقصد بذلك جميع فصائل المعارضة الداخلية التي رفضت المشاركة في لعبة الانتخابات لمجلسه البرلماني، وبتوصيفه هذا فإنه يتهمها بالعمالة؟! في هذه الحالة لم يبق من يحاوره سوى تلك «المعارضة» المضبوطة التي أغراها ببضعة مقاعد في برلمانه على أمل أن يمنحها بضعة مناصب وزارية في حكومته القادمة. ثم على ماذا سوف ينعقد الحوار، إذا كانت الإصلاحات قد أنجزها نظامه، وكانت «انتخابات» مجلس الشعب تتويجا لها، ولم يبق سوى أن تقبل بها المعارضة والشعب؟! إن من يفكر بهذه الطريقة واضح أنه لا يريد أي حل للأزمة التي تسبب فيها لسوريا، وأنه مصر على الاستمرار في خياره العسكري الأمني حتى تدمير البلد. لقد قلنا أكثر من مرة إن من يرفع شعارات «الأسد أو لا أحد» و«الأسد أو نحرق البلد» صدقوه، فهو يعني ما يقول، وغير ذلك لا يعدو كونه حشوات إنشائية.
لقد اعترف الرئيس في خطابه على غير عادته بأن سوريا تعيش في أزمة، وهذا تحول ينم عن ضعف، فلم تعد تجديه المكابرة، واعترف أيضا بأن الثورة السورية كانت ثورة شعبية سلمية حتى شهر رمضان من عام 2011، في تكذيب يقارب الفضيحة لما جاء في خطاباته السابقة ولكل آلته الإعلامية. وبالتأكيد سوف تكون لذلك مفاعيله على صعيد جمهور لا يزال مترددا في مواقفه مأخوذا بدرجات مختلفة بإعلام السلطة ودعايته.
إضافة إلى ذلك فقد ترددت كلمة «حوار» كثيرا في خطابه، حتى يكاد يستجديه فلا يجد من يحاوره، في علامة أخرى على الوضع غير المريح الذي أوصل نظامه إليه. وعلى الرغم من أن الرئيس السوري وجه خطابه إلى الداخل كما قال، واجتهد أن يكون هادئا أثناء إلقائه، ومتشددا تجاه خصومه، ومبشرا السوريين بمزيد من الدماء، في مقاربة ذات دلالة لعمل الطبيب الجراح، الذي «لا يكترث للدماء التي تسيل أثناء إجراء العملية»، فإن ما بين كلمات الخطاب المنطوقة رسائل واضحة للخارج وبصورة خاصة للروس حلفاء النظام بأنه باق، ولن تجدي تصريحاتكم الجديدة حول إمكانية مناقشة الخيار اليمني وتطبيقه في سوريا في المؤتمر الدولي القادم الذي تعد له روسيا بموافقة أميركية وأوروبية. لكن أن يريد النظام شيئا ويريد الواقع السوري والعربي والدولي شيئا مختلفا، فالغلبة لخيار هذا الأخير.

مدرسة حكم الأسد

حسين شبكشي
في عالم الإدارة وكليات الأعمال من المستساغ دوما أن يكون الحديث بالإعجاب والتقدير عن أسماء بعينها أو شركات محددة أبلت بلاء حسنا وتفوقت على غيرها، وقدمت النموذج المبهر والمميز. فمعروف أن أهم قصص النجاح الإداري كانت من نصيب جاك ولش، قائد شركة «جنرال إليكتريك»، ومؤخرا كان التبجيل والتفخيم من نصيب المبهر الآخر مؤسس شركة «أبل» العملاقة الراحل ستيف جوبز. إلا أن الحكومات والحركات السياسية هي الأخرى لها نهجها وأسلوبها الإداري «المميز»، والذي يعرف بأنه بصمتها الخاصة التي تفرقها عن غيرها من مثيلاتها.
ولعل ما يوصف به نظام بشار الأسد، ومن قبله والده حافظ الأسد، في إدارة الأمور في سوريا، مسألة جديرة بأن تدرس وتبحث في كيفية تكوين دولة من الذعر لا غاية منها سوى تكريس حكم العائلة والطائفة بأي ثمن ولأطول زمن.
الحكم بشكل أساسي ارتكز على تبني فكرة إشغال الرأي العام بشعارات جميلة ومثالية، ولكنها مبهمة، ينشغل منظرو النظام لسنوات وعقود في محاولة «حشو» عقول الأجيال بالمبادئ والأهداف والقواعد والأسس التي يجب تبنيها في ندوات ومؤتمرات وكتب ومقررات وخطب ومحافل وغير ذلك من مناسبات الغث والهراء الرخيص. فأشغل الناس بالاشتراكية تارة، وبالقومية تارة أخرى، وبالوحدة تارات، وهي جميعا شعارات حزب البعث العربي الاشتراكي، ذلك الفكر الشيطاني المدمر الذي يكرس حكم الطغاة وفكرهم، وطبعا باع وروج للناس أيضا أنه راعي المواجهة والمقاومة والممانعة «الأول» ضد العدو الصهيوني الإمبريالي، وكان ماهرا وبارعا في «تخوين» من يعارضه ويخرجه من الملة القومية والعربية بلا رجعة، ويتبنى «دعم» الفصائل والأحزاب والحركات «المقاومة»، بينما بقيت حدوده مع إسرائيل وهضبته المحتلة بالجولان آمنة مطمئنة بلا إزعاج، وهي في ذلك أقرب لمنتجعات هاواي وبحر الكاريبي منها إلى منطقة احتلال ومواجهة على خط النار الملتهب كما يفترض.
وكان من صميم أسلوب النظام في تعامله مع من يخالفه طريقة إطلاق «الشبيحة» عليه، و«الشبيحة» ذلك اللفظ الذي عرف مع أحداث الثورة السورية الأخيرة هو حقيقة كان نهجا موجودا منذ بدايات النظام، فنظام الأسد يجند أبواقا في الإعلام العربي أو نوابا في بعض البرلمانات العربية، الغاية منها «بهدلة وشرشحة» ومسح البلاط السياسي بكل معارض للنظام، وإذا لم يتم استيعاب المطلوب بدقة يتم الإيذاء الجسدي الذي يبدأ بالتهديد حتى الإيلام والتشويه، وقد ينتهي بالقتل المرعب.
لقد برع النظام وأبدع في استخدام أشكال متنوعة من «الشبيحة» في كافة القطاعات والمجالات من ساسة ورجال أعمال وتجار وفنانين ورياضيين، كل يدلي بدلوه، وكل يترك بصمته المميزة في مجاله للتأثير على الناس بطريقته. والتشنج الأسدي لم يعد مع مرور الوقت ظاهرة محصورة داخل إطار وحدود سوريا وحدها، ولكنه انتقل إلى دول الجوار مثل العراق ولبنان والأردن والأراضي الفلسطينية وتركيا ومصر وبعض دول الخليج، كل هذه الدول بأشكال مختلفة عانت وذاقت المر جراء التشنج السوري العابر للحدود، وهو ما يفسر وبقوة «تردد» وخوف بعض هذه الدول من الإقدام بصراحة وبشكل غير قابل للشك في دعم الثورة السورية، لأن التهديد التشنجي مسألة قائمة ومستمرة من قبل نظام الأسد ضد الأردن مثلا، وها هي المظاهرات تتحرك في توقيتات مريبة وبأشكال «مختلفة»، وكأنها موجهة كما بات معروفا للمخابرات الأردنية من جهات «محسوبة» على المخابرات السورية وعناصرها، وكذلك الأمر بطبيعة الحال في لبنان المخترق تماما من قبل منظومة التشنج السوري بامتياز، فهناك وصل التشنج إلى الحكومة والبرلمان وأصبح جزءا من المنظومة الحاكمة بامتياز، وفي تركيا هناك قلق وخوف واضح من اختراق سوري تشنجي للفئة العلوية وتوظيفها لإحداث القلاقل لصالح الأسد ونظامه كنوع من تخفيف الضغط التركي على سوريا ونظامها.
وهناك أيضا «تحريك» واضح لبعض الحركات الكردية في الداخل التركي عن طريق أعمال إرهابية تزعزع ثقة المواطنين الأتراك في قدرة أردوغان الأمنية على حماية استقرار البلاد بعد فترة استقرار وحسن إدارة للملف الكردي.
التشنج هو إحدى أدوات ووسائل نظام الأسد المرعب الذي يتفق شرفاء العالم على أهمية الخلاص منه، ليس لأنه من صالح الشعب السوري فقط، ولكنه معيب على الإنسانية استمراره حتى الآن.

الشعب يريد تناول الطعام

عماد الدين أديب
حينما تزداد حالات الاكتئاب النفسي لدى الإنسان يحاول كل واحد منا أن يتعامل معها بطريقته الخاصة التي تناسبه وتناسب ظروفه وقدراته الذاتية. البعض يلجأ إلى الهروب عبر رفض الواقع تماما ومحاولة تغييب عقله باللجوء إلى المسكرات أو الإدمان للمخدرات - والعياذ بالله - والبعض الآخر يتهرب من مواجهة الموقف الصعب بالهجرة إلى أبعد بلاد الله على ظهر كوكب الأرض.
البعض الآخر يجعل من مقاطعة نشرات الأخبار وقراءة الصحف اليومية وسيلة للهروب، ويغيب في عالم من الأغنيات الهابطة أو الأفلام التافهة أو المسلسلات التركية ذات المائة حلقة. أما الطريقة المبتكرة التي توصلت إليها لمواجهة حالات الاكتئاب الناجم عن سوء الأخبار السياسية وفشل المسؤولين في إدارة الأزمات، فهي اللجوء إلى الطعام والطهو.
ليس عليك جناح إذا التهمت صينية بطاطس في الفرن مع قطعة «موزة» من لحم الضأن الصغير، ولا خطأ عليك إذا عشت أمسيتك مع طاجن مغربي من الدجاج المضاف إليه الزيتون الأخضر والليمون الأصفر واللوز والقرفة!
ولن يضير الإنسان شيء إذا دفن همومه في تشكيلة رائعة من محشو الكرنب والباذنجان وورق العنب والفلفل الأخضر والأحمر أيضا.. أما إذا زاد عليك الضيق فإن بلورة كبيرة من الملوخية الخضراء المطهوة بالطريقة المصرية مضافة إليها كمية من «التقلية» المصنوعة من الكزبرة اليابسة والثوم والخل، يمكن أن تؤدي بك إلى حالة من الإغماء اللذيذ يذهب بك إلى حالة من النوم لا ترى فيها أي أحلام سياسية، بل سترى أحلاما عاطفية ملونة مع صوت دولبي مجسم!
وإذا استفحل الأمر وواجهت ابتلاءات شديدة مثل: ثورة، انقلاب، انهيار بورصة، فشل في انتخابات.. فإن صحنا من الفول المدمس على الطريقة اللبنانية يضاف إليه طبق من الخضراوات اللبنانية أهمها البصل الأبيض الناصع مثل اللؤلؤ، هو الحل المناسب لمواجهة هذه الأحداث الجسيمة!
ثم يأتي دور الفاكهة وعلى رأسها البطيخ في عملية المواساة العاطفية.. نعم، هذه وصفة مجربة، فإذا ما واجهت أزمة عاطفية أو هجر حبيبة لك من دون سابق إنذار، قم بشراء بطيخة من جبل لبنان أو منطقة الطائف بالسعودية، أو صعيد مصر، أو مستوردة من قبرص أو اليونان أو من كاليفورنيا حيث تم اختراع بطيخ من دون «لب» داخلي، وضعها في الثلاجة مدة لا تزيد على 6 ساعات ولا تقل عن ثلاث، ثم تناول قطعة من الجبن الأبيض اليوناني متوسط الملوحة، ثم اقفز داخل البطيخة مثل غواص الأولمبياد الذي يقفز داخل حمام السباحة.
أما إذا فشلت معك المهدئات، وكل وسائل الإدمان والمقاطعة وحلول كل ألوان الطعام، فتوجه إلى أقرب سفارة واطلب تغيير الجنسية!

محنة بين الاستقواء والاستعداء

نسيم الخوري
الدعوات اللبنانية إلى الحوار حرّكت الدماء المتحرّكة أصلاً في حناجر السياسيين وسلوكهم وكتلهم الشعبيّة والطائفيّة المتعددة الألوان، لاسيما أنّها دعوات وقعت في مرحلة التحضير لإعادة مدّ طاولة الحوار في قصر بعبدا التي دعا إليها الرئيس اللبناني ميشال سليمان في الحادي عشر من الجاري والمتأرجحة بين الرفض والقبول من أطراف الصراع والحوار . والسبب أنّ الطبق الأساسي للحوار هو مناقشة سلاح حزب الله والسلاح الفلسطيني كما سلاح “الميليشيات” والأهالي الكثيف الانتشار في أرجاء لبنان، مع إبقاء الباب مشقوقاً لإضافة ما يشاء المتحاورون من عناوين وملفّات أخرى . وإذا كنّا لم ننسَ بعد أنّ التحضير للحوار سابقاً، قد أوصل بعض أساتذة الجامعات والخبراء في أصول الحوار، ممّن حضّروا لتلك الطاولة إلى مناصب قضائية وإدارية ووزارية عليا، نجد أن الفقهاء القانونيين والمفكرين وأساتذة الجامعات والمثقفين في لبنان قد أغراهم ويغريهم الحوار ويشغلهم، لأنّ بعضهم يتوق إلى السلطان، والبعض الآخر أيقظته الدعوة إلى مناقشة دوره حيث يرى الجامعة أقوى من البرلمان أو على العكس، والبعض الأخير مسكون باليأس واستحالة التغيير والخروج من النفق المعقّد الذي يغطس فيه لبنان .
الدعوة لافتة وقوية كونها حرّكت الأصوات والضجيج السياسي المألوف وغير المألوف، في المقاهي والأندية السياسية وأروقة الجامعات وقاعات الخطى الضائعة في نقابة المحامين، تشظيات واحتدادات وعروق نافرة وكأن القرار في لبنان . يقولون في ما يقولون: أيّ لبنان نريد؟ أو أية دولة نريد؟ هل لدينا فكرة الدولة ليكون لنا دولة أساساً؟ هل نذهب إلى التقسيم في منطقة تسحب فيها خرائط التقسيم؟ هل نذهب إلى طائف جديد؟ هل نذهب إلى تعديل الدستور؟ ولماذا لا نطبّق الدستور قبل تعديله؟ هل نحن قادرون على شطب الطائفية السياسية في بلدٍ منقوع بالخلّ الطائفي؟
هذه هي الأجواء في لبنان كلّه اليوم، فقد خفّ وهج طاولة الحوار وفقدت بعض مفاعيلها، على إيقاعات الدعوة التأسيسية وارتداداتها الداخلية التي لربّما تجاوزت مفاعيل التحاور الذي سمّيناه تجاوراً وحسب، إذ لا يعني ضم “الأزهار” أو استواؤها أو مصافحتها أو تقبيلها لبعضها بعضاً حول طاولةٍ مستديرة في بعبدا، ضرورة تفاهمها، ولا يعني تداخل روائحها وألوانها المتعددة ضرورة أن يأتي عطرها متناغماً في رائحة واحدة يتلهّف إلى استنشاقها اللبنانيون في تطلّعهم إلى السلام والعيش والتناسل بهدوء، أو منعقدة في ثمرة من الوحدة الوطنية التي لطالما شرّع اللبنانيون أفواههم ومسام أجسادهم طمعاً بها وتطلّعاً إليها . لماذا؟ لأنّ كميّة الشوك المستور في أعناق الزهور وفي أوراقها وتحت الطاولات هي الجوهر في لعبة الأزهار الدامية، كما أنّ الماء في “المزهرية” لا يمكن حجب صفائه أو تعكيره أو توحّله ولا حتّى الهروب من تعفّن روائحه حتّى لو كان الزجاج من صنف “اللاليك” أرقى أنواع الزجاج المصقول في العالم . والأهمّ من هذا كلّه المناخ العام الذي يتحكّم بحياة الزهور ومدى ديمومة روائحها في الأرجاء، وهو المناخ العربي المحيط المشبع بالعواصف والرياح والدماء العاتية . هكذا تبدو الزهور اللبنانية تتقدّم بسرعة نحو ذبول حيث تبدأ لغة الأشواك الحقيقية في الإفصاح عن هذا التهذيب المفرط في لغة الورد! الذروة في الحوار تلك اللذة السريعة التي يمكن أن يكون قد أدّى إليها قعود الأطراف الخمسة عشر مع مساعديهم خلف الطاولة . بهذا المعنى نفهم حجم “التقاتل” اللفظي والإعلامي بين من يمثّلون في أحجامهم وشعبيتهم وعدد موظفيهم من الوزراء والنواب، أو بينهم وبين من لا يمثّلون حتّى أنفسهم سواء أكانوا خلف أم متفرّجين عليها في الشاشات .
لا يعني هذا القول التقليل من أهمية الحوار الحاصل حكماً، بل يعني أن يقف كلّ متحاور أمام المرآة ليرى نفسه ويرى حجم لبنان المتأرجح بين الوطن والساحة أو المعبر الضيق، أو الطريق المنتهي إلى طائرة للمغادرة، وأن يمسح كلّ متحاور عرق جبينه ويتلمّس شرايين عنقه قبل أن يأتي بأي سلوك أو انفعال أمام إغراء الكاميرات . ليس سهلاً أن تجترح مزهرية لوطن يبدو خارجه متجاوزاً لداخله ولو جاهر متحاوروه بأن حوارهم صنع في لبنان، فأنت تجمع في الواقع زهوراً متعددة الألوان والروائح والأشواك، ومن الحقول الفرنسية والأمريكية والسورية والإيرانية والتركية والفلسطينية والمصرية ولربّما من الأمم المتحدة والمجموعة الأوروبية في كوب واحد . وعلى الرغم من هذه المروحة اللبنانية الواسعة، تبقى معضلة اللبنانيين قائمة في مثلّث الاستقواء بالخارج أو استعداء الخارج أو استجداء هذا الخارج . متى يلج اللبنانيون عتبة الانتماء إلى وطنهم في بدايته وثوابته ومتحولاته؟

حوار للتنفيس أم للتأسيس

عصام نعمان
الحوار في لبنان مطلب دائم، كلما احتدمت الخلافات وتأزمت العلاقات بين أطراف الشبكة الحاكمة، انبرى مسؤول سياسي أو مرجع ديني أو قائد حزبي أو هيئة وطنية إلى مطالبة أطراف الصراع بالحوار لإيجاد تسوية مقبولة للأزمة، فالعنف لم يحلّ أيَّ أزمة في تاريخ لبنان المعاصر بل زادها تعقيداً، التسوية هي قاعدة الخروج من الأزمة، والحوار هو السبيل إليها.
يطول أمد الأزمات عندما يصعب إجراء حوار بين الجماعات والقيادات المتصارعة، وفي أغلب الأحيان، لا تنتهي الأزمات إلاّ بتدخل طرف أجنبي أو عربي لإدارة الحوار بين الأطراف المتصارعة. لم يحدث قط أن تمكّن اللبنانيون من تلقاء أنفسهم وفيما بينهم، من إجراء حوار صحي قاد إلى تسوية متوازنة لأزمة معقدة.
المفوض السامي البريطاني الجنرال سبيرس كان “بطل” تسوية نسبة التمثيل في مجلس النواب بين المسيحيين والمسلمين عشية الاستقلال سنة 1943. رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر ومبعوث الرئيس الأمريكي روبرت مورفي كانا بطلي تسوية النزاع سنة 1958 التي قضت بعدم تجديد ولاية الرئيس كميل شمعون وانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً بديلاً. وعبدالناصر كان، مرة أخرى، بطل التسوية المعروفة باسم “اتفاق القاهرة” بين حكومة لبنان وفصائل المقاومة الفلسطينية الناشطة في ربوعه سنة 1969. وقادة السعودية وسوريا كانوا رعاة اتفاق الوفاق الوطني المعروف باسم “اتفاق الطائف” بين القوى السياسية المتصارعة سنة، 1989 قادة قطر والسعودية وسوريا كانوا وراء “اتفاق الدوحة” سنة 2008 الذي طوّق تداعيات الأزمة السياسية الناشئة عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخلو سدة الرئاسة بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود وذلك بانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً.
يعاني لبنان منذ سنوات أزمة متعاظمة نتيجةَ تطورات داخلية وخارجية متفاقمة لعل أبرزها وأخطرها الأزمة السورية التي اندلعت منتصف مارس/ آذار 2011 وماانفكت تشتد وتفيض بمضاعفاتها على لبنان والجوار. ولدرء الأزمة بكل جوانبها، دعا الرئيس سليمان إلى حوار وطني في 11 الشهر الجاري من دون عُقَد وشروط، للاتفاق على استراتيجية دفاعية ضمن نصوص الدستور ووثيقة اتفاق الطائف “ترتكز على مقومات القوة التي يتمتع بها الجيش والقوى الأهلية المقاومة، وعلى آليات وضوابط انتشار واستعمال هذه القوى والسلاح بصورة عامة، وتطوير النظام السياسي من دون التورط في أزمات جديدة أو تعديلات في أساسيات ميثاق العيش المشترك وتوازنات النظام”.
دعوة الرئيس سليمان قوبلت بإيجابية وارتياح من جانب قوى 8 آذار، وأحد أطراف قوى 14 آذار (حزب الكتائب)، و”جبهة النضال الوطني” (وليد جنبلاط)، والقوى والأحزاب الوطنية والديمقراطية، غير أن معظم قوى 14 آذار تحفّظت على الدعوة، بادئ الأمر، وإن أبدت بعض الليونة لاحقاً.
هل تنعقد طاولة الحوار؟
الأرجح أنها ستنعقد لكن من دون “نصاب” كامل. بعض القادة، كحسن نصر الله وسعد الحريري وسمير جعجع، سيتغيبون لدواعٍ أمنية وإن كان ثمة من سينوب عنهم، وبعضهم الآخر سيحضر على سبيل المجاملة ولن يحمل معه اقتراحات جدّية للخروج من الأزمة.
إلى ذلك، لكلٍ من الأطراف المدعوين للحوار هواجسه ومصالحه وفهمه الخاص للأزمة الراهنة وتداعياتها. رئيسا الجمهورية والحكومة يشعران بوطأة الأزمة ومخاطر تداعياتها، الأمر الذي يدفعهما إلى محاولة تبريد الأجواء الساخنة وتدوير الزوايا بين الأطراف المتصارعين للحؤول دون تطور الأزمة إلى فتنة أهلية.
قوى 8 آذار تشاطر الرئيسين سليمان وميقاتي هواجسهما، لكنها تأمل أيضاً بأن تدفع المخاطر المحيقة بالبلد قوى 14 آذار إلى فك ارتباط بعضها بأطراف خارجية لها أجندة إقليمية، وإلى أن تتساهل قليلاً لتمكين مختلف الأطراف من الاتفاق على قانون للانتخابات يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته.
قوى 14 آذار ترى في سلاح حزب الله (المقاومة) محور الأزمة لكونه خارج سلطة الدولة، وتركّز تالياً على ضرورة وضعه تحت إمرة الدولة، رغم إقرارها ضمناً بأن الدولة غائبة وليست قادرة تالياً على النهوض بموجبات الدفاع الوطني.
رغم هذه الهواجس والتحفظات والمعوّقات، تبقى طاولة الحوار مطلباً ملحاً لكونها أداة تنفيس للاحتقان والتوترات المتصاعدة، إذ إنّ مجرد رؤية هذا الرهط من “الزعماء” مجتمعين، بالأصالة أو بالوكالة، تحت سقف واحد يشيع الأمل بأن ثمة بديلاً من العنف والتراشق بالرصاص والقنابل.
أجل، إنها طاولة حوار للتنفيس وليس للتأسيس، ومع ذلك بإمكان أطراف الحوار، إن توافرت الإرادة الطيبة والتحرر من ثقافة الاستعانة بالأجنبي والركون إليه، التوافق على إعادة تأسيس لبنان وطناً ودولة بالتوافق على المدخل الأساس لعملية الإصلاح، وهو قانون انتخاب ديمقراطي يكون بموجبه لبنان كله دائرة انتخابية واحدة، وينتخب اللبنانيون بموجبه ممثليهم إما وفق نظام التمثيل النسبي، وإما وفق قاعدة “لكل ناخب صوت واحد”.
بهذه المنهجية ينبثق من الشعب مجلس نيابي له قاعدة تمثيلية عريضة، وكوادر سياسية جديدة، وبالتالي قدرة تأسيسية مؤثرة. ولعله لن يتأخر عن تنفيذ ما كان يقتضي تنفيذه منذ أكثر من عشرين سنة وهو المادة 22 من الدستور التي تقضي بانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي ومجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف ومشاركة مجلس النواب بت القضايا الأساسية والمصيرية.
ترى، هل يستطيع اللبنانيون، لأول مرة في التاريخ، أن يتحاوروا بحرية ويتوافقوا على تنفيذ مضمون تسوية تاريخية كانوا توصلوا إليها، بكثير من الدم والجهد والألم سنة، 1989 من دون تدخل أو وساطة أو وصاية خارجية؟

التدخّل الخارجيّ أو الاحتراب الأهليّ

حازم صاغيّة
بعد مجزرتي الحولة والقبير، تغــــــدو الأزمة السوريّة أكثر ترشيحاً لأن تتّخذ شكل الحرب الأهليّة المفتوحة. يقع هذا الاحـــــتمال، الكبير للأسف، على تقاطع طرق ثلاثة:
الأولى، رفع النظام، الذي لا يريد الرحيل مهما كان الثمن، سويّة الحلّ الأمنيّ إلى حلّ وحشيّ. يترافق هذا مع خفض الشكلانيّة السياسيّة التي «يعالج» بها الأزمة من سويّة الرسْم العبثيّ إلى سويّة الكاريكاتور، على ما دلّ الانتقال من الانتخابات إلى اختيار رئيس الحكومة الجديد. وبين هذين الطورين أعلن بشّار الأسد «نظريّة» التعاطي مع الثورة: إنّها «الحرب على الداخل».
الثانية، انكشاف المجتمع السوريّ كمجتمع مشرقيّ، ما بعد عثمانيّ، مفتّت. يُستدلّ على ذلك بجملة حقائق ووقائع في عدادها قيام السلطة على التفتيت المتواصل مقابل عجز الثورة عن الارتقاء إلى أيّ شكل مركزيّ ومنسجم. وما توازن القوى الشالّ بين الطرفين سوى إشارة بليغة إلى انسداد الحلّ من الداخل، بعسكرة أو من دون عسكرة.
الثالثة، استمرار الفتور العمليّ إقليميّاً ودوليّاً، في مقابل رفع الصوت الإعلاميّ والدعويّ. يجري هذا بعدما دُفع «الحلّ السياسيّ» العربيّ - الأمميّ، مرموزاً إليه بكوفي أنان ومبادرته، إلى الحدّ الأقصى، أي إلى الاستنفاد.
بيد أنّ الفتور السياسيّ الإقليميّ والدوليّ بات الآن، ولا سيّما بعد استنفاد «الحلّ السياسيّ»، يرقى إلى جريمة. هذا لا يعود فحسب إلى أنّ مجازر كمجزرتي الحولة والقبير يمكن أن تصير حدثاً يوميّاً، بل أيضاً إلى أمر يفوقها خطورة: فسورية اليوم تقف بين أفقي الاحتراب الأهليّ المفتوح، ومن عناوينه تنامي العسكرة واندفاع الغرائز الطائفيّة، وبين الضبط الخارجيّ تبعاً لشلل توازن القوى الداخليّ وعجزه. وبكلام صريح واضح: إمّا أن يتدخّل العالم على نحو فاعل ما أو أن يسود الاحتراب الأهليّ بلا أيّ ضابط.
أمّا بالمعنى السياسيّ المحدّد فالتدخّل لم يعد مطلوباً فحسب لغرض وجيه من نوع إطاحة السلطة القاتلة والغاشمة. إنّه مطلوب أيضاً لإبقاء سورية قابلة للحكم، أيّ حكم، ولعدم تحويل عجز السلطة إلى طريقة حياة ستكون، تعريفاً، مرسومة بالدم.
لكنْ أيضاً، يبدو التدخّل مطلوباً لهدف آخر يتعدّى سورية، علماً أنّ إنقاذ سورية وحدها هدف نبيل وكافٍ بذاته للتدخّل. فالوقوع بين لبنان والعراق، وهما بلدان تعتمل فيهما الأحقاد والحسابات الطائــــفيّة اعتمالها في سوريّة، يعني أنّ الحريق السوريّ حريق مشرقيّ شامل يسوّر بالنار والتفتّت شمال منطقة الخليج النفطيّة. أمّا الذين يدافعون عن عدم التدخّل كي يحرموا التطرّف الإسلاميّ (وصولاً إلى «القاعدة»؟!) كلّ مكسب محتمل، فيفوتهم أنّ الاحتراب الأهليّ المفتوح أكثر البطون خصوبة في توليد ذاك التطرّف وفي إنعاش أنواع الإرهاب بلا استثناء. يصحّ المنطق نفسه في موضوع الأقليّات التي يريد البعض أن يحميها بتركه نظام الأسد قادراً على الفتك والجريمة، ومن ثمّ بتوفير شروط مُثلى للاحتراب الأهليّ. والحال أنّ هذا الأخير هو محرقة الأقليّات التي لا نجاة منها.
ومن خلال ما يجري على الحدود اللبنانيّة – السوريّة، أو في طرابلس ولكنْ أيضاً، من خلال المعاملة العنصريّة التي شرع يلقاها العمّال السوريّون في مناطق سيطرة «حزب الله»، بعد الخطف الإرهابيّ للّبنانيين الأحد عشر في سورية، بدأ لبنان يقدّم عيّنة صغرى عن الحال التي تتّجه إليها المنطقة. أمّا العراق، الذي كان سبّاقاً، فبالتأكيد جاهزٌ لكلّ تفاعل خيّر!

بين الصدر والمالكي وطالباني

مصطفى زين
يخوض معارضو رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، ومعهم أنظمة دول مجاورة، معركة صعبة لإقالته وتحويل التوجهات السياسية العراقية وإزاحة الحلقة التي تربط إيران وسورية. وتخفف تأثير طهران في محيطها الخليجي. يعرف الجميع أن دون هذا الهدف الإستراتيجي البعيد المدى عقبات كثيرة، أهمها التحالفات الداخلية بين المكونات الإجتماعية العراقية التي تحولت إلى كيانات سياسية تحكمها توازنات دقيقة. أي خلل فيها قد يؤدي إلى حرب أهلية.
يعتمد مناوئو المالكي على حليفه السابق مقتدى الصدر الذي يتنازع معه الزعامة، وقد أصبح خصمه، ويطالب مع الآخرين بإقالته، ويتهمه بالتفرد بالسلطة. وللخلاف بين الرجلين أسباب بعضها قديم، وبعضها استجد خلال فترة حكم المالكي الأولى، عندما شن حملة على أنصاره ومسلحيه في مدن الجنوب، وزج المئات منهم في السجون. وما زال يذكر بهذه الأحداث كل من يتهمه بالطائفية، خصوصاً الذين يأخذون عليه تحريك القضاء لإقصاء نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي.
لكن على رغم موقفه المتصلب ضد المالكي، وعلى رغم تعهده لحلفائه الجدد الإستمرار معهم في سعيهم إلى إقالته، مخالفاً بذلك رأي مرجــــعه كاظم الحائري الذي أفتى بعدم جواز وصول علماني إلى رئاسة السلطة، يبقى الصدر في دائرة التحالف مع إيران، وتبقى خلافاته مع الآخرين في إطار السياسة الداخــــلية، وبعضهم يضعها في إطار الخلاف الشخصي مع المالكي، والمنافسة على زعامة «التحالف الوطني»، خصوصاً بعدما هَمش عمار الحكيم، وأعاد أحمد الجلبي إلى حجمه الطــــبيعي داخل هذا التحالف، وأظهر قوته الشعبية، معتقداً أنها تتيح له الحصول على حصة أكبر في السلطة.
وأمام مناهضي المالكي عقبة أخرى لإقالته والتحول بالسياسة الخارجية العراقية من التحالف المتين مع إيران إلى التحالف مع خصومها، او إلى الحياد في أقل تقدير. وتتمثل هذه العقبة بالرئيس جلال طالباني وحزبه. لطالباني حساباته الكردية الخاصة، منطقة نفوذه محاذية لإيران، وهو حريص جداً على عــــدم معاداتها.
ويعتقد بأن صداقته معها تتيح له مجـــال المناورة في صراعه مع الزعيم الكردي الآخر مسعود بارزاني المتحالف مع تركيـــا، والذي استطاع طوال سنوات الإحتلال الأميركي تثبيت زعامته والإمساك بزمام الأمور في كردستان، فيــــما شهد حـــزب طالـــباني انشقاقاً قاده الرجل الثاني نوشيروان مصطفى الذي يتزعم المعارضة الكردية الآن.
التحول بالسياسة العراقية من التحالف مع إيران إلى الخــــصومة معها، أو إلى الحياد، يحتاج إلى أكثر من استقطاب الــــصدر ضد المالكي، وأكـــــثر من إقناع طالبــــاني بالوقوف إلى جانب معارضيه، فحتى لو تم ذلك واستطاع مناوئو المالكي إقـــالته، ستبقى التحالفات والتوازنات الداخلية حائلاً دون انتهاج بغداد سياسة مستقلة عن المحيط.
مرحلة صدام حسين لن تتكرر في العراق.

مرحلة التفاوض على النظام السوري

عمر قدور
من وجهة نظر الكثيرين من متابعي الشأن السوري أتت خطوة طرد السفراء السوريين من عواصم عالمية فاعلةٍ متأخرةً عن المتوقع، بل تأخرت كثيراً عن خطوة من الطبيعة ذاتها سبقت إليها دول مجلس التعاون الخليجي، ويقلل من القيمة الفعلية لهذه الخطوة أن البعثات الديبلوماسية السورية لم تكن أصلاً قنوات اتصال سياسية مع النظام الذي تحتكر دائرة صغرى منه سبل التفاوض والقرار السياسي. على أن وضع طرد السفراء في إطار اللفتة الرمزية، أو تصوير ذلك على أنه رد فعل أخلاقي على مجزرة الحولة، ينبغي ألا يغيّب الحسابات الدولية أو السياق المتكامل الذي أتت من ضمنه هذه الخطوة. إذ من الواضح أن هذا الإجراء معدّ سلفاً للرد على الموقف الروسي، المتوقع أيضاً، أثناء مداولات مجلس الأمن حول مجزرة الحولة، وإذا بدا المجتمع الدولي عاجزاً إزاء الممانعة الروسية في المجلس فإن ذلك لا يمنعه من متابعة عقوباته «الهادئة» للنظام، ويخطئ من يعتقد بعدم جدواها ضمن المدى الذي يريده أصحابها، لا ضمن صفة الاستعجال المتأتية من العنف الممنهج للنظام.
ولعل تجاهل الرئيس السوري للحدث في خطابه أمام مجلس الشعب، تحت مسمى عدم الاكتراث بالخارج، يؤشّر إلى المستوى غير المسبوق من العزلة التي لم يعد ينفع معها إرسال إشارات سياسية إلى الأطراف الفاعلة دولياً. قد يعيننا الخطاب الرئاسي على فهم ما آلت إليه الظروف المحدقة بالنظام، فهو إذ يُعرض عن الخارج كلياً يؤشّر أيضاً إلى تراجع ثقته بالدعم المطلق من حلفائه الدوليين. المؤامرة، كما صوّرها الرئيس السوري، لم تعد تندرج ضمن صراع جيواستراتيجي أشمل، ويبدو أن الحديث عن محاور دولية تؤطر معركة النظام قد شارف على نهايته، فلم تعد الإشارات الآتية من الحلفاء مطمئنة كما كانت من قبل، ربما باستثناء الحليف الإيراني الذي يعاني بدوره مأزق الحصار.
لم تنجح تهديدات النظام الصريحة أو المبطنة بإشعال حرب إقليمية، ولم تستدرج القوى الدولية إلى التفاوض معه خشية منها، وعلى رغم الإقرار بقدرته على تنفيذ التهديد إلا أن ذلك صار أدعى إلى التخلص نهائياً منه، ولن يكون مستبعداً أن «رسالة طرابلس» قد أتت بعكس المرتجى منها وساهمت في استعجال التحرك الدولي. حتى الإقرار باحتمالات وقوع حرب أهلية واسعة النطاق في سورية بات مقروناً بنسبها إلى بقاء النظام، أي أن الأخير فقد نهائياً ميزته التقليدية كعامل استقرار داخلي أو كركيزة من عوامل التوازن الإقليمي، ومن المحتمل جداً أن القوى التي خبرت جيداً مكامن قوته صارت أكثر استعداداً لمواجهة تداعيات سقوطه، بما في ذلك تحييد بعض القوى الإقليمية الحليفة التي لم تعد تستبعد خيار السقوط.
منذ بدأ النظام باستخدام العنف المفرط الممنهج سادت الفكرة القائلة بتردد المجتمع الدولي إزاءه، ووجدت هذه الفكرة دائماً مبرراتها الأخلاقية فضلاً عن المقارنة بسرعة التحرك في الحالة الليبية، وقد يكون من المفارقة اتفاقُ النظام والقوى المناوئة له محلياً وإقليمياً على إنكار جدوى العقوبات التي فُرضت عليه. هذا التصور، المُحقّ إلى حد كبير أخلاقياً، لن يكون وجيهاً بالدرجة نفسها إن تتبعنا المسار الدولي، والذي أخذ شكل حرب استنزاف متصاعدة ضد النظام. فعامل الوقت الضاغط بكلفته البشرية على السوريين لا يبدو كذلك من جهة السيناريوات التي تروم إنهاك النظام إلى أقصى حد ممكن، في الوقت الذي تسير الترتيبات الدولية لإبطال مفاعيله الإقليمية. هذه الاعتبارات لن يضيرها التضحية بمزيد من السوريين، إن لم نقل إنها تقوى بمزيد من تورط النظام بالدم، ولا تضيرها الخسارة العامة الكلية بل على العكس قد يروق لبعض الأطراف خروج البلاد منهكة ومنشغلة لوقت طويل بمداواة خساراتها.
بخلاف ما يُنسب إليها مضت القوى الغربية في مشروع إسقاط النظام، ولم يكن ثمة تناقض في تصريحات قادتها سوى تلك الاختلافات حول ضرورة أو عدم إمكانية التدخل المباشر، مع أنها تشي أيضاً بأن خيار التدخل المباشر مطروح للتداول ولم يكن مستبعداً يوماً ما. مبكراً استبعد القادة الغربيون خيار التفاوض مع النظام، الخيار الذي تُرك أولاً لممثل الجامعة العربية ومن ثم لممثل الأمم المتحدة المشترك معها، ويمكن وصف مرحلة التدويل بأنها مرحلة التفاوض مع الروس بما أن امتثال النظام لخطة عنان غير وارد بالحسبان أصلاً. قد لا يستعجل الغرب دفع ثمن غالٍ للروس لقاء تخليهم عن النظام، فعامل الوقت ليس لمصلحة الروس، إنْ على الصعيد الأخلاقي دولياً أو على الصعيد الميداني حيث يزداد ضعف النظام باضطراد أمام التظاهرات السلمية، ويفقد السيطرة على مناطق جديدة كلما ظن أنه استعادها في مناطق أخرى.
حتى أيام قريبة خلت لم تضع القوى القادرة على الدفع، بالمعنى المباشر وبالمعنى الاستراتيجي، ثقلها في المساومة مع الروس، ولم تلجأ أيضاً إلى قدراتها في الضغط المباشر. تتعدد التأويلات حول أسباب التأخر وإن صبّت مجملها في عدم جاهزية الأطراف المعنية لعقد صفقة مرضية، إلا أن التطورات الأخيرة توحي بحلول مرحلة التفاوض على النظام، وبأن حلفاءه سيكونون مضطرين لمناقشة سيناريوات التغيير بعد استنفاد سبل المناورة والمماطلة أمامهم. إن الممانعة الروسية بخاصة لن تكون فعالة مع ارتفاع منسوب الضغط الدولي والتلميحات بالقيام بتدخل منفرد، وقد سبق للروس اختبار العزيمة الأطلسية في مناطق أكثر حيوية لهم. لذا، من المحتمل أن يبرهنوا على شيء من الحنكة فلا يغالون في الثمن المطلوب؛ هذا إذا قرروا التضحية بالنظام قبل أن يصبح عبئاً ثقيلاً عليهم.
على ذلك يمكن قراءة التشدد الأخير بأنه استباق للمفاوضات الحقيقية يتماشى مع استبعاد النظام نهائياً من دائرة التفاوض، فالروس لا يفاوضون نيابة عن النظام بل باتوا أيضاً يفاوضون عليه، وربما يدلل تشددهم على الضعف والافتقار إلى الأوراق الاستراتيجية أكثر مما يعني القوة. في كل الأحوال قد تشهد مرحلة التفاوض على النظام ذبذبات بين تصاعد وهبوط، وسيمر الوقت عصيباً على الثوار السوريين حيث ليس من المتوقع الوصول سريعاً إلى نهاية هذه المرحلة. المؤكد أن القوى الدولية الراغبة في إسقاط النظام أضحت أكثر جاهزية لهذا الهدف، أما القوى الممانعة فسيتعين عليها قريباً تقبّل سقوطه، إن لم تصبح جاهزة للمساهمة فيه.

خيارات المصريين في انتخابات الرئاسة ودلالالتها

خالد غزال
شكلت النتائج التي أسفرت عنها الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في مصر مفاجأة في الداخل والخارج، ونظرت إليها بعض القوى التي قادت الحراك الجماهيري في العام الماضي على أنها إجهاض للثورة وخطر من إعادة النظام السابق.
المفاجأة الأولى كانت في تقدم آخر رئيس وزراء في عهد مبارك الفريق أحمد شفيق إلى المرتبة الأولى، مع مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي، على حساب مرشحين ليبراليين وناصريين و «مسلمين معتدلين». تستدعي هذه النتائج وقفة نقدية تحليلية تطاول مساراً عاماً من الانتفاضة المصرية التي أنتجت هذه المحصلة.
لماذا تقدم أحمد شفيق إلى المرتبة الأولى؟ سؤال تجب الإجابة عنه في رصد المزاج الشعبي المصري بعد عام من الحراك والتحولات التي طرأت عليه. بعد إسقاط حسني مبارك في أعقاب التظاهرات التي أطلقتها قوى شبابية مطلع العام الماضي وأمكنها استقطاب أوسع الجماهير، دخلت مصر في مرحلة جديدة من حياتها السياسية. خلافاً لما توهمه كثيرون، فإن إسقاط الرئيس لم يكن يعني إسقاط النظام، ولا يعني بداهة صعود قوى الانتفاضة إلى استلام السلطة. بديلاً من السعي إلى تنظيم القوى وتأطيرها والاستعداد إلى الجولات المقبلة لإكمال أهداف الانتفاضة، ركزت بعض الحركات الشبابية على عنوان واحد هو إسقاط الحكم العسكري في وقت جرى تحديد خطوات دستورية للانتقال إلى الحكم المدني، على رأسها إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في أوقات محددة.
على امتداد العام الماضي تصرفت قوى الانتفاضة، في معظمها، بسلوك يمكن القول إنه كان يعكس قلة الخبرة السياسية لهذه القوى، بل نوعاً من «المراهقة السياسية»، وذلك تعويضاً عن ضعف التنظيم في صفوفها، إضافة إلى غياب البرنامج الواضح لخياراتها السياسية المقبلة.
اعتمدت شعاراً أحادي الجانب عنوانه البقاء في الشارع والدعوات إلى التظاهرات المليونية، بكل ما يرافقها من لجوء إلى عنف مع رجال الشرطة، وتعطيل للحياة المدنية، وصولاً إلى شل الاقتصاد الوطني. توسعت هذه الممارسات واتخذت منحى خطيراً في بعض الأوقات وصل إلى حد كان يمكن أن يؤدي إلى إحراق مصر. تسببت هذه التظاهرات في تهديد أمن المواطن المصري العادي، وفي تعطل الأعمال بما يعنيه من زيادة معاناة الفقر والحرمان. لا نبرّئ المجلس العسكري من لعب دور خفي في تظهير صورة الشارع المضطرب، وإظهار المتظاهرين في صورة الغوغاء الذين لا هم لهم سوى تخريب البلاد. تلك كانت من أهم العلامات على بدء تحول الشارع المصري عن قوى الانتفاضة، وتفتيشها عن سلطة تؤمن للمواطن المصري مسألتين: بقاءه على قيد الحياة عبر فرض حال من الاستقرار الأمني، ثم تأمين الذهاب إلى العمل ومنع تعطيل الحياة الاقتصادية. لذا، نجح أحمد شفيق في الضرب على الوتر الحساس للمواطن، وجمع أصواته تحت شعار: من أجل الخبز، والأمن والاستقرار.
لكن أحمد شفيق، في المقابل، كسب أصواتاً واسعة على حساب الإخوان المسلمين. على رغم أن مرشح الإخوان تقدم إلى المرتبة الأولى، إلا أن حجم الأصوات التي نالها أظهرت تراجعاً في شعبية الإخوان، وهو أمر أجمعت عليه قيادات من الإخوان أنفسهم، وعلى رأسهم المرشد السابق مهدي عاكف الذي صرح بأن أصوات الإخوان المسلمين التي كانت توازي عشرة ملايين صوت في الانتخابات التشريعية، باتت في حدود خمسة ملايين صوت في الانتخابات الرئاسية. لا شك في أن مسارعة الإخوان المسلمين إلى الكشف عن برنامجهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي المقبل، وبروز نزعة احتكار السلطة وإبعاد قوى أساسية من المجموعات السياسية والإثنية، والتلويح بممارسات تضع القيود على حرية الفكر والتعبير والعمل السياسي، كل ذلك ترك شعوراً بالخوف مما يضمره الإخوان المسلمون لمصر، مجتمعاً وسياسة. هذا الانكشاف السريع في سلوك الإخوان، خصوصاً في ممارساتهم داخل البرلمان وسعيهم لفرض كل ما يلائم أيديولوجيتهم في التشريع، أشاع حالاً من الخوف لدى شرائح واسعة من المجتمع المصري، قوامها أن وصول الإخوان إلى السلطة سيعني إدخال مصر في حال من الاضطراب السياسي والأمني، وأخطار اندلاع احتراب أهلي. في مثل هذه الحال، لا يعود غريباً أن تتوجه الأنظار إلى ما يعتبر ضمانة في المستقبل لما يطلبه المواطن في حده الأدنى من الأمن والعيش.
صحيح أن أحداً لا يمكنه الجزم الآن في النتيجة الأخيرة للانتخابات، لكن لن يكون مفاجئاً أن تصب أصوات واسعة لأحمد شفيق، للأسباب المشار إليها. أياً كانت النتيجة، فإن مصر ستكون أمام حياة سياسية جديدة. ليس مبسطاً أن يشكل فوز أحمد شفيق عودة لنظام مبارك، وليس بمقدور النظام أن يكرر الممارسات السابقة. لا عودة لمصر إلى الوراء. والأمر نفسه ينسحب على الإخوان المسلمين الذين سيكونون أمام امتحان السلطة، في ظل مناخ سياسي وشعبي وإصرار على ممارسة الحريات السياسية والفكرية، بحيث سيكون من الصعب جداً على سلطة الإخوان «تعليب» مصر في قمقم حكمهم الذي سيكون قطعاً حكماً فئوياً وقمعياً على مختلف المستويات.
تبقى الإشارة إلى أن هذه الانتخابات، وقبلها الانتخابات التشريعية، أظهرت مدى الخسارة التي تكبدتها حركات الشباب، وأصعبها انفكاك كتل شعبية واسعة عنهم. يطرح هذا الواقع تحديات مقبلة على التيارات المعارضة، لجهة التنظيم وتكتيل القوى وبلورة البرنامج السياسي. هذه الانتخابات ليست نهاية المطاف في مصر، بل على العكس إنها البداية في الصراع الطويل من أجل مصر دولة مدنية وديموقراطية.

ماذا بعد خطة كوفي أنان

عبد العزيز التويجري
جاء الخطاب الذي ألقاه بشار الأسد في مجلس الشعب، ليؤكد مرة أخرى، إصرار هذا النظام على المضيّ قدماً في القمع والتقتيل والإبادة، تحت مسمى الخيار الأمني لمواجهة ما يدعي أنها «الجماعات المسلحة الإرهابية» بينما المقصود هو الشعب السوري الثائر على الظلم والبطش، وقد بدا بشار الأسد في حالة من الذهول والارتباك والانفصال عن الواقع الدامي الذي تعيشه سورية في هذه المرحلة، أثناء إلقائه خطابه الطويل الذي لا معنى له ولا فائدة فيه، والذي يعود إلى عهد الرؤساء الاستبداديين في الأنظمة الشمولية القمعية. وهو خطاب مغرق في الوهم، مفرط في الخيال، موغل في الانفصال عن الواقع على الأرض، ومنقطع عما يجري في هذا العالم من استنكار شامل ورفض كامل وإدانة قاطعة للجرائم ضد الإنسانية التي يقترفها نظام الأسد القمعي على مدى خمسة عشر شهراً.
ولكن إمعان النظام الطائفي في ممارسة القمع والتقتيل والتعذيب إلى أبعد الحدود، ليس هو كل المشكلة، بل هو جزء من المشكلة، فالموقف المتردد الذي يقفه بعض القوى الكبرى إزاء ما يحدث في سورية من ثورة شعبية عارمة شاملة، والموقف المؤيد للنظام والداعم له الذي تتخذه روسيا بالدرجة الأولى والصين بالدرجة الثانية، هذان الموقفان هما لبُّ الأزمة بصورة إجمالية، وهما أصل المشكلة المعقدة التي أضحت اليوم من أكثر المشاكل التي تهدد الأمن والسلم الدوليين.
فإذا كانت موسكو تؤيد النظام الطائفي تأييداً مطلقاً وتتشبث به وسيلة للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في سورية وفي الإقليم، فإن واشنطن تحجم حتى اليوم، عن اتخاذ الموقف القوي الحاسم مما يجري في هذا البلد المنكوب بنظامه القمعي، وتتردد لحساباتها الخاصة، في الانحياز الكامل غير المحدود إلى الشعب السوري الذي يعيش تحت بطش النظام الدموي الذي يشمل جميع المناطق السورية من دون استثناء، بينما تقف جامعة الدول العربية موقف التخاذل والعجز المعيب، ويصرح أمينها العام بين الحين والآخر، بتصريحات تبعث على الاستغراب والشك، ويمكن تفسيرها أحياناً على نحو مريب أيضاً. ومعروف أن السيد نبيل العربي يرتبط بالمصاهرة - ولعله بالفكر أيضاً - بالصحافي محمد حسنين هيكل.
ومعلوم أيضاً، أن هيكل هذا يثير جوّاً من البلبلة والشك بأحاديثه المدوية في الصحافة المصرية خلال الفترة الأخيرة، وبخاصة في «الأهرام» وقبلها في «الأخبار». وهو شخص يظهر في فترات حرجة ليخلط الأوراق، وليروّج لمفاهيم مغلوطة ومقولات ملتبسة. والواقع أن الدول العربية، باستثناء دول الخليج العربي وتونس وليبيا، لم تتخذ حتى الآن الموقف الذي يقتضيه التضامن الكامل مع الشعب السوري، فتطرد سفراء سورية، وتسحب سفراءها من دمشق، باعتبار أن هذا القرار سيقوي لا محالة من موقف المعارضة، ويوجّه ضربة قوية إلى النظام الطائفي المستبد، أما الموقف الذي تتخذه منظمة التعاون الإسلامي فهو ليس في مستوى المطلوب منها والمأمول فيها، فهي إلى الآن شبه متفرجة على المشهد الدموي.
وما دام الوضع العربي الإسلامي على هذا النحو، فلن تكون للضغوط التي يمارسها بعض الدول العربية - وهي دول الخليج العربي تحديداً - أي آثار فعالة وملموسة على الأرض.
أما إيران فهي تخوض معركة مصير نظامها الطائفي على الأرض السورية. ودعمها غير المحدود للنظام الطائفي في سورية، هو من أجل الحفاظ على مصالحها وأطماعها في المنطقة. وهذا الموقف من إيران مفهوم منطقياً وواضح واقعياً، فهو العداء المطلق والكيد الكامل للدول العربية التي تنأى بنفسها عن الطائفية، والتي تعمل من أجل الأمن والسلام وتحافظ على التضامن الإسلامي الحق وتسعى إلى تعزيز الوحدة الإسلامية الخالصة من الشوائب. لذلك، ينبغي وضع الموقف الإيراني في الاعتبار في جميع الأحوال؛ لأن مطامع طهران في الإقليم تمثل خطراً محدقاً بالدول العربية يجب التعامل معه بالمنطق الواقعي وبمنتهى الحذر.
لقد تبين بالوضوح الكامل أن النظام الإيراني الطائفي يتخذ من سورية والعراق وأنصاره في لبنان مركزاً له للوثوب إلى دول الإقليم، وبخاصة دول الخليج العربي. لذلك، فإن العصابة الطائفية الإجرامية التي تمسك بزمام الأمور في سورية، تخدم في المقام الأول، الدولة الطائفية الأكبر التي تساندها من كل النواحي عسكرياً ومالياً وسياسياً وديبلوماسياً وطائفياً أيضاً.
وفي ظل هذا التدهور المرعب والمريع للوضع في سورية، وفي ظل المواقف العاجزة المتخاذلة، والمواقف الداعمة المتحالفة، والمواقف المترددة الخائفة، لا يبقى هناك سوى اللجوء إلى مرحلة ما بعد خطة كوفي أنان التي فشلت فشلاً ذريعاً، وكان متوقعاً لها منذ البداية أن تفشل. إن العالم مدعو اليوم، وبإلحاح شديد، إلى التفكير في خطة بديلة لا بد أن تُبنى على أساس من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وأن تأخذ في الاعتبار قرار مجلس حقوق الإنسان ودعوته مجلس الأمن إلى رفع القضية للمحكمة الجنائية الدولية.
وتلك هي السبيل الوحيدة لإنقاذ الشعب السوري من المجازر والوطن السوري من الانهيار.

لبنانان أحدهما سوريا الأسد

رائف بدوي
قال الشارع اللبناني بأغلبية مواطنيه في يومٍ عظيم وبصوتٍ واحد وحضاري: ( لا ) للوجود السوري والهيمنة السورية على سيادة لبنان، ففي ذلك اليوم العظيم من التاريخ اللبناني توحّدت الصفوف والطوائف جميعاً تحت العلم اللبناني وشجرة الأرز معلنة بتلك الإرادة نبذ الطائفية ووحدة الصف، والمسؤولية الكاملة عن خلق وعي جديد وتاريخ جديد، بعيداً كل البعد عن براثين الحرب الأهلية وأوجاعها.
وخرجت فلول وجحافل الأسد من لبنان الواحد الموحّد، ولكن هذا لم يرق لنظام الأسد وحلفائه في الداخل اللبناني؛ الحلفاء الذين يعيثون صموداً على الأرض اللبنانية، شأنهم في ذلك شأن صمودهم في وجه الثورة السورية، حيث إنهم ضلوا يتحينون الفرصة تلو الأخرى لإشعال فتيل الحرب الطائفية المقيتة لإرجاع لبنان إلى ذلك العهد البائس البائد الذي لا يريده كل لبناني وعربي شريف لوطن العروبة لبنان.
لقد حانت الفرصة الذهبية في نظر الأسد والحلفاء الآن لنقل مسرح العمليات والقتل البربري اليومي لشعبنا السوري العظيم الصامد إلى لبنان، حتى ينشغل العالم عن جرائم نظامه في حقِّ السوريين، وتتسنى له الفرصة لقتل المزيد من الأطفال والشيوخ والنساء من الأبرياء العُزّل.
نحن يا سادة مقبلون على مخاضٍ عصيب وعسر في المشهد اللبناني، من قتل وخطف واغتيال وتفجير، ما لم يدرك حلفاء نظام الشيطان ( الأسد ) في الداخل اللبناني بأن الوضع خطير، وبأن لبنان الكبير الوطن فوق كل اعتبار، وحالما يستعيد أحد الحلفاء بندقية المقاومة التي أهداها لرئيس الاستخبارات السورية في لبنان إبّان خروجهم من لبنان، وعندما يسحب أحد أهم الحلفاء تلقيبه لطاغية دمشق بـسوريا الأسد، عندها فقط يعود ويصبح لبنان واحداً.
وأختم بقول الشاعر المعارض السوري : المثنى الشيخ عطية، في أحد قصائده التي وجهها إلى نظام الشيطان، كم ستقتل منا هذا الصباح.. وأنا أردد وأقول كم ستقتل من اللبنانيين هذا الصباح ؟!

التقاء مصـالح أمريكا وإيران في شخصيـة المالكي

جريدة اليوم
تمثل قصة نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الدلالة الكبرى على مدى النفوذ الإيراني في العراق وكذلك على مدى التقاء الأعداء «إيران وأمريكا» على مصلحة واحدة، وهي بقاء المالكي في الحُكم، وهي من القصص الكلاسيكية في السياسة الدولية التي تتعدّد فيها الأحداث وتتأزم لدرجة الانفجار، ثم تحدث المفاجأة في الخاتمة حيث تتقاطع السوريالية السياسية مع الواقع والمشهد السحري لتبقى الحبكة الدرامية غامضة في النهاية على أمل كتابة جزءٍ ثان من القصة.
نوري المالكي جاء لرئاسة الوزراء بعد ان تمّ إقصاء الجعفري إثر رفض الأحزاب العراقية له واختاروا المالكي بديلًا بموافقة امريكا وايران لاعتقادهم أنه شخصية ضعيفة بالإمكان اللعب معه سياسيًا دون إرهاق أو مجازفة، لكنه سرعان ما أدار اللعبة وحده ووضع القواعد التي تناسبه وحده، وأحاط نفسه بمستشارين ومكتب سياسي وعسكري انفرد فيه بالحكم ووقع الاتفاقية الأمنية مع أمريكا بعد مناورات عديدة، ووضع خطة أمنية في بغداد أنهك فيها خصومه من ميليشيات شيعية وحركات إسلامية سنية ليحتكر لنفسه القوة وهمّش من جاءوا به للحكم من الأكراد، وكذلك التحالف الوطني مثل أتباع الحكيم والصدر، وحين ادرك الجميع خطورته واستفراده بالحكم حاولوا جمع التواقيع للإطاحة به عبر نزع الثقة البرلمانية لكنه سرعان ما بدأ المناورة السياسية، وأغرب ما في الأمر هو التقاء إيران وامريكا مرة أخرى على شخصيته ومحاولتهما إحباط العملية الديمقراطية من خلال نزع الثقة وتنحيته وهو ما يُثير الاستغراب وكأن هناك تفاهمًا سريًّا يتم بين هاتين الدولتين مما يؤكد شكوك العراقيين والدول العربية مما يجرى بين إيران وأمريكا والمدى الذي يمكن أن تصل إليه مصالحهما في حال اتفقا سياسيًا على حساب الدول العربية ودول الخليج بالتحديد، والمدى الذي يمكن أن يصل إليه البازار السياسي في صفقات البيع والشراء من تحت الطاولة.
تحالف غريب لحماية رئيس وزراء ديكتاتور رفضه حلفاؤه وخصومه العراقيون، ومع ذلك يحاولون فرضه على الآخرين، وكأن ذلك مقدّمة لأيام قادمة تحدث فيها تسويات خطيرة نأمل أن يعيها العرب جيدًا ويدركوا خطورتها خصوصًا إذا حدثت تفاهمات في الملف النووي الإيراني وهو ما قد يؤثر على وضع الثورة السورية.
المالكي نموذج على عدم نزاهة اللعبة السياسية وكل مَن يعتقد أن الدول تحرّكها المبادئ يعيش في وهمٍ كبير، إنما المصالح هي المحرّك الرئيسي للدول الكبرى والإقليمية.

الطائفية.. الجمرة الخبيثة

د. خالد بن سعود الحليبي
كلما ادلهمت الأحداث تكشفت عن وجوه كالحة، عليها غبرة تاريخية تعيسة، تعيش على دماء الآخرين، تمضغ أيامها.. بل دقائقها لتحقق أحلامًا طائفية توسعية، في الزمن الذي تدعو فيه كل الطوائف إلى التعايش تحت مظلة (وطن).
ما يحدث في سوريا لم يعد يحتمل تأجيل إزالة الحجب عن مفاصل مأساته، فهناك من يبارك ويدعم ويحارب ويشارك بكتائبه وأسلحته في تدمير الكائن البشري هناك؛ طفلًا أو امرأة أو رجلًا.. لا فرق، سوى أنهم ينتمون إلى أهل السنة والجماعة، شيخ يتظاهر في الشارع، أو شاب يقاتل في الجيش الحُر أو طفلة كالفراشة تلعب في زاوية من بيتها الخرب، أو طفل أشعث يركض ليشتري خبزًا لتأكلها أم ثكول لم يتبق لها سواه، كلهم في النظر الطائفي سواء!!
الكتائب الحاقدة تنفذ المذابح، والإعلام السوري المجرم يحاول أن يجيرها ـ في صفاقة وحماقة ـ لصالح موقفه المهترئ المتداعي، تكاد تصريحات المسؤولين تسبق المذبحة أو تتزامن معها؛ لأن الخطة واحدة!!
(الدم) يجذب (الدم)، وإن عقلاء الطائفة العلوية في سوريا ليعلموا بأن إبادة الأسر بأكملها في القرى البعيدة عن مرأى العالم، لن تذهب هدرًا، وأن التوسّع في (الذبح) لن يولد إلا (ثأرًا)، ولن تستطيع سوريا أن تلملم جراحها ولو بعد قرن إذا لم يتحرّكوا لإيقاف التدخل الإيراني والتدخل الحزبي، بل إن اللحظة التاريخية التي يعيشونها تحتم عليهم أن يصفوا مع أطياف الشعب السوري الأخرى في وجه الظلم الطاغي، فإن السفينة واحدة، وعليهم أن يعلموا بأن كل ما تتناقله وسائط الظلام من أن الثورة السورية إذا نجحت فسوف يقتل العلويون بأيدي الثور، لا يمكن أن يكون صحيحًا أبدًا، فقد شبع الجميع دمًا وقيحًا وصديدًا، ولم يعد أمام هذا الوطن الشهيد إلا أن ينسج له خيوطًا جديدة من الحياة، وأن يلقي عن كاهله أسمال الحرب، وأوضارها، وأثقالها، ولا قتل إلا لمن قتل، وتلك سنة معلومة من سنن الكون، (بشِّر القاتل بالقتل ولو بعد حين).
إن (بشار الأسد) خاسر في كل حال، ولن يبقى رئيسًا لسوريا ـ بإذن الجبار المنتقم ـ ولو أباد الشعب السوري كله، ومن يقفون معه الآن من الدول الكبرى؛ مثل الصين وروسيا وإسرائيل، يتخذونه أداة لتحقيق مصالحهم القومية البحتة، ومن يساندونه من الطائفيين يعدّونها فرصة للمشاركة في الذبح؛ ليشفوا به غليلهم التاريخي الذي لا يزال يُوقد من شجرة خبيثةٍ كلما مرّت ذكرى منتقاة.

دكتاتور بهوية طائفية

يوسف الكويليت
العراق رقم كبير في الجغرافيا السياسية العربية، وظل المعادلة الصعبة في المتغير القومي والاستقرار الأمني، غير أن ما بعد الملكية وإغراقه بسلسلة من الانقلابات ووجبات الإعدامات، والتصفيات على الهوية، وتفجير الحروب، حولت العراق من دولة مركزية بثقل سياسي واقتصادي، إلى بلد يعود إلى العالم ما قبل الأخير، رغم ذخيرته الهائلة من العلماء والاختصاصيين في كل المجالات، حتى إن الآلاف من الأطباء في المهاجر الأوروبية والأمريكية، لو عادوا مع بقية المشتتين من الكفاءات النادرة، لأصبحوا اضافة هامة في إعادة هيكلة حياته وتطوره..
عراق اليوم بلا هوية ثابتة، فهو شيعي، سني، كردي، وكل مكون له انتماء جعل الوطن مجرد دكان لبيع الولاءات، حتى ان الحضور الايراني أصبح أكبر من الاحتلال الأمريكي الذي هو من تسبب في قتل الهوية مع قتل الإنسان وتشريده..
الصراع الدائر، ظل سنّياً شيعياً بقوالب عربية وإيرانية، ووحدهم الأكراد الذين يعيشون بأقليمهم حياة استقرار وبناء جديد، غير أن الخلافات العاصفة داخل البيت الشيعي والتي اكتشفت متأخرة أن نوري المالكي يستنسخ حكم صدام حسين، فتح الباب لضرورة تغييره، سواء بالإقالة، أو الاستقالة، وهذه المرة جاء التحالف بين القوى الداخلية كسبب وجيه من الخوف من انفجارات قد تعصف بكل شيء، غير أن الموالين لإيران، لا يسعون لاستقلال قرارهم، لأن فتوى التغيير يجب أن تأتي من قم، وليس من النجف، مما وسع التبعية لدولة أجنبية حولت العراق إلى مركز دعم لسوريا نيابة عنها، ووسيلة ضغط على دول الخليج بخلق فوضى داخله، وكل هذا جاء على حساب مطالب وطنية لم تمس السنّة أو الأكراد وحدهم، بل تأثر بها الشيعة، ولم يكن مستغرباً أن يأتي مبرر التغيير جماعياً، لأن فترة المالكي طيلة سنوات حكمه لم يسجل أي انجاز يقضي على الفقر، ويبدأ سلسلة الأعمار لما هدمته حالات الاحتلال ومخلفات الحروب، ولا استطاع المواطن العودة لوطنه من المهاجر العالمية، لأن قائمة التهم طويلة تجاهه مما وسع السجون، والإبادة بحس طائفي حاول كل الأطراف من الأحزاب والطوائف، ايجاد حلول تبعث هوية الوطن للجميع..
وصول المالكي للسلطة جاء ثمرة شكل ديموقراطي غير مستوفي الشروط لأنه لم يساو بين الطوائف والأقليات الأخرى، ونتيجة الفراغ السياسي، دعمت أمريكا وصوله بصفقة مع إيران، فهو يحكم بعقلية الطائفة أسوة بإيران وسوريا، وهو نسخة من النظامين وشهوة الانفراد بالحكم طورت في ذاته حلم الدكتاتور، ولكن بصيغة مختلفة عن حكومات العراق السابقة..
فهو يعتمد على طائفته التي تضخمت في أجهزة الأمن والجيش بعد تفتيت الأخير وأبعد الخصوم بدعاوى التآمر والإرهاب، وسير مداخيل العراق لأهداف شخصية، لكنه غير مدرك أن حاجة الخبزة أهم من أقوال الحكماء، وبعناده وضع العراق في حالة فراغ سياسي وأمني قاتلين، مما فجر غضب الجميع عليه، وأصبح اجراء التغيير مطلباً هاماً حتى من المقربين إليه من الطائفة والحاشية..

ذِئَاب.. دقيقة حداد

عبد الله منور الجميلي

لم تمض بضعة أيام على مشاهد الذّبح والصّلخ في (حُوْلَة سوريا) التي راح ضحيتها أطفال ونساء!!
فـ(بَشّار) وزبانيته وطائفته أصبحوا يَقْتَاتُون ويعشقون الدماء!!
(قرية أو مزرعة القبير في حَمَاة) كانت الضحية لمصّاصي الدماء يوم الأربعاء!!
الضحية واحدة.. أبرياء أطفال ونساء.. وكل أشقائنا في سوريا أبرياء!!
ذَبْحٌ لهم... نَحْرٌ... تقطيع للرؤوس... لكن هذه المرة استمتع الطغاة بِحَرْق الأشلاء!!
باتت (سُوريا) كعادتها تَلَبس الحِدَاد... تغرق في الدموع... تبحث عن وسيلة لِدفْنِ أولئك النبلاء!!
العَالَم من حولهم، لَهم ينتفض... يا الله إنه يُبَادر بنشْر الفيديوهات والصّور!!
وألسنة سَاسَته: تُنَدّد... تَشجب... والكلمات من أفواههم تَهْبِط خَجْلَى تَحْتَضِرْ!!
عصر الخميس يجتمعون في مَجْلِسِ أمنهم... خُطب وعبارات!!
تكتفي بـ(دقيقة حِداد)، بعدها تنتهي كل تلك الاجتماعات!!
آهٍ يا إخوتي في سوريا الحبيبة هي سنوات من الحِداد عبر الزّمَان!!
أعترف لكم يا أحرار سوريا أنا مثلهم صغير (جَبَان)!!
لا أملك لكم إلا كلمات حبُرها دمعي ونبضات قلبٍ حطمته الأحزان!!
جرائمهم لم يصنعها التّتار الذين اقتحموا كلّ الديار!!
وما فَعَلها في رومانيا (تشاوتشيسكو) حتى تطلق عليها في الشارع النّار!!
أَيُّ كُرهٍ هذا الذي يملأ صدور أشرار سُوريا... أولئك الطّغَاة؟!
أَيُّ حقد هذا الذي يدفعهم لِسَحْقِ طِفْلٍ لا يَعرف حتى كلمة آه؟!
آهٍ ما ذنبك أيها الطفل أَنْ تُحْرَقَ، والطغاة يَقتلون أمك وأباك؟!
آهٍ وحسرتاه لماذا تُدفَن أُمٌّ هُنَا.. ويُدفَن رضيعها هناك!!
إنها ذئاب العنصرية والطائفية قد كَشّرت عن الأنياب!!
انصروا إخوانَكم يا مُسلِمون.. وافتحوا لنُصرَتِهم ألف بابٍ وباب..!!

إلى أين ستقود الثورة المضادة أرض الكنانة

د. سامي سعيد حبيب
فرح الشعب المصري وبقية الشعوب العربية بادئ الأمر بالنجاح النسبي الذي حققته الثورة المصرية في الإطاحة بالرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك في وقت قياسي، وبأقل التكاليف البشرية، وأقل التدمير للبنية التحتية مقارنة مثلًا بالثورة الليبية الدامية، أو بالمجازر والفظائع الجارية حاليًا على يد النظام السوري المجرم ضد أهل السنة من أبناء الشعب السوري الشقيق. وظن الجميع أن كبرى الدول العربية سكانًا أصبحت قاب قوسين أو أدني من قطف ثمار الثورة وتطبيق الديمقراطية الحقة فيها، لكن وللأسف الشديد كانت المفاجأة المذهلة التي أنهت تلك الصورة الوردية هي أنه وبالرغم من تنحي الرئيس السابق إلا أن نظامه البائد لا يزال ضاربًا بجذوره في أرض الكنانة، وأن للنظام السابق فلولًا متمكنة من مفاصل الدولة، وأنها (أي الفلول) مكونة من شبكات من الضالعين في الفساد في العهد السابق من بعض رجال الأعمال، وبعض كبار المتنفذين في المؤسسة العسكرية ومجلسها العسكري وبقايا المؤسسة الإعلامية وبقايا المؤسسة السياسية والأمنية السابقة ناهيك عن المؤيدين للثورة المضادة من قوى إقليمية وعالمية الأمر الذي أنتج وضعًا ملغومًا أطلق عليه اصطلاح الثورة المضادة، وأنها تخطط وتنفذ للحيلولة دون تحول مصر إلى دولة يحكمها التيار الإسلامي عن طريق التداول السلمي للسلطة.
الوضع الآن وصل لحالة من التأزم قد تنبئ بالانفجار، لأن المصريين غاضبون جدًا بسبب التلاعب المخل بالانتخابات الرئاسية من قبل لجنة الانتخابات العليا بمصر، التي هي في حقيقة الأمر أداة في يد المجلس العسكري الأعلى الحاكم بمصر. ويكفي تلك اللجنة إفسادًا للانتخابات الرئاسية مقدمًا موافقتها على ترشيح آخر رئيس للوزراء في العهد السابق الذي عيّنه الرئيس السابق حسني مبارك الفريق أحمد شفيق، في الحين الذي حالت دون ترشيح رجال أكفاء من التيار الإسلامي لأعذار هي أوهى من بيت العنكبوت، سعيًا منها لمحاولة احتواء التفوق الانتخابي للتيار الإسلامي بمصر بشقيه الإخواني والسلفي الذي فاز مجتمعًا بنسبة 66% من مجمل الأصوات في الانتخابات البرلمانية، أي أن معدل شخصين من بين كل ثلاثة ناخبين صوّت للأحزاب المنادية بأسلمة الدولة. ورغم ذلك الفوز الانتخابي البرلماني النزيه وصل الحال بالانتخابات الرئاسية إلى جولة إعادة بين مرشح الفلول والثورة المضادة أحمد شفيق وبين المرشح الوحيد المتبقي من التيار الإسلامي محمد مرسي وذلك بسبب انقسام الإسلاميين على أنفسهم وبسبب التلاعب والتزوير في نتائج الانتخابات الرئاسية إذ ان ذلك من تخصص النظام السابق وفلوله بحق.
من بين الحيل التي لجأت إليها الثورة المضادة بمصر في التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية لصالحها اللعب على الحالة الأمنية وذلك بسحب الكثير من قوى الشرطة من الشوارع لأشهر طويلة والتشجيع على ارتكاب الجريمة حتى انتشرت بشكل مخيف في بلد عُرف عنها أنها من أكثر بلاد الدنيا أمنًا رغم الفقر المدقع لغالبية شعبها، وذلك ليرتمي الناخب في أحضان المؤسسة العسكرية بحثًا عن الأمان.
السيناريوهات المحتملة لنتائج جولة الإعادة هذه كثيرة جدًا أسوأها على الإطلاق هو فوز أحمد شفيق وحينها ستغلي مصر غليانًا لا يعلم نتائجه إلا الله، لأن تلك النتيجة تعني بكل تأكيد اختطاف الثورة المصرية من قبل المجلس العسكري الأعلى والثورة المضادة والعودة بمصر إلى المربع الأول إلى حكم الجيش والمؤسسة العسكرية التي ظلت تحكم مصر بالقهر والاستبداد والتخلف على مدى ما يزيد عن 60 سنة ووصلت بالأوضاع في مصر إلى ما هي عليه وباختصار إلى عودة «المباركية» دون مبارك، ويكون كل ما جنته الثورة والثوار هو استبدال وجه بوجه.
إن في تمكن الثورة المضادة في مصر من إيصال من سيحكم بالديكتاتورية العلمانية العسكرية، وإقصاء التيار الإسلامي المنادي بالتداول السلمي للسلطة دعمًا لمنطق الغلاة المتطرفين بأنه لا يمكن الإصلاح والتغيير في العالم العربي إلا من خلال القوة والعنف، ويخاطب الغلاة بذلك عقول لم تصقلها خبرات الحياة، فكما يعلم الجميع أن التركيبة السكانية للعالم العربي تشكل فيها فئة الشباب دون سن 25 نسبة 60% من تعداد السكان، وعندها سينقلب السحر على الساحر، وقد لا قدر الله تتمزق مصر أمصارًا. فاللهم أبرم لمصر وكل أهل الإسلام أمر رشد يصلح أحوالهم.

ـ14 يونيو حكم التعطيل لتنصيب ظلمائيل

شريف قنديل
يبدو أن يونيو لا يريد أن يمضي دون أن يترك بصمته السوداء في تاريخ مصر.. فإذا كان الخامس منه قد مضى دون أن يشعر المصريون معه بأدنى إحباط، فإن الرابع عشر منه قد يمثل انتكاسة إن انحرف أهل الحكم والقانون والكياسة!
والحاصل أن هناك سيناريوهين مفزعين للحكم "السياسي" الذي ستصدره المحكمة الدستورية يوم الخميس 14 يونيو بخصوص السلطات الكبرى الثلاث المتصارعة على الشعب! السلطة التنفيذية التي انحرف بها المجلس العسكري لطرف على حساب الشعب، والسلطة التشريعية التي انحرف بها البرلمان على حساب الثورة، والسلطة القضائية التي أساء لها الجنرال أحمد الزند!
وإذا كان السيناريو الأول الذي يقضي بحل البرلمان واستمرار شفيق كارثة، فإن السيناريو الآخر الذي يقول باستمرار البرلمان، واستمرار شفيق كارثتان!
لقد سربت مفوضية المحكمة الدستورية أو تسرب عنها أو منها تقرير ظريف يحدد الخيارات أمام "الإخوة" و"الإخوان" على طريقة: ما رأيك؟ تعزل شفيق.. نعزل البرلمان! تسيب شفيق نسيب البرلمان وفوقه "بوسة" كمان!
ولأنني من أولئك الذين خاب رجاؤهم في الطرفين "المجلس" و"الإخوان"، ولأن ما أقوله فيهما دائمًا يأتي عكسه، أقول اليوم آملاً أن يتحقق العكس، إن الإخوة والإخوان سيتفقان "كالعادة" بحيث يبقى البرلمان ويبقى شفيق، دون أن تأخذهما شفقة بالشعب المصدوم والمكلوم في ثورته حتى الآن!
لقد هب النظام القديم بكل أدواته وأسلحته الفتاكة ليُنصِّب "ظلمائيل" رئيسًا لمصر.. القوات جاهزة، والإعلام جاهز، ونادي الزند حاضر بقوة، والأمن سيعود في أقل من ساعة!
إنه "ظلمائيل" الهابط من أسطح العمارات في التحرير بعد قتل المتظاهرين، مبشرًا بالأمن والعدل في زمن الكذب والتضليل، ومهددًا كل قوانين العزل وأحكام المؤبد بالمحو والإلغاء والتعطيل!
لقد استقر النظام عليه.. على "ظلمائيل".. ولأن ذلك كذلك، فلا أحد يقترب برصاصة أو حتى زجاجة ماء، من أولئك الثائرين في ميدان التحرير وكل الميادين!
إنهم ليسوا الشعب.. هكذا قال كل المتحدثين الرسميين للثورة المضادة بمن فيهم رئيس نادي قضاة مصر.. تصوروا!! لقد بانت إرهاصات وصول "الفريق" أو "الفريس" شفيق.. "كلها حرفين تم تغييرهما سريعًا بحيث تصبح الدولة مدنية لا عسكرية"!
بانت هذه الإرهاصات بقوة منذ أن منعت قواته ندوة نقابة الصحفيين، ومنذ أن حضرت ملايينه الخمسة "فجأة"، وهي المرشحة لأن تكون 18 مليونًا "فجأة"!
في ضوء ذلك أعلن قبل الرابع عشر من يونيو، أي قبل الحكم لصالح "الفريس" شفيق، أنني سأعارض سيادته، لأنه ليس من رجوناه رئيسًا لمصر بعد 25 يناير، سنعارضهم، مهما أحاطونا بالقمر المعتم، والشمس الكئيبة، ومهما دفعوا بكل جنرال أو قاض أو زعيم كتلة أو خريج سجون أو قائد كتيبة!
سنبقى في صف الشعب الذي يسمونه الآن علنًا "زي زمان"، "الفئة المندسة"، و"القلة الحاقدة"، و"أصحاب الأجندات والمخططات الخارجية".
والحق أن هناك بالفعل "مخطط داخلي" و"مؤامرة داخلية"، و"أجندة داخلية" و"أصابع داخلية"، و"أقدام داخلية" لدهس ثورة 25 يناير!