Friday, June 15, 2012

اختلاف العلماء في شرب كوب الماء

بشائر محمد
راج قبل مدة مقطع مصور على "اليوتيوب" لرجل إماراتي ذي مركز مرموق، يتقمص دور الأموات، فيبدو في المقطع وهو يرتدي الكفن، ثم يُحمل ويوضع في القبر ويبقى بداخله عشرين دقيقة، ليخرج بعدها متأثرا يتحدث عن مشاعره وهو راقد كالميت، بعد أن منح فرصة أخرى للعودة إلى الحياة، حيث الميت إذا قال "رب ارجعون" لا يتحقق له ذلك، وما الذي تغير فيه بعد هذه التجربة، وكيف سينظر بعدها إلى المستقبل. مؤكدا أن الهدف من هذا العمل هو تذكير النفس بالموت والآخرة والقرب من الله. وهذا ما يجعلنا نتساءل عن فريق التصوير الذي رافق الرجل، والمايكرفون الذي تحدث من خلاله، لأن الاقتراب من الله عمل بين المرء وربه لا يحتاج لإشهاد الناس عليه، لكنه ربما تأثر ببعض المشايخ ممن يعشقون الكاميرا والتصوير في أوضاع وهيئات مختلفة وغريبة.
وما إن انتشر هذا المقطع حتى خرج علينا عشرات الشيوخ في عادتهم الدائمة في الاختلاف، فمنهم من يستحسن هذا العمل ويرى فيه إيقاظا للنفس من السبات والغفلة، ومنهم من يرى أنه لا يجوز، ومنهم من يرى أنه لا بأس، وآخر قال إن هذا الأمر حرام لأن فيه تعريض النفس للضرر بنزول القبر، وآراء مفصلة هنا وهناك، وعلينا أن نختار أي الآراء يناسبنا أكثر. فليس ثمة رأي راجح. وبالرغم من أننا نسمع دائما مقولة (اختلاف الأئمة رحمة) أو (اختلاف العلماء رحمة)، ونحن نلمس هذا الاختلاف بالفعل بين العلماء في حياتنا بشكل ملحوظ؛ إلا أن الأكثر ملاحظة ووضوحا في الآونة الأخيرة أن هذا الاختلاف نما وتكاثر، حتى إننا بتنا نعتقد أن هؤلاء العلماء يختلفون لمجرد المخالفة، من باب (خالف تعرف) في كل ما يواجههم من أمور، حتى في الأمور غير الشرعية، مثل القضايا اليومية والظواهر المجتمعية والأحداث السياسية, وأصبح عامة الناس في هرج ومرج لا يدرون أي الآراء هو الصائب، ولك أن تشرب كوبا من الماء، لتنهال عليك الآراء المختلفة ممن حولك بين اجلس لا يجوز الشرب واقفا، بل اشرب ولا تثريب عليك فالأمر جائز، وآخر يجوز ولكنه مكروه، ثم إنك تعب الماء عبّا وهذا لا يجوز بل مصه مصا، ورأي يقول اشرب ولا بأس.. وبعد كل هذا فليس من الغريب إذا أن تجد رجلا يطلب الفتوى في شرب العصير من فم العلبة دون صبه في الكأس، هل هذا جائز؟ ويستمر اختلاف العلماء، حتى اختلفوا في المقولة السابقة (اختلاف الأئمة رحمة) وقال بعضهم إن المقولة خاطئة فإجماع الأئمة هو الرحمة أما الاختلاف فهو فرقة وشتات، وقال آخرون إن المقصود هو الاختلاف في حال الاجتهاد، حيث المخطئ مشمول بالرحمة فله أجر واحد. فإلى متى ياعلماء المسلمين؟

ليبرالية مزيفة و قليلة أدب

صالح الديواني
يُعد عمر الليبرالية قصيراً مقارنة بعمرها الحقيقي كنزعة إنسانية. وكظهور أولي شكلي لمصطلحها المشتق (من لِبِرَالِس liberalis اللاتينية وتعني حر)، وطدت المدرسة الليبرالية الحديثة أقدامها كثيراً على نحو ما مع الرغبة الإنسانية الجامحة للتحرر والجموح، تاركة التنظير والجدل حولها للكلمات اللسانية بمختلف لغات العالم، والأحداث الزمنية المكانية. لتمنح المفهوم فرصته العريضة في التأقلم مع المتغيرات شكلاً ومضموناً. ولتجعل من الحداثة مركبها العظيم الذي تحالفت معه على مر العصور، ودون أن تشترط التطبيق الكلي لمعنى حرفية مصطلحها واتساعه على معتنقيها وممارسيها. "بمعنى حق الحياة كما يشاء الفرد ووفق قناعاته، فالليبرالية لا تعني أكثر من حق الفرد- الإنسان في أن يحيا حراً كامل الاختيار وما يستوجبه من تسامح مع غيره لقبول الاختلاف. والحرية والاختيار هما حجر الزاوية في الفلسفة الليبرالية، ولا نجد تناقضاً هنا بين مختلفي منظريها مهما اختلفت نتائجهم من بعد ذلك. فبخصوص العلاقة بين الليبرالية والأخلاق، أو الليبرالية والدين، فإن الليبرالية لا تأبه لسلوك الفرد ما دام محدودًا في دائرته الخاصة من الحقوق والحريات، ولكنها صارمة خارج ذلك الإطار؛ فالليبرالية تتيح للشخص أن يمارس حرياته ويتبنى الأخلاق التي يراها مناسبة له، ولكن إن أصبحت ممارساته مؤذية للآخرين مثلاً فإنه يحاسب على تلك الممارسات قانونيًا. ومعارضو الليبرالية يغضون النظر عن تأكيدها على محاسبة الفرد حين يفعل ما من شأنه الإضرار بالآخر أو بالمجموعة الاجتماعية.
وقد حاول البعض أمثال (ايمانويل كانط وجان جاك روسو) في فترة تاريخية تقديم نظريات تعرف بعض جوانب الليبرالية السياسية للفرد سميت بـ(نظرية العقد الاجتماعي) على أنها عقد تراضٍ بين الحاكم والمحكوم يكون هو المبرر لسلطة الحاكم.
وعلى الرغم من اختلاف بعض المنظرين كـ(جون لوك وجاك روسو) من حيث الآلية، إلا أن محصلتها النهاية كانت واحدة تماماً. والحقيقة أن هذا الأمر هو ما يُقره ويعتمده الإسلام واقعاً في الأساس. لكن بعض العرب المنادين بالفلسفة والمبادئ الليبرالية يعجزون في الوصول إلى روحها بامتياز، ويسقطون كأوراق الخريف مع أول اختبار حقيقي لما يؤمنون به من الأخلاقيات الجميلة كما يزعمون. ويتنكرون لأبسط قواعد الفكرة الليبرالية التي تشترط عدم الإضرار بالآخر، وتؤكد على أهمية حفظ حقوقه بكافة أشكالها. بل يفشلون حتى على المستوى الأخلاقي البدائي البسيط، وهم بذلك إنما يقدمون أنفسهم للعالم كأسوأ النماذج والأمثلة وأقبحها كأفراد أو جماعات. لتعكس هذه المفارقات المترنحة في واقعها حقيقة ضعف خلفيتهم عن الفكر الليبرالي وهمومه، وهشاشة قواعدهم المعرفية والأدبية التي ينطلقون منها كمستوعبين ومهتمين متحمسين. لترتسم في النهاية صورة مخجلة ومحرجة لا تمت بصلة للضمير والمعنى الإنساني النبيل. ويمثل الموقف الصامت المخجل لبعض الليبراليين اليساريين العرب كـ(أدونيس) إزاء ما يحدث في سورية، نقطة سوداء تنفجر في وجهه كالحقيقة. ومشهد الليبراليين السعوديين لا يخلو قطعاً من أمثال هؤلاء المزيفين بليبرالية فجة، تعكسها أفعالهم وحواراتهم مع الآخر، وهي أبعد ما تكون عن الحد الأدنى الذي يحقق النهج الليبرالي في أدنى مراتبه. فتجدهم يتراشقون بما يُخجل من الكلمات البذيئة، ويتصرفون فعلياً وعن عمدٍ في الغالب بما يتضايق منه الآخر ويخدش حياءه. غير عابئين بما سيمثله ذلك من ردود أفعال مختلفة يتبناها الطرف الآخر للدفاع عن فكره ومبادئه.
وهنا تسقط مفاهيم كثيرة تتبناها الفكرة الليبرالية بشكل قسري ومُبرر، نتيجة انعدام أو شح الوعي الليبرالي، الذي يمكن له أن يشكل نقاط التقاء جيدة وممكنة جداً مع المعتقدات الفكرية والدينية المختلفة في المجتمع بأسره. فمن هم أولئك الذين يُسبغون على أنفسهم لقب رموز الليبرالية السعودية؟ وما خلفياتهم الثقافية؟ وما مدى وعيهم بالفكر الليبرالي؟ وهل حققت تحركاتهم الحد الأدنى من النجاح والتأثير؟ وهل هم بالفعل رموز يمكنها الترويج بنجاعة لليبرالية سعودية متوازنة وناضجة؟ وهل نستطيع القول بأن الليبراليين السعوديين قد تخلصوا من مرحلة المراهقة؟
أعتقد أن مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر وفيسبوك) وبعض المدونات يمكنها قول الكثير عن حقيقة الهم والمد الليبرالي وأُطروحات القائلين به بشكلٍ ما. فمكونات المجتمع السعودي المختلفة لا تزال برأيي غير مؤهلة لتقبل اللغة الليبرالية أو التواصل مع أبجدياتها الأولى. لكنني أجزم أن الزمن على امتداده كفيل بتهيئة نقاط التقاء صريحة وليس مجرد نقطة التقاء واحدة. وكل ما ينقصنا هو وعي الحوار والحوار المؤصل والمؤدب فقط لاغير، حتى لا نقع في فخ ليبرالية مزيفة وقليلة أدب، تثير الغبار ولا تزيل منه شيئاً.

الموت.. لماذا لم يعد فكرة مخيفة

عضوان الأحمري
في كل أمة يكون للموت هيبة، ويصبح حديث العامة، ويخاف الجميع من الأمراض المعدية أو الفتاكة مثلما كانوا يخافون قديماً من"الطاعون". الآن، أصبح الحديث عن الموت كما لو أن الحديث هو عن سيارة جديدة، أو جهاز إلكتروني جديد، أو حتى رحلة استجمام.
في مجلس العزاء مثلا تجد أن أهل الميت هم الحزينون فعلاً، البقية يعبثون بأجهزة الجوال، بعضهم قد يرسل بعض النكات ويستقبل أخرى، وآخرون قد يرسلون رسائل نصية للأصدقاء ليقضوا وقتاً أجمل بعد مراسم العزاء، أي أن التعزية أصبحت واجباً اجتماعيا، ولا يفكر من يحضر للعزاء بالموت ولا بالخوف منه، بل هو يحضر مناسبة اجتماعية كما لو كان حاضراً لحفل زفاف أحد الأصدقاء.
وفي سورية، حيث المشهد الأكثر دموية، والمجازر شبه اليومية، ونحر النساء والأطفال على يد شبيحة الجزار بشار الأسد، تجد أن السواد الأعظم في الشبكات الاجتماعية يستخدمون هؤلاء الضحايا للمزايدة، فلا تستغرب لو رأيت أحدهم يزايد على بعض المهرجانات السياحية والعروض الموسيقية فيها، لكنه في نفس الوقت يبيح لنفسه الاحتفال بأي مناسبة، ولو كانت بلوغه مليون متابع على "تويتر".
باختصار، لا يليق بفكرة الموت، بل يليق بفكرة عدم الاكتراث له، أصبح الموت ضيفاً عابراً، والتفكير به مجرد تفكير لا يستغرق دقائق معدودة حتى يتحول التفكير لأمر مادي دنيوي بحت، وقد تجد أناساً يتباكون على مجازر السوريين الآن، وبعد دقائق يتابعون بشغف برامج المسابقات الترفيهية على إحدى الشاشات العربية. أي أن الحديث عن الموت والتفكير فيه والخوف منه أصبح مثل الحديث عن أي المطاعم أفضل لك ولعائلتك.

متطرفون

عهود الأخضر
حينما يختل الميزان تضطرب الأحكام، وحينما يترك الإنسان المنتصف ليعيش في الطرف يفقد القدرة على رؤية نسبية الأشياء، فتكون مواقفه عادة عند أقصى القطب من اليمين إلى أقصى القطب في اليسار، وهنا نطلق عليه مصطلح "متطرف" الذي ارتبط تعسفاً بالدين، بالرغم من أن التطرف صفة فردية.. وهي تنشأ أولاً وقبل كل شيء من بواعث نفسية لا علاقة لها في الأصل بالعقيدة الدينية، فالمتطرف يتطرف في جميع مواقفه وسلوكياته.
وترجع المدرسة النفسية التطرف إلى عدوان يظهره الفرد على شكل طاقة انفعالية لا بد لها من متنفس، ويتخذ لذلك موضوعاً معيناً تفرغ فيه الشحنة الزائدة، وإذا لم يتمكن العدوان من أن يصل إلى مصدر، فإنه يلتمس مصدراً. ويرى بعض الباحثين أن التعصب هو اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فرداً معيناً أو جماعة معينة أو موضوعاً معينا إدراكاً إيجابياً محباً أو سلبياً كارهاً دون أن يكون لذلك ما يبرره من المنطق أو الشواهد التجريبية. أما المدرسة الاجتماعية فترد كل شيء إلى تأثير المجتمع وأوضاعه وتقاليده، كما يقول الفيلسوف الفرنسي اميل دوركايم "وما المرء إلا دمية يحرك خيوطها المجتمع".
في حين أن المدرسة المادية التاريخية تضع الاعتبارات المادية أساساً لتفسير الظاهرة، فمثلاً ترى أن الدوافع الاقتصادية، هي التي تصنع الأحداث، وتغير التاريخ.
لكن الحقيقة هي أن التطرف يجب أن ينظر إليه نظرة شاملة، وهذه النظرة الشاملة ترجع إلى أن الأسباب المؤدية للتعصب والتطرف الفكري والسلوكي في حقيقتها أسباب متشابكة ومتداخلة، وكلها تعمل بأقدار متفاوتة، مؤثرة آثاراً مختلفة، قد يقوى أثرها في شخص ما وقد يضعف.
ولما كانت مجتمعاتنا العربية مكمنا لجميع التناقضات الطبقية والسياسية والإيديولوجية الدينية، أصبح التطرف صفة الكثيرين فيها، وتم خلق فئة من الشباب المتعصب الذي لا يعرف الحقائق ولم يسمح له بمعرفتها، لأنه عاش في سجن فكري صنعه بعض المتشددين المنتفعين والمتاجرين بالدين، الذين فسروا النصوص حسب ما يتوافق مع رغبات العنف والعنصرية والرغبة في الإرهاب والتسلط والإقصاء، ثم شهدنا ما شهدنا من عمليات إرهابية راح ضحيتها آلاف الأبرياء، بالرغم من أن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الحكيم: (قل يا أهل الكتاب لا تغلُوا في دينكم غير الحق ولا تتبِعوا أهواء قوم قد ضَلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبِيل).
من المفارقات الغريبة أننا أصبحنا نرى تطرفا من نوع آخر الآن.. تشكل بسبب أزمة وعي أدت إلى إلحاد البعض، ولا أدري إن كانت هذه ردة فعل طبيعية نتيجة القمع المجتمعي لحرية التعبير وعدم الرد المنطقي على التساؤلات الفكرية الدينية التي تدور في عقول الشباب! أم إنها نتيجة أخطاء تربوية فادحة مما جعل البعض يتمرد بصورة هروب من الدين؟
وبين هذا وذاك تبقى ظاهرة الإلحاد تنم عن خلل ما، يجب أن ننظر إليها نظرة واقعية، باعتبارها ظاهرة أصبحت موجودة، ولا بد من التعامل معها، حتى يتم احتواؤها، وبالعقل وحده يمكن الاهتداء إلى العلل الحقيقية الكامنة وراءها، وعدم الانسياق وراء أحكام آنية، تنجم عادةً من موقف عاطفي متشدد، ولا تصدر من دراسة متأنية مستبصرة.
وبنظرة مقتضبة إلى مجتمعنا نجد أن التطرف لم يطل الأمور الدينية وحسب، بل تجاوزها إلى تطرف رياضي، وهناك أيضاً التطرف القبلي، والتطرف المناطقي، ولكن يبقى التطرف الديني هو أخطرها، ويبقى ضيق البصيرة أحد أسباب ثورة التفسخ، وهنا نرى الطيف الاجتماعي الركيك فكرياً ينتقل ما بين أقصى اليسار أو العكس ويظل الوسط هو طوق النجاة.

روسيا.. موسم الخسائر

يحيى الأمير
في الواقع لم يكن الروس أصدقاء لنا على المستوى الشعبي، بل إن روسيا لا تعد من وجهات السفر التي يقصدها السعوديون باستمرار، وخلاف البعثات الدبلوماسية، وبعض المبتعثين لم يحدث أن مثلت روسيا بلدا أو ثقافة حاضرة أو مؤثرة في الوجدان السعودي أو العربي. بالطبع كان المفترض أن يمثل ذلك الغياب مدخلا للسياسة الروسية لتصنع لبلدها ولمجتمعها صورة إيجابية لدى شعوب المنطقة العربية، ولتلتحق بركب كثير من الدول العظمى التي أدركت مبكرا أن عظمتها تفرض عليها أن تتجه نحو الشعوب بذات الحرص الذي تتجه به الحكومات، لكن على ما يبدو أن الروس لا يدرون أن ذلك كثير، أو لا يستوعبونه. منذ أن سقط الاتحاد السوفيتي أصبحت روسيا أشبه ما تكون ببعض بلدان الربيع العربي بعد نيل الاستقلال، إذ ظهرت نخبة من السياسيين الذين تولوا إدارة البلاد بعيدا عن التطلعات الشعبية وأخذوا يتداولون بينهم مقاليد السلطة والمال وسط تضييق واسع على الممارسات الديمقراطية الحرة، ورغم ذلك، أقامت مختلف دول المنطقة علاقات سياسية واسعة مع موسكو، خاصة حين لعبت دورا في تسوية عملية السلام الإسرائيلية العربية التي انطلقت من مدريد.
لكن كثيرا من المراقبين يرون تلك التحركات المبكرة إنما كانت موجهة للغرب ولم تكن موجهة للعالم العربي، لقد كانت بمثابة إعلان تأييد روسي للمواقف الأميركية والغربية في مختلف القضايا، وصولا إلى أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر حيث فتحت روسيا الكثير من قنوات الاتصال مع دول محورية ومهمة في العالم العربي، كان الاقتصاد هو العامل الأبرز في تلك العلاقات.
لقد استطاع الرئيس بوتين في فترة ولايته السابقة أن يعيد شيئا من الاستقرار الداخلي لروسيا، لكنه استقرار بمقاييس روسية خاصة، فبعد عقود من الانفلات الأمني والتدهور الاقتصادي كانت روسيا بحاجة إلى رجل يغسل الفترة المتردية التي حكم فيها يلتسن الرجل المريض والعاجز.
استعادت روسيا شيئا من استقرارها الداخلي، فاتجهت للخروج من فكرة أن تكون تابعة لسياسة الغرب والولايات المتحدة خاصة أن كثيرا من الملفات المعلقة تمثل هاجسا روسيا لا يهدأ.
لقد رأت روسيا في الحرب الأميركية على العراق بداية لوجود فراغ سوف تخلفه تلك الحرب، وظهر كثير من المعلقين والسياسيين الروس الذي شبهوا ما ستواجهه الولايات المتحدة في العراق بما واجهه الاتحاد السوفيتي في أفغانستان.
لم تلبث عمليات البحث عن قوة لروسيا أن ارتبطت بملفاتها العالقة من الولايات المتحدة إلى الدرجة التي يمكن القول معها إن نوعا من الحرب الباردة عاد إلى الواجهة. كان نشر الدرع الصاروخي في دول أوروبا الشرقية، وفي دول وسط آسيا التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي بالنسبة لروسيا نوعا من المنازعة السيادية، وبالإضافة إلى بعض الملفات فقد وجدت روسيا نفسها تسعى لمواجهة سياسية مستمرة مع الولايات المتحدة. ولقد وجدت في منطقة الشرق الأوسط أبرز المحاور التي يمكن من خلالها أن تواصل لعبة المناورات السياسية مع الغرب.
حاولت موسكو أن تلعب دورا في قضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وقامت قيادات روسية بزيارات لفلسطين، محاولة من روسيا أن تكسب لها موقعا في إدارة هذه القضية بالغة الأهمية، وفي عام 2006 م دعا بوتين قيادات في حركة حماس لزيارة موسكو.
كل ذلك تعرض لنكسة كبرى مع اندلاع ثورات الربيع العربي، ويشير محللون إلى أن روسيا كانت تدرك أن لحظة ما ستتواجه فيها روسيا مع تلك الثورات، وستجد فيها تهديدا لكثير من مصالحها، وإطاحة بما استطاعت بناءه من علاقات استراتيجية، بل وتهديدا لأطماع اقتصادية.
لروسيا علاقات متميزة مع إيران، ومع حزب الله اللبناني ومع النظام السوري، وهي منظومة علاقات تتضمن بكل وضوح نوعا من المخاتلة السياسية مع الولايات المتحدة والغرب. ومع اندلاع الثورات العربية لم تستطع روسيا أن تكون بذات الإيقاع الغربي الذي اندفع مؤديا بكل قوة لتلك الثورات.
كانت الثورة الليبية أولى لحظات الممانعة السياسية لروسيا، إذ وقفت رافضة لتدخل قوات حلف الناتو، لكنها أدركت أن عليها تأجيل ذلك الرفض وتلك الممانعة لاستخدامها أمام ثورات في الشرق الأوسط، كان نظام دمشق أبرز المرشحين لمواجهتها.
فيما لو فقدت روسيا النظام السوري، فإنها ستفقد أبرز الملفات التي تلعب من خلالها أهم المناورات السياسية مع الولايات المتحدة، فجزء كبير من موقعها في الشرق الأوسط مرتبط بعلاقاتها مع النظام السوري ومع حزب الله وإيران، وكلها دوائر سوف تتداعى تباعا إذا ما سقط النظام، لأن الذي يتصرف في روسيا هم تلك النخبة السياسية التي تواصل تداول موقعها في الكرملين فهي لا تقيم وزنا لأي من الحسابات المستقبلية لعلاقة روسيا مع دول المنطقة، لأن تلك النخب مشغولة باللحظة السياسية الراهنة. التي يصبح فيها السياسي هو كل الدولة. في نموذج مشابه لما يحدث في طهران. لقد تحولت موسكو إلى محام دولي تصف بعض الدوائر الغربية بكثير من الوقاحة في دفاعه عن النظام السوري، والذي يكشف عن ورطة سياسية كبيرة تعيشها روسيا بدأت تظهر بوادرها في سيل الاحتجاجات والمظاهرات التي تشهدها المدن الروسية باستمرار.
الآن ثمة حالة من الانكشاف والحرج الروسي الشديد أمام المجتمع الدولي، وأما العالم العربي والإسلامي، خاصة بعد المذابح الأخيرة التي شهدتها سورية والتي مثلت حرجا بالغا لا يمكن لموسكو أن تتجاوزه بسهولة.
إن ما حدث من امتناع رجال الأعمال السعوديين عن استقبال وفد اقتصادي روسي ليس سوى نموذج على حالة الرفض التي تشتد يوميا في كل العالم العربي ضد كل ما هو روسي، بل وإشارة إلى أن المصالح الاقتصادية التي تسعى روسيا لحمايتها ستكون أول خسارة تتلقاها موسكو.
لقد كان موقفا مشرفا وعمليا، ورسالة واعية للسياسات الروسية، التي استنفدت كل قيمها غالبا وهي تواصل دفاعها عما يحدث في سورية من فظائع.

ربيع الدولة الوطنية

أحمد الشرعبي
اعتبار ثورات الربيع العربي جزءاً مكملاً لثورات التحرر التي قامت ضد الاحتلال الخارجي المباشر ونشأت نظمها الجمهورية تحت وطأة المستبد التابع مالك ومخترع هتاف (بالروح والدم...) الأمر الذي وسم الأوضاع الداخلية في معظم البلدان الربيعية بعبثية ما قبل الدولة.
ولئن كان المؤمل اقتران التغيير المبشر به في مصر وليبيا وتونس واليمن وسورية بمضمون سياسي واجتماعي جديد يحمل عنوان الدولة الوطنية، فما هو الأفق المتاح أمام هذه الدولة.. ولماذا نختارها وسطاً بين الحالة الثورية الجانحة نحو الغضب و(شيزوفينا) الشعار الملتهب وبين الآمال المعقودة على قيام الدولة المدنية؟
ما أعلمه تحديداً ويدركني اليقين به أن المدنية التي تسود مجتمعات الرفاه والمتحررة من رواسب "العسكرتاريا" إنما يحققها مسار تطور تاريخي تنمو خلاله مفاهيم حداثية تؤصلها ثقافة التعايش والسلام وتتبلور ضمن منعرجاته جدلية الصراع السياسي والاقتصادي بين طبقات المجتمع، الأمر الذي ينتج الجديد من وظائف الدولة الضامنة استقرار وديمومة موازين العدالة وتكافؤ الفرص بين مختلف الأنشطة والفعاليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتشاركة في إنتاج الرفاهية والمؤمنة بدور الدولة المدنية ومسؤوليتها عن حماية مواطنيها من الاستئثار والسيطرة والطغيان.
فهل يشي الواقع المعاش في أي من بلدان الربيع الثائر أو غيرها من الأقطار العربية بدلالات تؤكد اكتمال مقومات نشوء الدولة المدنية أم إن الحديث عنها يأتي من قبيل الترويح على النفس وازدراد شعارها ليستقر في معدة كسولة لم تستطع بعد هضم الوعود التي أطلقتها ثورات العرب منذ أربعينات القرن العشرين؟
إننا كما هو حال المترددين على عيادات الطب النفسي نلوذ بأحلام اليقظة ونسقط معها في دوائر الوهم الكاذب..
نحن لا ندعو لحرمان الناس من معاقرة الأحلام ولكننا غير قادرين على تمرير مخاتلات الساسة حتى وإن تبنى كبرها أو انطلى غثاؤها على شباب الربيع العربي.
أولئك الثوار الليبيون الذين أجهزوا على القذافي بعد وقوعه في الأسر وبتلك الصورة المزرية كيف يستطيعون إقناعنا بأهليتهم لقيادة دولة مدنية؟ وهؤلاء المتحمسون لإقامة دولة للمساواة في اليمن كيف نعثر على أثر لمصداقية خطابهم بينما لا يستطيعون الفكاك من عقدة الاصطفاء وأنانية التمييز والتميّز السلالي بما يعادل توجهات أحزاب أخرى التحقت بالثورة وفرضت وصايتها على ساحاتها ولم يدركها الحرج من تكسّب الثمن جرياً على شغفها المعتاد بنصيب من ذات السلطة التي لم تعد هدفاً للإسقاط؟ ومن أين لشمس الدولة المدنية أن تسطع بينما الأحزاب السياسية المصرية تتوافق على الاحتكام لشروط التنافس على ثقة الشعب وتقبل وتخوض هذه المنافسة وتشارك في مختلف إجراءات الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وحين تأتي النتائج خلافاً لتوقعاتها تخرج شاهرة سيف الاستقواء بالثورة على صناديق الاقتراع؟
لهذا تغدو الدولة الوطنية الديموقراطية أفضل الخيارات المتاحة في مثل أوضاعنا العربية الراهنة مما يستدعي الوقوف أمام تصورات واضحة لمشروعها المرحلي ريثما تنضج شروط وإمكانات قيام دولة مدنية قادرة على مقاومة عوامل الوهن.
ترى ما هي ملامح هذه الدولة؟ أهي كيان منعزل خلف قضبان السيادة ونواميس الكائنات المنغلقة على الذات كما لو كان ذلك موضة حنق خانق أم إنها حالة من حالات إعادة التموضع لدى الجيوش البرية عندما تجد نفسها دون غطاء؟ وكيف تبدأ هذه الدولة مهامها وأين تنتهي..؟ أهي محمية تخلف يستوطنها بشر لم يلحقوا قطار العصر..أي شيء تكون وبمن..؟ وما مدى قدرتها على التكيف في ظل سباقات العولمة وصراعات المصالح وبؤر الاستقطابات الإقليمية والدولية؟ وهل من نماذج أو بالأحرى تجارب سابقة حالفها النجاح في إقامة الدولة الوطنية؟...إنها أسئلة شائكة تحوم المقاربات الفكرية حولها، لكنها لا تستطيع الإجابة عليها بمعزل عن إرادة سياسية وشعبية يتصدرها مشروع وطني لا تقيده الإيديولوجيا كما في النموذج الكوبي أو السوداني.. ولا دموية العنصر على شاكلة الكيان الصهيوني..
إن تشخيص الأوضاع التي انتهت إليها أنظمة الحكم المطوح برؤوسها يتلخص في شقين، عبثية ما قبل الدولة على الصعيد المؤسسي مقابل هياكل سلطة رخوة تتقمص (يوتوبيا) الشرعيات الجمهورية حسب حاجة الحاكم الفرد ووفقاً لمقولة القيصر: (أنا الدولة والدولة أنا).. لهذا يكون من المتعذر بناء دولة مدنية على أنقاض إرث ما قبل الدولة الوطنية ويغدو من المستحيل بناء أي شكل من أشكال الدولة المؤسسية على أرضية من حطامات الماضي وخرائبه المتداعية. وإذا اعتبرنا أن ما حدث في بلداننا ثورة شعبية لها نفس خصائص الثورات وسياقاتها فإن معنى ذلك استحالة الانتقال التلقائي المباشر من زخم الثورة وعنفوانها إلى أحضان الدولة المدنية بانسيابية أدائها وسلاسة ونضج رسالتها دفعة واحدة، إذ يتعين أن تمثل الدولة الوطنية أساساً لمرحلة انتقالية ضمن وسائط الارتقاء المتدرج إلى المدنية كنظام للحكم وبناء المجتمع وكفلسفة للحياة برمتها.
أتوقف مضطراً بحكم مساحة الحيز المتاح على أن للحديث بقية من تجاذبات الآلام والآمال، متذكراً مطلع أشهر الأناشيد اليمنية للشاعر الكبير مطهر الإرياني.
(يا قافلة عاد المراحل طوال
وعاد وجه الليل عابس)

تعلمت أن

د. محمد ناهض القويز
تعلمت أن
اليأس يقتل صاحبه، وأن هموم الناس يخلقها الفكر.
السعادة مخلوقة لها جواذبها وطواردها، فجمعتُ جواذبها، فأتت مبتسمة، فحمدت الله على ذلك.
الصداقة بناء يقوم على عمودين، ولا يسقط إلا إذا انهدّ أحدهما.
النساء أوفى في الصداقة من الرجال.
السر ينتقم من صاحبه إذا كشفه.
الناس لاتملك لك نفعاً ولا ضراً.
الحياة بلا كرامة موت، والموت بعز حياة.
الكثرة ليست معيار حق.
الاستماع لصاحب الخبرة تكرار، والاستماع للنشء ابتكار.
إذا بذلت الممكن وجاءت النتيجة عكسية، جاء معها ضيفان اليأس والإصرار. قد أعطي اليأس نصيبه من دمعة أو غصة ولكن لا مكوث له في داري.
إذا لم تُطفئ نار الظلم فأنت لها وَقود.
الناس ليست كاملة ولا نشكلها على مانريد، ولكن فيها من الجمال الباطن أكثر من الظاهر ولهذا فعائد إلينا التوقف عند سوئهم أو البحث عن ذلك الجمال.
نظرتي الأولى في الناس لم تُخطئ إلا مرة واحدة، وبرغم ذلك لا أعتمد عليها وحدها، وتعلمت أنها تُنمى ويمكن أن تصل إلى مستوى يفوق الفراسة.
أقول للبعض: إذا كان بيتك من قشٍ فلا تلعب بالنار.
اللسان ليس له مقابض، فلا تعتمد على كلام الناس في قراراتك سواء كانت سلبية أو إيجابية، خصوصاً عندما تسبح عكس التيار.
لو لم يسبح السالمون عكس التيار لانقرضوا.
مستقبل المرء يعتمد على عدة عوامل: داخلية وخارجية. وأنه مسؤول عن هذه وتلك.
للفساد أبناء كُثر، منهم الظلم والفقر والجوع والمرض، وأن للنزاهة ابناً واحداً وهو الوطن.

تحالف الصهيونية والغرب راسخ ضد العروبة والإسلام

منح الصلح
إذا كانت الصهيونية قد نجحت في تصوير نفسها على انها الأقدم والأحدث بين الأديان السماوية. فإن الفضل في ذلك للنازي الذي جدد من حيث يدري أو لا يدري أسطورة اليهودية المظلومة منذ ولادة السيد المسيح. ولكن هل نحن العرب بلغنا الآن في تطورنا في اتجاه أن تكون لنا دولة جادة أو مشاريع دول قادرة على خوض مبارزة جادة مع الدولة الصهيونية القائمة حالياً على أرض فلسطين حيث الكيان الصهيوني نجح في إقامة دولة حائزة على تأييد الدول الكبرى والمتطوعة دائماً للتراجع عن حصصها وأحلامها بمجرد أن تكون إسرائيل والصهيونية موجودة في الرهان... والغرب الأنغلو- ساكسوني حاضر دائماً في الرهان على حصص إسرائيل المغبونة دائماً في نظره والتي يجب أن تكافأ لو طلبت أم لم تطلب.
إنهم اليهود شعب الله المختار النازل اسمه دائماً في الكتب المقدسة.
ولعل اليهودية كدين لم تولد مرة بقوة وسطوة لا في الإنجيل ولا في التوراة ولا في القرآن الكريم كما هي ولدت أخيراً في العصر الأنغلو – أميركي الذي برهن انه الأشد حرصاً على إسرائيل والصهيونية حتى من اليهودية نفسها.
إن العالم الأنغلو - ساكسوني يكاد يكون هو الأب الثاني لولادة اليهودية التي ولدت مرة قبل السيد المسيح والثانية بعد ولادة العالم الأنغلو - ساكسوني المتشكل أساساً من الواسب أي الأنغلو - ساكسون البروتستانت، سكان أميركا الشمالية وبريطانيا.
هل يكون الواسب البيض البشرة الناطقون بالانجليزية وهم سادة العالم هم موزعي الحصص الأكثر كرماً على الإسرائيليين والأكثر عدائية للعرب؟. لم يمر الوقت بعد لتتأكد هذه الحقيقة بل هذه القسمة التي أقل ما يقال فيها إنها معادية للعرب وللمسلمين وللمسيحية الشرقية ذلك الثلاثي القادر على لجم الصهيونية في مرحلة من الغطرسة الأميركية لا سابق لها قبل اليوم، وكأن العالم الأنغلو ساكسوني هو وحده الثابت غير المتحول من بين أصدقائه الصهيونية وإسرائيل.
إن العروبة والإسلام والمسيحية الشرقية تجد نفسها جميعاً أكثر فأكثر في ركن واحد مهدد من حلف شرس هو حلف الصهيونية والاستعمار الذي هو ضد فلسطين وعروبة القارتين آسيا وافريقيا ويا له من حلف زلزالي الطابع والمضمون يريد لنفسه كل شيء من أمة واحدة هي أمة العرب ويقيم من أجل ذلك المحالفات شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ضد العروبة في القارتين الآسيوية والافريقية منادياً بضرورة اجتثاث دور العروبة حاملة شعار التصدي لحلف الصهيونية والاستعمار من منطلق تحريض شعوب العالم ضد نهضة العالم الثالث.
إن تمادي الدول الغربية ولا سيما الأنغلو - ساكسونية في رفع الكلفة بينها وبين الحركة الصهيونية ظاهرة ينبغي أن لا يمر بها العرب من دون إعلان رأيهم الصريح فيها بحيث يستقر في أذهان العالم الأنغلو ساكسوني بحيث يدرك هذا العالم أن صداقته مع الصهيونية لا يمكن أن يفهمها العرب إلا على أنها بادرة عدائية نحوهم ولا يمكنهم أن يتقبلوها على أنها أمر طبيعي. ففلسطين أرض عربية لا يمكن أن يسقطها عربي من الحساب لا مسلم عربي ولا مسيحي عربي. فأقباط مصر على سبيل المثال يكنون الكره للصهيونية تماماً كالمسلم الفلسطيني أو المسيحي السوري أو اللبناني، فالعالم العربي مجمع في هذه المسألة. بل إن هناك من المسيحيين الشرقيين في العراق وسوريا من ينظر إلى الصهيونية على أنها معادية له تماماً كما هي معادية للمسيحي الفلسطيني او المسلم الفلسطيني.
والأغلبية الساحقة من المسيحيين العرب ينظر إلى الصهيونية على أنها حركة موجهة ضدهم كما هي موجهة ضد المسلمين العرب سواء بسواء.
بل إن هناك من المسيحيين العرب من يعتقد أن الصهيونية لا تتضرر من مقاومة المسلمين لها بقدر ما تتضرر من وجود مسيحي عربي في مواجهتها فهي تنطلق في عملها الدعائي من أن مشكلتها هي مع المسلمين العرب فالمسيحيون العرب مثلما كانوا معتدلين في محاربتهم لبريطانيا وفرنسا يمكنهم أيضاً أن يعتدلوا في محاربتهم للصهيونية في فلسطين.
ولكن المسيحية العربية لم تنخدع مطلقاً بهذا الكلام، بل انها أصرت على الاعتقاد وعلى القول إن العداء الصهيوني للمسيحية العربية قد يكون أشد حدة من عدائها للمسلم العربي.
ومع ذلك يبقى هناك من اليهود من استمر يقول إن العداء للمسيحية يبقى قابلاً للتأجيل أما العداء للمسلم في البلدان العربية لا يقبل التأجيل. وقد ثبت مع الأيام أن العداء المسيحي لليهودية في فلسطين كان وسيظل دائماً مثل العداء للمسلم، رغم كل حرص المسيحية الأوروبية على اظهار العكس.
وكلما مرَّ الزمن ثبت أكثر فأكثر ان الصراع المسيحي اليهودي على فلسطين استمر دائماً في الحدة نفسها رغم تدخلات السياسات الخارجية في أميركا وأوروبا لإطفاء العداء المسيحي لإسرائيل والمشروع الصهيوني.
ولقد ثبت أن المسيحية الشرقية في مصر والعراق وسوريا ولبنان لا تقل عدائية للصهاينة من المواقف الإسلامية. كما تأكد أن العداء المصري القبطي والعراقي الآشوري مثل العداء الإسلامي بل أشد في بعض الحالات. هناك شيء اسمه الشرق أكثر تجذراً في الأرض العربية مما كان يتصور المسيحيون الأوروبيون والأميركيون.
وإذا كانت هناك انشودة عربية تقول: إن الأرض بتتكلم عربي فهي تعبر عن حقيقة هذا الشرق فقط، بل تعبر عن حرص قديم عند المسلمين والمسيحيين العرب في أن يجعلوا من علاقتهم التاريخية الواحد بالآخر نموذجاً أخوياً تاريخياً حرصوا دائماً عليه حتى أصبح شهادة لهذا الشرق بنموذجية حضارية سلم بها الغرب ودوله وانعكست في كل ما كتبه المؤرخون الغربيون من إنتاج قصصي وسينمائي ما زادته الأيام إلا تألقاً وبهاء. ففي ذروة الحروب الصليبية ظلت العلاقة بين ريكاردوس قلب الأسد وصلاح الدين الأيوبي ذروة ما بلغته الإنسانية من السماحة والرقي في تعامل الأديان والحضارات بعضها مع بعض بما حوّل الشرق وتراثه مفخرة إنسانية وإحدى القيم الشاهقة في التاريخ وليس في التاريخ الاسلامي والمسيحي فقط، وخصوصاً أن ما يسمى بالحروب الصليبية كان مفترضاً أن يباعد الدينين العالميين الأرقى والأروج بين كل ما خيره التاريخ البشري ليجعل منهما شاهداً معاكساً لرسالة الأديان الأصلية القائمة بالأساس على فكرة المحبة عند المسيحيين والسماحة عند المسلمين، ولعلهما أرقى ما عرفته الإنسانية.

بعض الدول تختار أعداءها

شريفة الشملان
هل تختار الدول أعداءها ؟ سؤال قد يبدو غريبا لأبدأ به مقالي اليوم ، ولكن لابد من طرحه قبل أن أصل لموضوعي الأصلي .
الجواب قد يبدو بذاته عبارة عن أسئلة تحمل أجوبة وقد لا تحمل ، هناك دول تعرف كيف تختار أعداءها وتعرف أيضا لماذا تختار هؤلاء بذاتهم ، وكل دولة لها مسبباتها لاختيار عدو أو أعداء دون غيرهم ..
هذه الأسباب تختلف حسب حجم الدول وقوتها وموقعها ،، والدول إنتاج بشري ، يسيّسها عقل كما العقل البشري ، تختلف إمكانات هذه العقول حسب معطيات كثيرة ، منها قوة الدولة ، تاريخها ، وتراكمات هذا التاريخ ،. قوتها العلمية والبشرية ، بعدها وقربها من أعدائها .. كما تتنوع أسباب اختيار الأعداء وكيفية العبث بهم ، وتفتيت قوتهم بطرق مباشرة أحيانا وغير المباشرة في أحايين كثيرة ..
من أسباب البحث عن عدو أسباب اقتصادية وهذه معروفة منذ القدم ، وعبر الغزوات التي تشنها الدول على بعضها البعض ، لتجريد الدول العدوة من محاصيلها واختطاف مواردها..
ومع تطور الزمن وتطور الأدوات كان هناك أكثر من نهب محاصيل وحرق حقول بل العمل على امتصاص الموارد ، بعداوة ليست واضحة المعالم ، بل مغلفة بالود تارة، والمحافظة على كيان الدولة المستهدفة ، كربطها بمعاهدات طويلة الأمد لاستغلال مواردها الطبيعية ، أو بتوريد الأسلحة ، أو العمل على المحافظة على أمنها الداخلي .. والشواهد كثيرة في عصرنا الحالي .
إن استقرار الدول التي توضع بخانة الأعداء وإن أظهرت غيره ، يعني ذلك بعد فترة تطول وتقصر الاستغناء عن الدولة الكبرى وخدماتها ، لذا لابد من تفتيت هذا الاستقرار ، بطرق كثيرة ، وأهمها استنزاف الطاقة البشرية ، عبر بوابات عدة ، الطائفية والعرق أوسع أبوابها ، وهو تجهيز للدول لتكون لقمة سهلة البلع ، كما تدفع اللقمة بالماء .. والشواهد أيضا كثيرة ..
من العوامل التي تجعل الدول خاصة الكبرى تتفنن باختيار الأعداء حتى بطرق غير إنسانية ولا شريفة ، هو التنمية الداخلية للدولة ، وخاصة في حالات الركود الاقتصادي ، وهو رمي كما يقال عصفورين بحجر (ولو أنني لا أحبذ هذا الاستعمال فالعصافير لاترمى) أولًا صرف وجهة نظر الشعب عن الأزمة من جهة ، وإيجاد موارد من جهة أخرى تعود عليه بالمال.. والشاهد هنا حرب أمريكا على العراق ، حيث استثمرت الشركات الأمريكية الكثير في هذه الحرب ، استفادت من مشروع سرقة ما سمي بشركات إعمار العراق ..
الدول الذكية غالبا لا تخلق أعداء قريبين منها ، خاصة على الجوار ، لنا مثلا في دول أوروبا ، ومحاولة دول الآسيان في آسيا ، الخروج من مأزق كوريا الشمالية ، بحيث بقيت الحالة لا حربا ولا سلما ، لكنها لاتعيق حركة النمو والازدها في بلدان الآسيان..
دم المسلمين لم يجف بعد من حرب تحرير أفغانستان من السوفيات ، رغم أن دخول السوفيات كان دخولا رسميا ، بطلب من حاكم أفغانستان آن ذاك ، المهم تفتت الاتحاد السوفياتي ، واجتمع حلف الأطلسي ليحتفل بالنصر المبين والذي بني على جماجم المسلمين ، وخرج سكرتيره ليعلن أن العدو الآن (المسلمون!!).. هي لم تكن زلة لسان كما تم الاعتذار عنها في حينه ، لكنها الحقيقة التي سجلها الحلف في سجلاته .. وكان الصيد جاهزا ..المسلمون الموجودون في أفغانستان ، منهكة قواهم يسترجعون الأنفاس ويقيمون الأفراح بالانتصار المسروق ، حتى جاءت الضربات، وهنا لابد من تذكر! كلمة عنترة بن شداد حين سئل عن انتصاراته ، فقال: (إنني آتي أضعف القوم فأضربه، فينخلع قلب أشجعهم ، فأثني به).. وصارت مطاردة القاعدة المطاردة الكبرى في وقتنا الحالي..

المصالح من المرتزقة للشبيحة

عبدالله باخشوين
** دائماً هناك حروب غير شريفة.
وهي من ذلك النوع الذي يخوضه الآخر نيابة عنك.
وقد اشتهر هذا النوع من «الحرب» في إطاره العسكري.. بسمات خاصة.. وظروف خاصة.. ونوايا خاصة.. وعلى «الأرض» بمساحات خاصة أيضاً.. لأن أبطاله من «المرتزقة» أي أولئك الجنود الذين تمرسوا العمل العسكري.. وتقاعدوا لأسباب أخلاقية وإجرامية.. بحيث إنهم في بلدانهم الأصلية يعتبرون من أصحاب السوابق الممنوعين من العمل بعد أن أدينوا في جرائم خاصة أو عسكرية.
وهؤلاء يتم التعاقد معهم لخوض حروب خاطفة في مساحات وأراض صغيرة وذات مواصفات مناسبة لحسم المعارك لحساب مموليها.
وفي صناعة السينما الأمريكية.. لابد ن يذكر رواد سينما «الأحواش» في فترة الستينيات والسبعينيات.. أن الأفلام التي تناولت حروب المرتزقة.. كانت كثيرة جداً ومنها ما وصم دور مناضل مثل «غيفارا» بالتورط في حروب الارتزاق بهذا الشكل أو ذاك.. وكانت البيئة المناسبة لانتاج ذلك العدد الكبير من الأفلام هو مجموع دول أمريكا اللاتينية.. التي تتداخل فيها مصالح تجار المخدرات بمصالح العسكر المغامرين الطامحين للوصول للحكم والمشاركة في التجارة.. حيث تتم صفقات تمويل حروب المرتزقة كنوع من الاستثمار الذي يتوقع من نتائجه مردودات مالية كبيرة جداً يدعمها النفود السلطوي طبعاً.
اضافة إلى كثير من الدول الافريقية ذات البيئة والمناخ المناسب لمثل هذا الارتزاق.. خاصة تلك الدول التي تعرف أراضيها باحتوائها على كميات كبيرة من «الألماس» وكثير من المعادن النفيسة التي لا يتطلب استخراجها تقنيات معقدة مثل تقنيات استخراج النفط.
وبانتهاء حقبة حروب الارتزاق وحروب العصابات.. والعودة إلى ذلك النوع التقليدي من الحروب العسكرية.. ظن العالم أن الأمور اتخذت مسارات أخرى.
غير اننا الآن إلى هذا النوع المنقرض من الحروب.. فمن موقعة «جمل مبارك» في مصر.. إلى معارك «الشبيحة» في سوريا.. ذلك أن بروز ما سمي ب«الشبيحة» ليس سوى إطلاق يد أصحاب السوابق والمهربين وتجار المخدرات والممنوعات بكل أصنافها لمحاربة المواطن السوري بغطاء وتمويل من السلطة الرسمية التي تمد بالسلاح وتغطي احتياجات الحركة والتنقل مقابل التنصل الكامل من المسؤولية.. أسوة بما كان يحدث في حروب المرتزقة السالفة الذكر.

ما الذي يسعى إليه الأسد عبر مجازره

طارق محمد الناصر
عندما تقرأ في إحدى الصحف عن" المجزرة الجديدة" للنظام السوري، لا ينبغي عليك أن تركن إلى أن ما تقرأه دقيق. عدم الدقة ليس لان الصحيفة تضللك بل لان المجازر تتلاحق لدرجة أن كلمة "الجديدة" أصبحت لا تعبر عن وصف حال المجزرة.
اللافت هو عدم حياء النظام السوري في التنصل من هذه المجازر. فمثلا، أثبت تقرير المراقبين الدوليين أن حوالي نصف ضحايا مجزرة الحولة قضوا نتيجة قصف مدفعي ما يعني حتمية ضلوع قوات الأسد فيها. أما في القبير فقد ذكرت الناطقة باسم بعثة المراقبين"إن المراقبين شاهدوا أبنية مصابة برصاص من العيار الثقيل الذي يستخدم من أسلحة ثقيلة أو من حاملات الجنود"، وهذه، أيضا، أسلحة لا تتوفر إلا لقوات النظام.
ليس ذلك فحسب، بل إن ضحايا المجازر يكونون، حصرا، من السنة ما يرجح بقوة، حتى دون إجراء تحقيق دقيق في ملابساتها، أن يكون الوالغون في الدماء هم من قوات النظام او شبيحته. ورغم انه من المؤسف أن يتحدث المرء عن طائفة الضحايا كدليل على المجرمين إلا ان سلوك النظام السوري لا يدع مجالا لتجنب الحديث عن الطوائف.
فالنظام وصف الثوار، منذ البداية، بأنهم جماعات إرهابية سلفية واتهمهم بحمل السلاح. فعلها بغباء ولم يفطن إلى المأزق الذي أوقع نفسه فيه. نسي بأن طلائع الثائرين لم يكونوا ينادون، أصلا، بسقوطه. كانت هتافاتهم تنادي بالحرية والكرامة وتطالب بإطلاق سراح أبنائهم. قمعهم بوحشية، فكانت النتيجة أن أصبحت شرائح عريضة ومتزايدة من السوريين تتبنى، صراحة، مطلب إسقاطه.
وعندما أصبحت المظاهرات طبقا يوميا على المائدة السورية فعل كل ما بوسعه كي يعسكر المظاهرات سعيا منه في الحصول على مبرر لإطلاق يده لاستخدام الحديد والنار ضدهم. ولما تمكن من دفع الثورة للعسكرة وجد بان الخصم يتفوق عليه بميزة لا يقدر على منافسته عليها. فأفراد الجيش الحر خرجوا من نسيج الشعب ولحمايته، لذا فقد أصبحوا يتمتعون بدعم وحماية الشعب.
سورية، الآن، على مشارف حرب أهلية بتدبير من النظام. وهو يحاول، جاهدا، بمجازره المتتالية العزف على الوتر الطائفي كي يقع الجميع في أتون حرب طائفية كي يضمن، وفق تخطيطه، توحيد الطائفة حوله وربط مصيره بمصيرهم.
من المحتم، إن لم يبادر المجتمع الدولي بالتدخل، أن تتسبب هذه المجازر بانزلاق سورية إلى حرب أهلية شاملة ومفتوحة. وفي الحرب الشاملة يصبح قتل الأبرياء وغير المحاربين وارتكاب المجازر المروعة عملا روتينيا ويغدو المتطرفون، من كلا الجانبين، سادة المشهد.
ويبقى السؤال هو هل ينظر النظام للمجازر كإستراتيجية أم كتكتيك؟ وهل يسعى للحرب الأهلية أم انه يهدد بها؟

ممنوع تقدم العرب

يوسف القبلان
كتاب صادر عام ١٤٠٣ه/١٩٨٣م بعنوان (عروبتنا عام ٢٠٠٠م للدكتور السيد أبوالنجا يتحدث عن مستقبل العرب سنة ٢٠٠٠) منطلقاً من الواقع المعاش مشخصاً بعض المعوقات التي تقف في طريق التقدم مؤملاً التخلص منها في نهاية القرن العشرين.
يقول المؤلف تحت عنوان: (محنة الشهادات عندنا): «وكلما مرت الأيام زادتني يقيناً بأن التنمية مستحيلة مادمنا نعد الإنسان الذي يجيد الكلام عن الشيء، ولا يعرف الشيء نفسه. لقد تركنا التكنولوجيا إلى مجرد السرد والمعادلات، وتركنا العمل إلى النظر، وتركنا التدريب إلى المؤهلات الدراسية. إن استهلاك السلع المعمرة في العالم العربي يسير بنسبة أكبر منه في أي بلد آخر، فإذا توقفت الساعة لخلل يسير احترنا في العثور على من يصلحها فاضطررنا إلى شراء ساعة أخرى». انتهى كلام المؤلف.
نحن الآن في القرن الواحد والعشرين ولا يزال العرب يبدعون في الانشغال بقضايا ثانوية جدلية ليس لها مردود ايجابي يخدم المجتمع بل على العكس هي قضايا قد يخترعها البعض لمجرد الإثارة، والبحث عن الأضواء في زمن أصبح فيه المتلقي يبحث عن المعلومة السريعة، والرأي المثير، والأحكام القاطعة، والثقافة المبسطة. لم يعد للمتلقي وقت للتعمق الثقافي فهو مشغول ليس بالمصانع والمختبرات وإنما بوسائل الاتصالات لكي ينشغل بها عن الانتاج.
في المجتمعات المنتجة ينشغلون بالتطوير في كافة المجالات. ينشغلون بالعلوم، والتجارب، والمختبرات، وانتاج المعرفة، والبحوث التطبيقية، والاكتشافات الطبية وغير الطبية التي تخدم الإنسانية، ثم يأتي في المجتمع العربي من يشغلنا بقضايا هامشية ويحولها إلى قضايا يتحاور فيها الناس ويختلفون إلى درجة الجدل البيزنطي.
لقد أصبحنا مشغولين بأنفسنا لا لكي نبحث عن الجديد والمفيد ولكن لكي نكتشف مصطلحات جديدة، ومسميات، وأوصافاً، وألقاباً نطلقها على الأحداث والأشخاص، والمناسبات، ونطورها، فالهزيمة تتحول إلى نكسة، والعجز يتحول إلى مؤامرة، والمؤامرة مرة تدمرنا، ومرة تأتي على أزهار الربيع!
وهكذا يجد المقصر أو غير القادر في العالم العربي وفي أي مجال أن نظرية المؤامرة جاهزة لحمايته فهو لم ينجز لأنه يتعرض لمؤامرة، ولم يحقق النجاح لأن هناك من يتآمر عليه. وما سبق اسقاط يمارسه السياسي، والإداري، والتربوي، والرياضي الخ.. وهو إسقاط يمارس على مستوى الأفراد وعلى مستوى المجتمع. بل ان التعليم وتطويره ونقل المجتمع إلى عصر العلم لا يتحقق بسبب المؤامرة، المؤامرة موجودة، لا يمكن إنكار وجودها بالمطلق، ولكن التقصير موجود وهو ليس بالضرورة ناتجاً عن المؤامرة!!
وإذا كانت المؤامرة موجودة فإن الطرف الثاني (المتآمر عليه) وهو يؤمن بنظرية المؤامرة وعلى قناعة قديمة بالمشروعات التآمرية ويتابع ويدرك مخططاتها منذ عقود من الزمن، وكل ما وقع حدث سياسي، أو اجتماعي جاء رد الفعل بخطاب جاهز يقول: «إنها المؤامرة»، فإذا كان ذلك كذلك فإن (المتآمر عليه) وهو يدرك حقيقة المؤامرة، ويعرف المتآمرين فماذا فعل لايقافهم؟ أليس الرد بلغة العلم والعمل أقوى من لغة الكلام؟
طوال القرن الماضي والخطاب العربي يتحدث عن الوحدة، والتقدم، والانتصار على الاستعمار، والرجعية، ومحاربة الأمية، والفقر، والنهوض بالأمة العربية إلى مصاف الأمم المتقدمة ودخل العرب في القرن (٢١) ولا يزال البحث جارياً عن معوقات التقدم ولأن البحث يحتاج إلى جهد ووقت وجدية وإرادة، فمن الأسهل أن نختزل كافة المعوقات في شيء واحد هو المؤامرة.

مقتل الفرنسيين أجهض الصفقـة

محمد عبدالعزيز السماعيل
يبدو أن مقتل أربعة جنود فرنسيين وجرح خمسة آخرين مؤخرًا في اقليم كابيسا شرقي أفغانستان أدى إلى إجهاض تحرّكات بعض القوى العالمية المؤثرة على الساحة الدولية من أجل إتمام الصفقة التي أشرت إليها في مقالي السابق في جريدة «اليوم» بتاريخ 31/5/2012م، والذي كان عنوانه (من المطبخ السياسي العالمي)، الذي أكدت فيه أن تلك التحرّكات كانت أشبه بطبخة سياسية غريبة متقنة، بنكهة فرنسية، وبلون أمريكي، وبطعم إيراني، وبمباركة روسية، وأنها تتناول ثلاثة ملفات شائكة، هي ملف تواجد القوات الأجنبية في أفغانستان، والملف النووي الإيراني، و ملف الثورة السورية.
المراقب الدقيق للاحداث الجارية في المنطقة ربما يضع العديد من علامات الاستفهام التي ربما تشير إلى وجود أيادٍ غير افغانية متورطة في عملية القتل التي نفذها انتحاري افغاني، وربما تكون الجهة الخفية المشاركة في القتل تحاول الضغط على فرنسا والدول الممثلة لقوات الحلف الاطلسي من أجل بعض التنازلات في الملف السوري والملف الإيراني وتعجيل انسحاب القوات من افغانستان لتخفيف الضغوط العسكرية التي تخنق وتقلق إيران شرقًا.
الصفقة المتعلقة بالملفات الثلاثة كانت وشيكة الوقوع، لولا مقتل الجنود الفرنسيين الذي تلاه مباشرة الإعلان الأمريكي عن فشل المحادثات مع ايران في ملفها النووي، بحسب تعبير المندوب الأمريكي بالإنابة لدى الوكالة الدولية روبرت وود، بكلمة «أصبنا بخيبة أمل» مشيرًا إلى تقاعس ايران عن الوفاء بالتزامها تجاه الوكالة الدولية للطاقة الذرية.  ولكن رغم كل ذلك، ورغم فشل أو إفشال التحركات، إلا أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لا يزال مستمرًا في تنفيذ وعده بسحب القوات الفرنسية من أفغانستان والبالغ عددها 3350 جنديًا، وقد حدّد الرئيس الفرنسي موعد البدء بالانسحاب في الشهر المقبل. قريبًا سيتضح لنا المزيد حول هذه الطبخة بنكهتها الفرنسية، وبلونها الأمريكي، وبطعمها الإيراني، وفق المباركة الروسية في موسكو، وستكشفها المحادثات - حول الملف الإيراني - التي ستتم في روسيا قريبًا مع مجموعة دول 5+1 (الخمس دول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن زائد ألمانيا).

ثقافة التطهير لدى النظام السوري

صحيفة اليوم
سحب الجيش السوري الحر وحداته من بلدة الحفة السورية بعد إجلاء معظم الأطفال والنساء، وكي لا يعطي لجيش نظام الأسد وميليشياته حُجة في ارتكاب مذابح جديدة في البلدة، طبقًا لبيان قادة الجيش الحُر. وأعلن نظام الأسد أمس أنه قد طهّر البلدة، والمخيف هو مفردة «التطهير» التي وردت في بيان وكالة أنباء النظام، لأن التطهير بلغة النظام السوري يعني تنظيم مذابح للسكان دون تمييز، كما حدث في بابا عمرو والحولة ومزرعة القبير وغيرها، لتطهير المدن من سكانها وليس من المسلحين. والله أعلم ماذا طهرت الميليشيات الأسدية في الحفة، في وقت أعلن الجيش الحر سحب وحداته من البلدة. ولا بد أن ميليشيات الأسد وقواته قد عاقبت السكان على طريقتها، كما يحدث في أعقاب كل مواجهة بينها وبين الجيش السوري الحر.
وكل هذه المعارك الدامية التي اندلعت في مدن سورية عديدة، تؤكد أن حربًا أهلية تجري ويسعى النظام إلى تصعيدها، بعمليات التطهير العرقي والقتل المرعب في أوساط المدنيين وبالذات ارتكاب مذابح للأطفال والنساء وتسريب مقاطع فيديو عن مذابح مروّعة للسكان. وهذه السيناريوهات تشبه إلى حدٍّ بعيد الحرب الطائفية التي حدثت في العراق، إذ ترتكب مذابح في المنازل ويتم تسريب متعمّد لصور أطفال مذبوحين ونساء مقتولات لبث الرعب في أوساط السكان العرب، مما نتج عنه تهجير ملايين العراقيين العرب إلى الخارج ليحتل منازلهم وأحياءهم ومدنهم عراقيون موالون لقوى خارجية.
ويبدو أن نفس السيناريو يتكرر في سوريا خاصة أن قوى خارجية قد أشعلت الحرب الطائفية في العراق هي نفسها الآن توقد نار الحرب الطائفية في سوريا بذات الأسلوب وبذات النهج: ذبح أطفال ونساء وتهديم مساجد ومنازل وتهجير سكان. وقد تم تهجير ما يربو على مليون سوري حتى الآن، وتم تهجير سكان قرى تنتمي لطوائف محددة لتحتلها طوائف أخرى مسحوبة على النظام السوري وترعاها القوى الخارجية. وهذا يعني أن حربًا أهلية طائفية نتنة يشعلها النظام السوري الذي كان يهدّد بأن الحرب الطائفية الأهلية هي آخر أسلحته في المواجهة مع الشعب السوري. وما المذابح التي ارتكبتها ميليشيات النظام إلا نموذج لما يمكن أن يقدّمه النظام للسوريين في الأيام القادمة.
ولكن النظام السوري قد أخطأ التصرّف، إذ إن المذابح صعدت المعارضة السورية ضده ورسخت في أذهان السوريين دموية النظام وعدوانيته وحقده على سوريا وتبعيته للقوى الخارجية، وأنه مستعد لتنفيذ كل الأعمال القذرة لحساب رعاته وبالإنابة عنهم في سبيل البقاء، حتى وإن كان الثمن هو أمن سوريا ومستقبلها. وبعد المذابح أصبح السوريون أكثر تصميمًا على التصدّي لخطط النظام وسلوكياته، وأكثر تصميمًا على مواجهة النظام وهزيمة أعماله الشريرة، لأن بقاءه يعني تدميرًا مستمرًا لسوريا ورهنها لإرادة القوى الخارجية وإعادتها تنمويًا إلى العصور الوسطى. ولأن النظام انتقل من المراوغات والخدع وقبول الحلول ثم تجاهلها إلى التنظيم الصريح للمذابح في المدن السورية في وضح النهار وفي عتم الليل.

تجديد الخطـاب الفكري لحيـاتنا

د. جاسم الياقوت
لا شك في أن الفكر الإنساني هو ما يشكّل واقع الحياة ومدى تطورها وتقدّمها، كما يعلم الجميع أن الإنسان ما هو إلا أفكار حيث أكرمه الله «سبحانه وتعالى» وميّزه بالعقل والتفكير على سائر مخلوقاته. وإذا نظرنا إلى حياة الإنسان، نجد أنها تتشكّل بالأفكار والرياضة التي يمارسها والسيارة التي يركبها، حيث يرتب الإنسان أفكاره لاختيار مستقبله، والعمل الذي يرغبه، ونوع الدراسة التي يحبها، ومحاولة إثبات الذات. كل ذلك ينبع من فكر الإنسان وشعوره بذاته.
وإذا نظرنا إلى الآليات التي يضع الإنسان بها أفكاره نجد أنها تتمحور في المؤسسات الاجتماعية وتتمثل في المنزل ودور العبادة، والمؤسسات التعليمية، وتتمثل في المدارس والجامعات، والمعاهد، والمؤسسات الترفيهية، وتتمثل في الإذاعة والتليفزيون والإنترنت، والمؤسسات الثقافية، وتتمثل في المكتبات والجمعيات الثقافية والفنية وغيرها.
وإذا كان بناء هذه المؤسسات بناءً سليمًا، فسوف تسهم بالتأكيد في بناء قويم للإنسان، وإذا فسد بعض منها، أفسدت الإنسان بدورها بمقدار ما يتعرّض الإنسان لكل منها. ولذلك وجب على المجتمع أن يتابع دائمًا تلك المؤسسات.
ويؤكد الكثير من علماء النفس أن الإنسان يظل في حاجةٍ إلى تجديد الخطاب الفكري حتى يتمكّن من بناء أفكار جديدة، حيث إن الإنسان يمل من تكرار الأفكار، ويظل في حاجةٍ إلى تجديد الأفكار، ومع تجديد هذه الأفكار يتمكّن من تطوير المجتمع المحيط به. ولأن المشكلات تتجدّد باستمرار، وتظهر في أشكال جديدة، لابد أيضًا من التعامل معها، ابتكار أفكار جديدة، تساهم في الوصول إلى أساليب جديدة.
وهناك شروط عند تجديد الخطاب الفكري للإنسان، يأتي على رأسها البُعد عن التنابذ والتعصب، وإعمال العقل والعلم، وعدم إثارة الفتن والبلبلة، وأن يستمع الجميع لبعضهم البعض، الرئيس والمرؤوس، والغني والفقير، وصغار المسؤولين وكبارهم، والتدقيق في الأفكار ذاتها.
كما يجب أن تنطلق أفكار التجديد الفكري في جو من الصفاء، والأمان، وتجنب الخلافات، والحرص على المصلحة العامة، وألا يكون من هذه الأفكار أهداف خاصة، بل تسير جميعها في ركب خدمة الوطن والمجتمع.
كما يجب عند التعبير عن الأفكار، وعند التجديد الفكري، التعبير في لغة قويمة، وتعبيرات تبتعد عن الإسفاف اللفظي، أو التملق لمسؤولين أو رؤساء، أو الخروج عن آداب اللياقة العامة والتقاليد المجتمعية المتبعة.
وعند تجديد الخطاب الفكري، يجب أن يتم ذلك وفق منظومة متعاونة من المفكّرين، حتى تخرج الأفكار المتجددة بأقل قدر من الأخطاء، حتى يسهل انتقاء ما يشوبها من شوائب، وتخرج في أقرب صورة للصورة المكتملة لأن حياة الإنسان لا تحتاج إلى كبوات، ولكن إلى السير في طريق صحيح مستقيم وبخطى سريعة، لأن العالم لن يقف لينتظرنا، بل علينا أن نسرع لنعوّض ما فاتنا، ونوازي العالم في مسيرته وتقدّمه، وعندنا من الإمكانات الفكرية ما يتيح لنا ذلك. إن الغرب لديه كل يوم مفاهيم جديدة، لأن لديه أفكارًا جديدة، ويعملون وهم يفكّرون دائمًا في التطوير، لا ينفذون ما يُملى عليهم دون إعمال العقل والتفكير.
إن القلة القليلة من الناس عندها أهداف عالية وتستطيع تحقيق أهدافها، أما الغالبية العظمى فتشتكي من الإحباط والزمن والظروف القاهرة التي لا تمكّنها من الوصول إلى ما تريد، وتكثر من التحسّر .. لو كانت أعبائي اقل، لو ازداد دخلي، لو كذا وكذا لفعلت كذا وكذا والنتيجة لا شيء وصدق مَن قال: إن المخفقين ماهرون في اختراع الأعذار والمسوغات، أما الناجحون فماهرون في اختراع الحلول والبدائل.
علينا أن نبتعد عن مبدأ «ليبدأ غيري»، ولكن على كل إنسان يستطيع أن يجدّد ويطوّر أن يأخذ زمام المبادرة في إطار ما قلناه من قواعد فكرية لازمة تساهم في رسم وتطوير الخطاب الفكري لحياتنا.

العقل البشري وإشكالية الوجود

خالد الوحيمد
منذ العصور القديمة والإنسان يتساءل عن وحدة الوجود ، كيف نشأ هذا الكون ؟ ومن نشأ ؟ ومن الصانع؟ وإلى يومنا هذا مُصِّر على ذلك برغم كل الكتب السماوية التي أنزلت عليه ، إضافة لإثبات كافة العلوم لنظرية الوجود.
الإنسان القديم ونعني ألا عقلي وهي الحقبة التي سبقت الأنبياء ، كان يعيش بلا معرفة ، وبلا فكر ، حيث يأنس في الغابات ويطارد الوحوش وينام في الكهوف ، نستطيع أن نصنفه الإنسان البهيمي.
وعندما تولد الفكر في الذهن تميز الإنسان عن سائر المخلوقات ، أصبح يفكر عن الأشياء من حوله كالأرض والنجوم والجبال والشجر ...الخ نستطيع أن نبرهن أنها مجموعة أفكار تكونت لحل المشكلات الأكثر تعقيداً ، وهذا ما يقودنا للفلسفة المادية ،أي معرفة الأشياء حسياً ومنطقياً وعلمياً ، نترك الفلسفة المادية جانباً ولا نريد الخوض فيها، فهي تحتاج استيعاباً كبيراً.
نبدأ بحادثة يعرفها الجميع وهي قصة إبراهيم عليه السلام وهو أحد الأنبياء الذي قاده النضوج العقلي أو الفكري إلى معرفة الله ، وذلك لطرح الأسئلة الأكثر تعقيداً ، عن الوجود ؟ ومن هو ربه ؟ حتى أدرك ذلك حسياً ، واصطفاه الله بدرجة النبوة ، أي بلوغ الكمال، وبرغم كل ذلك تنقصه الطمأنينة في القلب ، حين سؤاله كيفية إحياء الموتى ، وبرهن له الله ذلك معرفياً بمادة ملموسة.
من هنا نستنتج أن العقل البشري الحديث لا حدود له في التفكير ، لقد فاق الحدود وأصبح يسأل عما وراء الطبيعة ( الميتافيزيقية ) اختصرها (هيغل) بهذا المصطلح ، وهو يعد أشهر فيلسوف مثالي.
لكن هناك من يتصدى لحدود العقل الفكري أو المنطقي وهو القلب أي طمأنينته ، كم أسلفنا بحوار إبراهيم مع الله ليطمأن قلبه ويكفيه عن الأسئلة التي تقود صاحبها إلى الإلحاد.
دائماً الله يخاطب الإنسان بضبط فكره من خلال قلبه بقوله: (ألهم قلوباً يعقلون بها) أي ضبط النفس وتعقلها عن التفكير الزائد عن حده وطمأنينه القلب في وزن التفكير في معرفة الحقيقة ووضوحها.
وأيضاً خطاب آخر من الله وهو (لَهُم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولَهم أَعينٌ لا يبصِرون بِها وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا) وهذا واضح للجهلاء الذين أشركوا مع الله إلهاً آخر حتى نسوا من هو الخالق.
ومن هنا يدرك الإنسان العاقل أن هناك رباً سيد هذا الملكوت مُقدر كل شيء ، وإن الوجود يسير وفق آلة زمنية دقيقة في الحساب وإن كل شيء مستقر ، ليس الاستقرار نعنيه السكون أو الجمود ، إنما في الحركة كدوران الشمس حول محورها وتتبعها الكواكب حولها بلا فوضى بقانون يحكمها ضد الانفلات ، والحركة دائمة في كل المجرات ولها قوانين ولا زال العلم يبحث.

المبادئ الزائفة ليس لها قيمة

مبارك عامر بقنه
في ظل التواصل المعرفي المنفتح تتلقف العقول الأفكار الوافدة الغريبة، وسرعان ما تتعايش هذه العقول مع هذه الأفكار والرؤى. وليس العجيب عن ورود الأفكار إلى عقول الناس ولكن العجب هو قبول الناس لهذه الأفكار الغريبة الشاذة، والتواؤم الذي يحدث بمجرد الاتصال.
إنها إشكالية مقلقة، نواجهها كل يوم، صراع قوي دائم بين المبادئ والقيم وبين الدخيل على هذه القيم. فهذا الدخيل يكاد يزعزع قيم الناس وما يحملونه من مصداقية المبادئ، فالآخر يملك قوة تأثيرية، فهو يسيطر على كثير من المنافذ الإعلامية والتي عبرها يتسلل إلى مشاعر وأحاسيس الناس فيعبث فيها كيف يشاء، ويقودها حيثما أراد، مستغلاً جهل الناس بحقيقة الأمور وانبهارهم بزيف الحضارة الغربية.
والخلط يحدث عندما يجعل هناك تلازماً بين صحة القيمة والرمز. فالشخص البسيط يحكم على صحة القيمة ومصداقيتها إذا رأى لها مثالاً واقعاً في الناس، وأكثر الناس يعجزون أن يحكموا على القيمة مجردة من المثال ومن المؤسف حقاً أن يرتبط في أفهام الناس القيمة بالشخص، فارتباط المبدأ والقيمة بالشخص من أسباب ضعف تعلق الناس بهذه القيم الرفيعة . ولهذا لا بد أن يكون هناك فصل في أذهاننا بين المبدأ والشخص، والقيمة والرمز، فالشخوص متغيرة والمبادئ ثابتة، والرموز تنتهي والقيم باقية مستمرة.
إن المساواة بين القيمة والشخصية الرمزية إسقاط لهذه القيمة . نعم، إننا ندرك أن هذه الشخصية برزت وتميزت بهذه المبادئ التي تحملها وتؤمن بها؛ ولكن قد يحدث هناك انفصال بين هذه الشخصية وما تحمله من مبدأ لطبيعة الشخصية الإنسانية التي فطرها الله عليها من ضعف وعجز وخور، فهل نحمّل هذه المبادئ والقيم هذا الضعف والخور البشري، إن فعلنا ذلك فقد اقترفنا خطيئة مركبة في حق المبادئ وحق الشخصية.
لذلك فالمبادئ الزائفة ليس لها قيمة ، والصدمة الحضارة التي تعيشها الأمة ولدت كثير من الأسئلة: هل قيمنا تتناسب مع العصر؟ هل تطبيقنا للقيم صحيح؟ هل الخلل في تفكيرنا أم في قيمنا؟ هل القيم الغربية أصدق وأبلغ من قيمنا ومبادئنا؟ هل الغرب قادر على تقرير قيم جديدة للعالم؟ وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي تنم عن جهل بقيمنا وانبهار بالتقدم الصناعي الغربي وانهزام نفسي بسبب التخلف الإسلامي فانعكس كل ذلك على تصوراتنا ومفاهيمنا وهذا أكبر انتصار يحققه الغرب، وهو أن يشعرك بهزلية مبادئك وعجزها عن مواجهة الحياة المعاصرة بفعالية مما يجعلك تابعاً ذليلاً لفكر ومعتقدات الغرب. وهذا ما نشاهد أثره في فئات عريضة، فالتصور العقدي الصحيح وفضائل الأخلاق ومحاسن العادات أصابها كثير من التشوهات في مفاهيم كثير من الناس. وأصبحت القيم الغربية التي لا تنسجم مع فطرتنا وعقيدتنا تحل محلها، فالفردية والأنانية وحب المادة والركض وراء الشهوات والتخلي عن المعاني الإنسانية أصبحت عاملاً مشتركاً بين فئات المجتمع.
إن العجز الذي نعيشه ليس بسبب خلل في قيمنا وتصورتنا؛ وإنما هو في حالة الانفصام التي نعيشها مع قيمنا، فالتطبيق العملي للقيم التي نملكها يكاد يكون معدوماً. والخروج من هذا المأزق المأزوم هو ليس بالتخلي والانفلات من عقيدتنا وقيمنا، وإنما بتنقيتها من الشوائب وتصفيتها مما أصابها من تصورات دخيلة، فوجودنا الإيجابي الفعال لا يتم إلا بالاستناد على عقيدتنا وثوابتنا وإن حدث تخلف وانحطاط فهو فينا وليس في ديننا فلا تلازم بين التطبيق والمبدأ.

أمانة في أعناقنا

ناديه ياسين سراقبي
ما يمر به العالم من انفتاح منقطع النظير، وانفلات غير مسبوق، وصراعات وحروب ونزاعات، لا أخلاقية وغير متكافئة وبعيدة عن القيم؛ كل ذلك انعكس بشكل واضح على مضامين وفحوى ومدلولات ما يُكتب، وعليه نحتاج جميعا لمراجعة أنفسنا بهذا الخصوص، وضبط أقلامنا وكتاباتنا وما تسطره أيدينا، ولا يتم ذلك إلا بأن يتسلل إلى أذهاننا، وينغرس في خواطرنا، ويرسخ في عقولنا السؤال التالي: لماذا نكتب؟.. لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، قال أحدهم: ما تكلمت بكلمه ولا فعلت فعلاً، إلا أعددت لذلك جواباً بين يدي الله عز وجل.فالبعض يكتب للتسلية أو ملء الفراغ ,.وآخر يكتب ليقال كاتب, وثالث لإجبار الآخرين على تغيير قناعاتهم والاقتداء به، ورابع يكتب لنقل آراءه الشخصية ويتظاهر بالمعرفة بكل شيء، وآخر يكتب لحض الناس على توجه فكري أو سلوكي أو منهجي خاص به، ومنهم للطعن والتشهير والتنقيص من الآخرين، وهكذا ...إلخ.لكن بالمقابل لا نستطيع أن ننكر وجود صور مشرقة ومنارات شامخة، يكتبون بيد بيضاء ونوايا صادقة وأسلوب معبر بأقلام واعية، امتثلوا في كل شيء قول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)، وقول نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح (إنّ الدين النصيحة ، إنّ الدين النصيحة ، إنّ الدين النصيحة . قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ، وكتابه ، ورسوله ، وأئمة المؤمنين ، وعامتهم ، وأئمة المسلمين وعامتهم).
فالكتابة رسالة، وأمانة ، وفكرة فيها عبرة وليست فلسفة ومراوغة، وإرشاد وبيان لا تضليل وإيهام، وتحرر من الشخصانية إلى الشمولية، لا تقوقع ووصولية وانتهازية، والكتابة توجيه ونصح وسداد، وليس توبيخ وتشهير وتشتيت، كما أن الكتابة عِظة وتدبر وتأمل، لا اضطراب وتأرجح وضياع، والكتابة تنوير وتأصيل وتوسيع للمدارك وإيجاد حلول، وليس متاهة وتجهيل وفلسفة.
لماذا تضيّع وقتك وجهدك وفكرك وقلمك؟ من غير أن تكون لك رسالة نبيلة وهدف مرموق، ثم إياك أن تجعل كتاباتك مجرد هواية أو ردود أفعال، لأنّ علينا الترفع عن سفاسف الأمور، والتكرار الممل وانعدام الفائدة، والثرثرة الزائدة وحشو الكلام، والابتعاد عن السطحية والنظرة الضيقة للأشياء.فكل ما تسطره أناملك هو مسؤولية شرعية وأخلاقية؛ وقبل تسويده ثم تبيضه ثم نشره، لابد من تمريره على مقياس السيطرة النوعية، المتكون من تلك الأسئلة: هل هذا الحرف أو تلك الكلمة أو الجملة والفقرة حق أو باطل؟ موافق للشرع أو مخالف؟ فيه مصلحة أو مفسدة؟ هل سيستفيد منه القارئ أو لا؟ فإذا كان المكتوب حقا موافقا للشرع وفيه مصلحة راجحة وسينتفع منه القارئ، سيجتاز المقياس وبخلافه سوف تندم عاجلا أم آجلا إذا أقدمت عليه، لأن ربنا سبحانه يقول في كتابه العزيز ..( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) أي ما يتكلم ابن آدم من كلمة إلا ولها من يرقبها، وهو حاضر معدّ لذلك، يكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة.
من أجل ترشيد الكتابة ينبغي التحلي بآداب البحث والنقاش والحوار والمناظرة، ثم التدرج والارتقاء بأسلوب البيان، وتوضيح الحق من الباطل بالحكمة والموعظة الحسنة، وعدم المجاملة على حساب دينك وعقيدتك وثوابتك ومبادئك ..إذا تحمل الكاتب المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأيقن بأن الكتابة أمانة في عنقه، فإنه سيبقى كالجبل الراسخ الذي لا تهزه ريح، ويستمر بنشر الحق والخير من خلال كتاباته، فقلمه يقوده لتسطير قناعات ورؤى حقيقية نابعة من القلب، بعيدا عن أي مؤثرات خارجية فئوية أو مصلحية أو شخصانية، أو حتى زمانية أو مكانية.

القشور هيَ المشكلة

دلال عبدالعزيز الضبيب
لو ألقيت نظرة بسيطة على مجتمع الشباب في هذهِ الأيام .. لاختلطت عليك المشاعر لأنها كثيرة جداً. فكلّ الصور أمامك مُحزنة وتجعلك في حيرة عن الدوافع والأسباب. فئة الشباب تمثل الغالبية العظمى في مجتمعاتنا . والطريق الذي يسلكونهُ يمكن أن تراهُ بوضوح إذا ألقيت نظرة خاطفة على أحد الاجتماعات الشبابية. مناظر و تصرفات لم تكن موجودة عندنا قبلاً! بل هي حديثة مستحدثة ولاشك أنها حديث الآباء والأمهات والمعلمين.
للوهلة الأولى سنقول التأثر التام بما تعرضه شاشات التلفزة من المسلسلات والأفلام وخصوصاً الأمريكية، فنحنُ بلاشك في زمن الأمركة الثقافية. لذلك فالولع والانبهار بكلّ مايُعرض يكاد يطفو حتى يُغرق.. تلك القيم المزيفة التي يُلمّعونها ويزينونها، تبدو واضحة للعيان .. فتجميلهم لها لا يختلف فيه اثنان، ولكنه يبدو بهذا الوضح لمن يطلع بدقة فيشاهد أن تلك القيم هيَ ما تُتعبهم. فالحرية سببت لهم مشاكل لا نهاية لها، والمساواة أتعبت نسائهم، والخصوصية أبعدت أطفالهم عن بيوتهم، والقائمة تطول. القشور هيَ ماغطت العقول .. القشور هيَ المشكلة التي يجب أن ننفض الغبار عنها لنُري من يتفوّه بتمجيدهم لهم، بالحقيقة الكامنة في الأعماق.
سيأتي من يُغالطني ويقول أن لديهم من القواعد والأخلاق التي يحق للجميع الانبهار ومحاولة فعلها. صحيح ولذلك وُجد العقل.. فنأخذ كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم الجيد عندهم وننبذ العكس. في كلّ دول العالم يكمُن الغثّ والسمين، لكي نطور أنفسنا ومجتمعنا يجب أن نميّز بينهما ونأخذ مااستطعنا من السمين وننبذ بدون تردد ولو للحظة .. الغثّ.عندما لايكون لديك قاعدة ترتكز عليها، فالتأرجح سيشتت ناظريك .. ويتعب رأسك و يُرهق جسمك حتى يدقّه دقاً! الكل يبحث عن قاعدة، والكل يريدها.. ولكنّ الله ميزنا بأنه أوجد لدينا هذهِ القاعدة التي نرتكز عليها فلانحيد، نقف بفخر فوقها وثبات .. ميزنا بوجود الدين الذي هوَ عصمة دنيانا، نستطيع من خلاله أخذ القرارت السليمة والاستعانة بهِ دائماً وأبداً في هذهِ الدنيا المتقلبة! الابتعاد هو أول طريق الانهيار .. انهيار النفس كـأضعف الإيمان. إذاً فالتمسك به هو أول طرق السكينة والرؤيا بجلاء.فحتى أكثر الناس خُرافة و معتقدات واهمة، نجدهم يفتخرون بهويتهم ولا يتركونها أبداً ودائماً هم في دفاع عنها مهما لزم الأمر. الفخر بهويتك .. بقيمتك .. هُو من أجمل الأمور التي تميزك وتحسسك بالتفرّد، الفخر هو ذاك الاحساس الذي يناغي صدرك وأنت فوق قمة جبل، أو في نهاية طريق هدفٍ سعيتَ له.الحبّ هو أول سبل التعلق، الحب باقتناع هو الطريق الأسهل والأكثر سلاسة، فمن يسلكه يكمله حتماً، أما المشكك والمتردد في هذا الحب لن يقدر على مواصلة الطريق ولو قليلاً.
مجتمعنا كما ذكرت سابقاً يمثل الشباب القيمة الكبرى منه، وهؤلاء الفئة تحتاج للاحساس بهذا الحب ليتولد الشعور بالولاء المعلمون والمسؤولين عن التربية من منزل أو مدرسة أو حتى في الشارع والمسجد، يجب أن يغرسوا بذرة حبّ الدين والترغيب فيه وإيصال فكرة أنّه دين المحبة والسلام، دين الإخاء والجمال، دينٌ أنت منعّم لأنك اعتنقته، أنت منعّم لأنك ولدت من أبوين مسلمينّ فابتعد عن صدرك احساس الوحشة والغربة والضياع وعدم تحديد الهوية الفطرية التي تضرب قلب كل شخص .. ذلك الاحساس الذي يعيشه الكثير من الناس في هذا العالم . فنحنُ في وقتٍ ينشر رسالات كل يوم وفي كل دقيقة.. فأين نحنُ من إرسال الرسالات المعاكسة والحقيقة لكلّ مايُصيبنا. هوَ واجبٌ على كل شخص تجاه مجتمعه .. وشبابه .. أن يقوم ولو بدورٍ بسيط. فالنفس ضعيفة والزلازل قد تعصف الصدور بسهولة، فـأن تأخذ بعاتقك المساهمة في تهدئة نفس او إحقاق حق هُو أمر نرجو من الله أن يكونَ أجره كبيراً.

مستقبل ثقافتنا الأخلاقية

نوفل عبد الهادي المصارع
أساليبنا في الحياة وطرقها تغير حالها وتبدل إلى طور جديد كليةً، ربما لا نقتنع أحيانًا بأننا نلامسه ونعيش فيه، ونلاحظ أيضًا تكنولوجيا تسابق الوقت والأيام وكأنها تسبقها، وأجزم بأن ما نشاهده منها ما هو إلا ما يريد الذي يصنع ويبتكر ويفكر أن نشاهده، فما خفي أعظم، وربما لا يصدقه العقل.
وعادةً ما ننغمس في ثقافتنا إلى درجة لا نشعر بها، مع أنها وسيلتنا الوحيدة للتعامل مع العالم المحيط بنا، مما يجعل من قراءة هذه الملامح المستقبلية أمرًا صعبًا أحيانًا أو غير ذي أولوية، لذا يبدو واضحًا وجليًا أن سرعة حدوث الأشياء وتغيرها حاليًا وانغماس الناس في ثقافتهم سوف يؤدي بلا شك إلى تحولها إلى مجموعة ثقافات جزئية غير مترابطة من هنا وهناك، مما يضعف الأمة ويصيبها بالوهن.
وأعتقد أن من أهم المحاور التي تهمنا عند حديثنا عن مستقبل ثقافة المجتمع: المحور الأخلاقي؛ لأنه يعد من أهم مقومات بناء المجتمع أو انحطاطه، ويرتبط بهذا المحور الأثر الذي قد ينعكس على عقيدتنا الإسلامية الصحيحة وثقافتنا الراسخة والعريقة في قابل الأيام، ولا ننسى مع كل هذا أن الأصل هو بقاء طائفة من هذه الأمة قائمة على الحق، وهو من الأحاديث النبوية العظيمة التي عنيت بالحديث عن المستقبل، فقد قال الرسول ‏صلى الله عليه وسلم: ‏"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" والسؤال الذي ما برح يرن برأسي: ما شكل ثقافتنا الأخلاقية وملامحها التي سوف نعيشها بعد عشر أو عشرين سنة قادمة أو أكثر؟
بصراحة، أصبحت أخشى حتى من التفكير في الإجابة، ولكن من منطلق التفكير العميق في الأشياء بقصد الوصول لنتائج فاعلة ومحركة لازدهار المجتمعات أخلاقيًّا، سوف أتحدث عن الأداة التي قد تساعد بصورة كبيرة في الإجابة عن هذا السؤال، وهي استشراف المستقبل، وهو ليس توقع المستقبل نفسه، ولكن فهم المتغيرات الحالية وبناء توقعات معينة في ظل التغيرات والتحولات الحاصلة في حركة المجتمع المستمرة؛ من تعليم وإعلام وتربية واقتصاد وثقافة وفنون ورياضة وعادات وسلوكيات وغيرها من عناصر أخرى مهمة، وذلك لوضع الخطط المناسبة في محاولة لتحسين أحوال المستقبل وظروفه وتطويرها، فنحن نريد توقع أموره حتى نتجهز لها، ونعرف فرصه المتوقعة ومخاطره المحتملة حتى نكون مستعدين لمواجهتها والتعامل معها، بمعنى أن نرفع من مستوى استعدادنا لهذه التحديات قبل أن تأتي، وإن أتت فنحن نتعامل مع جوهرها وليس أعراضها كما هو شأننا هذه الأيام، لذا فإن القراءة السابقة لمستقبل القنوات الفضائية مثلاً وما تحتويه من برامج وفعاليات، وتحديد ملامح مواقع الإنترنت المستقبلية يساعدنا على الأقل أن نكون أكثر استعدادًا لها وأقدر تعاملاً مع آثارها السلبية في المجتمع ومكوناته ونعرف كيف نستخدمها كأدوات تبنيه وترتقي به.
دعني أتحدث بتفاؤل جم - فالرسول الكريم كما نعلم يحب الفأل وأهله - من خلال إثارة بعض الأسئلة لك أنت يا مَنْ تقرأ:
- هل أنت راضٍ عن مستوى الأخلاق في مجتمعك المسلم؟ وهل فعلاً نعيش بوقت يضبط به المسلم تعاملاته الإنسانية من خلال أخلاقيات المسلم الحقيقي؟
- هل هناك وفرة من الشخصيات المسلمة في مجتمعك التي تود أن تكون مثلاً لك بعد الرسول عليه السلام؟
- هل هناك احترام حقيقي لقوانين الدولة وأنظمتها بمختلف المجالات، بالطبع بشرط أن لا تكون بمعصية الخالق؟
- هل تأخذ حقوقك الوظيفية كاملة مثلاً دون واسطة أو تدخل من آخرين بصورة أو بأخرى؟
- ماذا عن الألفة وإفشاء السلام؟ هل هما بصحتهما وعافيتهما؟
- وهل الثقة موجودة ما بين الناس فتشعر بها وتراها؟
- كيف ترى مسار علاقاتنا الاجتماعية والتواصلية؟ إلى ضعف أو إلى قوة؟
- كيف ترى لهفتنا على الدنيا ومتاعها؟ أبازدياد أم نقص؟
بطبيعة الحال هناك الكثير من الأسئلة، ولكن القصد منها إثارة الانتباه، وليس الدخول في تفاصيلها التي إن بدأت فلن تنتهي، وقد تكون أجوبتك هنا بناءً على فهمك للأمور ومعرفتك بها، فأنا لا أتحدث هنا عن رأي قد نختلف عليه أو لا، ولكن أنا أتكلم عن موضوع خطير للغاية سوف يجعل بعضًا منا قد يحيا غريبًا في مجتمعه المسلم في المستقبل المنظور بسبب هجرتنا لأخلاق القرآن، إلا ما رحم الله، لذا أدعوك هنا لإدراك هذه التساؤلات وليس معرفتها فقط، إذ إن معرفة أمر ما تعني الارتقاء بالفهم ولكن بنفس المستوى والجانب، ولكنني أطلب منك أن تحيط بهذا الأمر بكماله قدر الاستطاعة، أي أن تراه من جميع جوانبه، وأن لا تترك زاويةً إلا وقد مررت عليها حتى نصل بإذن الرحمن إلى معرفة الخلل - إن وجد - الذي يجعل من ثقافتنا الأخلاقية - في غالب الأحيان - مزيجًا غريبًا علينا، لا نكاد نعرفه، ولكننا بنفس الوقت نعيش فيه ونقول ونفعل استنادًا عليه.
إن الحديث عن أخلاقنا الإسلامية العريقة وأغوارها التي أتمها الرسول صلى الله عليه وسلم، ينعش النفس، ويجعل للعقل لذة جميلة يتغير طعمها من موضوع إلى آخر في حال تأملها والتفكر فيها وتعلم طرائق تفكير جديدة تساعدنا على التغيير الطيب المُبارك حتى تكون هذه الدنيا محورًا للارتقاء الإنساني، فتنمو المجتمعات، فتسمو، فتزدهر، ونتذكر بعدها الإيمانيات في المقام الأول، وليس الماديات، ونستعرض قوتنا الأخلاقية الباقية وليس المالية الفانية.

النظام السوري دخل مرحلة النهايات

بول سالم
ثمة مؤشرات عدة على أن نظام الأسد بدأ مسيرة انحدارية سحيقة نحو التدهور وربما السقوط. يخرج المزيد من البلدات والمناطق عن سيطرة النظام، وتظهر القوات الحكومية دلائل الارتباك من خلال ارتكاب مجازر متكررة، فيما المعارضة تتسلّح وتنسّق قواها في شكل مطرد. وعلى الصعيد الدولي، تقترب خطة أنان، التي منحت النظام السوري فرصاً عدة، من نهايتها، وسط دعوات متزايدة في الغرب إلى رفع مستوى التدخل في سورية. وفي هذه الأثناء، تتدفق الأموال والأسلحة والمعلومات الاستخبارية على الثوار السوريين. وهكذا، يبدو النظام السوري الذي رفض الحلول السياسية وفشل في فرض حلوله الأمنية - العسكرية، على شفير الانهيار تحت وطأة عنفه العاري وتناقضاته الحادة.
يمكن ملاحظة ارتباك النظام من خلال معاينة تطورات عدة. فتشير مجزرتا الحولة ومزرعة القبير وإطلاق العنان لإرهاب الشبيحة إلى أن النظام لم يعد قادراً على فرض سيطرته وهيمنته كما في السابق، ولذا يلجأ إلى أعمال وحشية لإرهاب المواطنين ومحاولة ردع الثوار. وكذلك الأمر بالنسبة إلى تفسير التقارير الدولية عن استخدام الأطفال كدروع بشرية خلال المجابهات بين قوات النظام وقوى المعارضة المسلحة.
ثم أن النظام بدأ يستخدم الحوامات العسكرية، وهو أمر تجنّبه في الماضي لأنه يعزز وجهة نظر الداعين إلى فرض مناطق حظر جوي. وهذا، مرة أخرى، يعكس فقدان النظام القدرة على السيطرة على الأرض في مناطق عدة من سورية، ووصول أسلحة مضادة للدبابات والمدرعات، علاوة على أسلحة وأجهزة اتصال أخرى إلى أيدي قوات المعارضة.
لكن، ثمة ما هو أخطر: إذ أن الهجمات على بلدة الحفة وبلدات أخرى، فضلاً عن المعارك حول مدينة حماة الاستراتيجية، ربما تدل على أن النظام بدأ يستعد لمرحلة ما بعد السقوط من خلال القيام بعمليات «تنظيف» مذهبية في المناطق الشمالية الغربية من سورية، تمهيداً لإقامة «كانتون» علوي هناك.
لقد أشعلت المذابح المتكررة الرأي العام في الداخل السوري، حتى في صفوف رجال الأعمال والطبقات الوسطى التي بقيت على الحياد طيلة الفترة السابقة. وثمة أيضاً تقارير عن بروز امتعاض عميق داخل الطائفة العلوية نفسها، ذلك أنّ الرئيس الأسد وعد الطائفة بحل عسكري أمني سريع للأزمة لكنه بدلاً من ذلك يقودها إلى حرب أهلية لا تستطيع أن تربحها.
وفيما يبدو النظام في حالة تضعضع، بدأت المعارضة تُظهر المزيد من التنسيق والفعالية. إذ تشير المعلومات إلى أن هذه القوى تتلقى أموالاً وأسلحة خفيفة من السعودية وقطر، وأسلحة مضادة للدبابات من تركيا، ودعماً استخبارياً وتقنياً من الاستخبارات الأميركية (سي أي آي) والبريطانية (أم آي 6). وقد تكبّدت القوات الحكومية في المعارك التي نشبت الأسبوع الماضي مع قوات الثوار خسائر بشرية كبيرة وفقدت 20 دبابة وعربة مدرعة. كما تُظهر قوات المعارضة دلائل متزايدة على أنها باتت قادرة على التنسيق وعلى تنفيذ هجمات بشكل أكثر فعالية في مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك ضواحي دمشق.
وعلى الصعيد الخارجي، ثمة تحوّل ايضاً. فمبادرة كوفي انان تُعتبر الآن في عدد من عواصم المنطقة وفي الغرب أنها قد فشلت. ويتمحور النقاش حالياً حول ما إذا كان يتعيّن الانتظار حتى ينتهي تفويض مهمة المراقبين الدوليين في أواسط تموز (يوليو)، أو أن يُعلن عن وفاة هذه المبادرة قبل ذلك. وقد أعرب أنان نفسه عن إحباطه الشديد من أفعال النظام السوري، وحذّر من أن البلاد باتت على شفا «كارثة الحرب الأهلية». لكن هيرفي لادسوس، رئيس عمليات قوات حفظ السلام الدولية، ذهب أبعد من ذلك حين أعلن أن سورية دخلت بالفعل في «حرب أهلية واسعة النطاق».
والآن، وبعد أن فشل أنان في حمل نظام الأسد على الامتثال إلى مبادرته، تكمن الطلقة الأخيرة في استراتيجيته في الانخراط مع كلٍ من روسيا وإيران في سيناريو «مجموعة اتصال سورية»، بأمل إقناع حلفاء الأسد بحمله على قبول التفاوض والبحث عن حل سياسي.
لكن يبدو أن الوقت بدأ ينفد داخلياً وخارجياً. إذ لم يعد واضحاً كم من الوقت يستطيع نظام الأسد أن يصمد بعد، فيما تتعالى أصوات في الغرب تطالب بإعلان موت مبادرة أنان وتدعو إلى عدم الاعتماد على الرئيس الروسي بوتين لإنقاذ سورية من المجازر والحرب الأهلية.
في هذه الأثناء، تواصل الولايات المتحدة وروسيا التفاوض، فعُقد اجتماع الجمعة الماضي ضم المبعوث الأميركي الخاص إلى المعارضة السورية فريد هوف ونائبين لوزير الخارجية الروسي هما ميخائيل بوغدانوف وغينادي غاتيلوف. لكن بدا ان مواقف الطرفين لا تزال متباعدة. فروسيا تواصل دعم نظام الأسد عسكرياً وسياسياً، وحتى مالياً، فيما تقدّم الولايات المتحدة الدعم الاستخباري والتقني للثوار السوريين، وتوافق على تدفق الأسلحة وعمليات التدريب إليهم والتي يقوم بها حلفاؤها وأصدقاؤها في المنطقة. والواقع، وفيما تنهار مبادرة أنان ويكسب الثوار المزيد من الصدقية، يحتمل أن تزيد الولايات المتحدة بالتدريج مداخل دعمها المباشر وغير المباشر للثوار. يتطور الموقف الأميركي بسرعة، بخاصة لأن المرشح الجمهوري للرئاسة ميت رومني يدعو إلى موقف أميركي أكثر حزماً إزاء الأزمة السورية. وهذا ما قد يدفع أوباما إلى تصعيد مواقفه من الأزمة. ولا يغفل أيضاً أن القيادات الاسرائيلية، من نتانياهو إلى شاوول موفاز وشيمون بيريز، باتت تطالب اميركا والغرب بالتدخل في سورية، وسيكون للموقف الاسرائيلي صداه القوي عند اللوبي اليهودي في واشنطن.
أما على الصعيد الأوروبي، فصرّح كلٌّ من وزير الخارجية البريطاني، وليام هيغ، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي، أندرز فوغ راسموسن، بأن الأزمة السورية بدأت تشبه الأزمة البوسنية في بداية التسعينيات. آنذاك، وقف العالم في موقف المتفرّج بينما كان جيش نظام ميلوسوفيتش يرتكب المجازر والتطهير العرقي. ولم تنتهِ الأزمة إلا بعد أن شنّ حلف شمال الأطلسي عملية قصف جوي مكثّف. إذاً، تظهر التصريحات الأوروبية أن الحكومات الغربية، وإن كانت تبدي تردّداً الآن، قد ترى أنه من الضروري التدخّل في سورية في المستقبل القريب. هذه الخطوة بدأت تُتَرجَم من خلال تقديم الدعم العسكري غير المباشر للثوّار، لكن قد يُنظَر في نهاية المطاف في إمكانية إقامة منطقة حظر جوي أو ممرّات أو مدن آمنة داخل سورية.
تشير التطورات في الأسابيع الاخيرة أن الأزمة السورية بدأت تدخل مرحلتها النهائية. وفيما من غير المؤكّد ما إذا كان نظام الأسد قادراً على الصمود لما تبقّى من العام الجاري، من الواضح أنه اختار السبيل الأكثر دموية، آخذاً سورية إلى مرحلة من الدمار والحرب الأهلية، ومعرّضاً الطائفة العلوية، التي يدعي حمايتها، إلى خطر وجودي كبير. لا يمكننا إلا أن نأمل أن تخرج سورية سريعاً من محنتها، وألا تشمل تكاليفُ سقوط النظام وإرساء نظام سياسي جديد مزيداً من عشرات آلاف الضحايا.

الصراع على سورية يفكّك الدولة والجيش

عبدالوهاب بدرخان
بين الولايات المتحدة وانحيازها التاريخي الثابت لسلطة الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، وروسيا العائدة إلى أبشع ما في سوفياتيّتها بدعم ستالينية النظام السوري في عدوانه اليومي على شعبه، لا عزاء للعرب وقد غدوا ثانيةً وقود الحرب الباردة المتجددة بكامل سخونتها. فعلت أميركا كل ما يلزم، قبل ستة عقود، لضمان خسارة العرب فلسطين، وتفعل روسيا حالياً أمام أنظارهم كل ما تستطيع لاستدراج سورية إلى جحيم الحرب الأهلية وسيناريوات التقسيم والتفتيت.
بدل أن يرصد النظام السوري أي فرصة تُتاح لإنقاذ البلد من «المؤامرة» التي لا ينفك يحكي عنها، إذا كان حريصاً فعلاً على سورية وشعبها وجيشها ودولتها، تراه يراهن على «لعبة الأمم» وعلى «بازار» واسع تفتحه روسيا آملاً بالاستمرار، وكأن سورية تقزّمت لتُختزَل بهذا النظام ولا تستحق الوجود من دونه. والواقع أن شيئاً لا يضمن لهذا النظام أن تدور اللعبة على النحو الذي يرومه. فالروس صاروا مثله يعتمدون على حصيلة الضحايا وهول المجازر لاستثارة المزايدة، وكلما واجههم تحدٍ يعرضون جثته لإشعال المزاد والأسعار.
رغم أن المحنة هزّت النظام في صميمه، وأظهرت له أن «إنجازات» خمسة عقود من المناورات والصفقات والمغامرات في الإقليم كانت سلسلة من خداع الذات والأخطاء والأوهام، إلا أنه لم يفهم ولم يحاول أن يفهم أن الحلقة المفقودة في كل هذه «الأمجاد» هي شعب سورية. وإذ بذل كل جهد وابتلع كل الإهانات في مهادنة العدو الإسرائيلي، وبالغ في التجبّر على اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين وتخييرهم بين أن يكونوا أعداء أو عملاء أو أتباعاً، فإنه انتهى إلى إخراج كل ترسانته لمواجهة مَن اعتبرهم دائماً «العدو الأول»، «الحقيقي»: الشعب. وفوق ذلك يطمح، بل يحلم، بأن يهزمه ليواصل حكمه، أو يترك له سورية مجرد أرض محروقة.
كان المؤتمر الأخير لـ «منظمة شنغهاي للتعاون» في بكين فرصة لتعميق محور السلبية التي باتت تربط بين روسيا والصين، برصيد «فيتو» مزدوج استخدم مرتين في مجلس الأمن، ويظنّه أصحابه صدّاً للنفوذ الأميركي - الغربي فيما تجده أمم العالم كافة حضّاً وتشجيعاً على قتل المدنيين في سورية. وإذ اقترب هذا الثنائي الدولي إلى مواقف إيران ضد «الشيطان الأكبر» الأميركي وضد «الاستكبار الغربي» فإنه يطلب ضمّها إلى مؤتمر دولي بشأن سورية. لكن ما الذي يبرر وجود إيران إلى الطاولة على افتراض قبول الجميع بها وانتظام المؤتمر فعلاً، أهي حدودها المشتركة مع سورية، أم عضويتها الافتراضية في الجامعة العربية، أم عضويتها في مجلس الأمن، أم تحالفها مع نظام دمشق، أم «شبّيحتها» المشاركون في قتل السوريين، أم لأن الروس والصينيين صاروا يعتبرونها «دولة عظمى» ذات نفوذ في الإقليم بحكم سيطرتها على العراق وسطوتها في لبنان وإدارتها للانقسام الفلسطيني من خلال غزة؟ معظم هذه المبررات غير صحيح أو وهمي أو آني، وقد اختلس في ظروف غير منطقية وسيزول بزوالها.
كان يمكن اقتراح هذا المؤتمر الدولي أن يكون خبراً جيداً لو أنه «من أجل سورية»، لكنه عملياً لتدبير شؤون الأطراف المتحفزة لاقتسام سورية. فهو يرمي، إذا قدّر له أن ينعقد، إلى أحد خيارين: إما تعجيز التوصل إلى أي حل آخر غير إبقاء النظام السوري أو في أفضل الأحوال فرض نظام يكون نسخة معدّلة منه. وإما دفع الابتزاز إلى حدوده القصوى بوضع مطالب روسيا والصين وإيران ومتعلّقاتها بدول أخرى في سلّة واحدة بحثاً عن صفقة كبرى متكاملة يصبح الشأن السوري فيها ثانوياً وموضع مساومة. قد يبدو الخيار الآخر خيالياً أو مغرياً لكنه ينطوي بدوره على تعجيز، لأنه يوسّع الإطار ليطرح تسوية مركّبة ومترامية الأطراف بين حلف الأطلسي و«منظمة شنغهاي» وريثة حلف وارسو. وعلى ذلك يجب ألا تُعلّق آمال كبيرة على أي لقاء قريب بين الرئيسين الأميركي والروسي، ولا على المفاوضات النووية بين مجموعة الدول الـ 5+1. فالروس رفعوا السقف عالياً وأصبحت تنازلات إيران النووية في عهدتهم مقابل العقوبات المفروضة عليها، كما أنهم والصينيين يحتاجون إلى إيران إذ يستعدّون لإعادة ترتيب الأوضاع في آسيا الوسطى بعد الانسحاب الأميركي - الغربي من أفغانستان.
كيف يمكن والحال هذه التوصل إلى تسوية قريبة تحقن الدماء وتؤمن الاستقرار في سورية. الواقع أن الدول الغربية تعاملت مع الأزمة حتى الآن بإظهار الاهتمام الأخلاقي والإنساني بأوضاع الشعب السوري، لكنها استهلكته وتوشك على استنفاده، ولا تستطيع المضي قدماً من دون استراتيجية واضحة تتعلق بسورية وكذلك بمجمل الشرق الأوسط. مرةً أخرى يظهر الخلل الذي خلّفه الغرب بانقياده وراء إسرائيل في الإحجام عن توقيع اتفاق سلام مع سورية والتلكؤ المتعنت في حل القضية الفلسطينية. ولعل مردّ صمت إسرائيل طوال الأزمة إلى إدراكها هذا الخلل وعدم لفت النظر إليه، فلو اندلعت الانتفاضة الشعبية السورية في ظل سلام مع إسرائيل لكان موقف النظام مختلفاً إقليمياً وحتى دولياً. فجأةً، يوم الأحد الماضي، خرج بنيامين نتانياهو وشاؤول موفاز عن صمتهما ليدينا المجازر في سورية، وشيمون بيريز ليتمنى انتصار الشعب السوري، وفجأةً بدأت إسرائيل تطالب بـ «تدخل عسكري خارجي» وكأنها استشعرت وجوب التدخل في «بازار» المعالجة الدولية الجارية للأزمة لعل هناك ما يمكن أن تكسبه أكثر من كونها ضمنت هدوء الجبهات مع «دول الطوق» العربية لفترة طويلة آتية.
تؤكد الدول الغربية يومياً «عدم التدخل» في سورية رغم اقتناعها بضرورته لكن حماية المدنيين ووقف اراقة الدماء لا يمكن أن يشكلا أهدافاً حقيقية وموجبة للتدخل، خصوصاً أن هذه الدول لم يكن لها وجود على الساحة السورية. ففي مقابل عجزها الواضح تشهد أن روسيا وإيران تتدخلان وتجاريان النظام السوري في استهزائه بالاعتبارات الأخلاقية. أكثر من ذلك، انهما تتوقعان من الغرب وحلفائه العرب أن يدفعوا ثمن تسهيلهما «حلاً» تشترطان أن يكون لمصلحتهما ويضمن مصالحهما إما بالإبقاء على النظام أو بأي صيغة تناسبهما لـ «ما بعده». لكن ما الذي يدفع الدول الغربية، في هذه الحال، إلى شراء تسوية أو إلى تقديم تنازلات للحصول عليها، بل مقابل ماذا؟ لا شيء، هذا يعني فقط أن شروط «الصفقة» غير متكافئة، بل غير متوافرة. فلو تعلق الأمر بـ «أمن إسرائيل» لكانت الدول الغربية بذلت كل المستطاع لضمانه، لكن روسيا والصين لم تقتربا من هذا الخط الأحمر. ولا تجد الدول الغربية وإسرائيل موجباً للتدخل طالما أن الحاصل في سورية - بما فيه التدخل الروسي والإيراني - يصب في مصلحتها، وكل ما عليها أن تفعله هو الضغط لعدم تمكين النظام من سحق الانتفاضة. أما الخيار الأفضل الذي ارتسم لديها، ولم تسعَ إليه تجديداً، فهو ترك سورية تحترب وتحترق وتتفكك بأيدي النظام وبمساهمة غبية من الروس والإيرانيين.

حرب أنفال سورية

حسان حيدر
هي محض صدفة ان يختار «المجلس الوطني السوري» شخصية كردية لقيادته فيما تقترب الحرب التي يشنها جيش بشار الأسد على المدن المنتفضة من التحول الى «حرب أنفال» سورية، تيمناً بحرب الإبادة التي شنها صدام حسين على الكرد في بلاده. لكنه ليس من قبيل الصدفة إطلاقاً أن يكون نظام «البعث» هو المرتكب في الحالتين.
فالتقارير الواردة من سورية، خبراً وصورة، تفيد بتصعيد غير مسبوق للعنف من جانب الجيش النظامي في إطار حملات تطهير بدأت تتكشف في مناطق حمص وحماة المحيطة بـ «الدولة العلوية» المزمعة، هدفها تهجير السكان من الأحياء المختلطة لإقامة حزام أمني يحمي الكيان الانفصالي المستقبلي.
كان مثل هذا الكلام في بداية الرد العنيف لحاكم دمشق على الانتفاضة الشعبية يعتبر ضرباً من المبالغة، لكن كل تصرفات نظام عائلة الأسد وتكتيكاته باتت تشي بغلبة التيار الذي يحبذ تقسيم سورية اذا تعذر بقاؤها موحدة تحت حكمه. والتقسيم هنا يتخذ طابعاً مذهبياً وطائفياً يهدد نجاحه بانتقال عدواه الى دول عربية اخرى، وهذا في النهاية حلم إسرائيل وإيران المشترك.
وقد تكررت خلال الأيام الماضية التحذيرات الغربية من حصول مجازر جديدة بعد الحولة والقبير وغيرها، وشبه وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ التطورات السورية بالوضع في البوسنة والهرسك في مطلع التسعينات حيث دارت حرب أهلية طائفية حصدت اكثر من 200 ألف ضحية فيما المجتمع الدولي يتفرج، قبل ان يقرر التدخل مخافة امتداد النزاع. ومعنى التحذيرات والمقارنة ان العالم يتوقع ارتفاعاً هائلاً في عدد الضحايا السوريين طالما بقيت قدرته على التدخل مقيدة.
ومن المضحك ان تعرب إسرائيل عن قلقها من الترسانة الصاروخية والكيماوية السورية، رغم انه ليس لديها في الواقع اي داع لهذا القلق، فجنرالات الأسد لا يرون عدواً لهم سوى المعارضة في المدن والقرى التي يفرزونها على الهوية، وقد بدأت أنباء ترد عن استخدام غازات ومساحيق مجهولة في قصفها. والمخططون الإستراتيجيون في جيش الأسد منشغلون بإحراق غابات عمرها آلاف السنين على امتداد الحدود مع تركيا لمنع المعارضين من مقاتلين ومدنيين من الاحتماء فيها. وبالتأكيد لن يجد من ينخرط بإرادته الكاملة في تدمير بلده بهذه الصورة وقتاً لـ «العدو القومي» الذي تعود «قتاله» بالشعارات طوال عقود. بل هو يقلد في كره البشر والشجر إسرائيل نفسها التي يقتلع جنودها ومستوطنوها حقول الزيتون المعمرة في الضفة الغربية وغزة والتي أفنى طيرانها في 1982 منطقة حرجية كاملة جنوب بيروت لمنع مقاتلين فلسطينيين من الانتشار فيها.
اشتف نظام «البعث» العراقي من دون ان يرف له جفن عشرات آلاف الضحايا من مواطنيه الأكراد مستخدماً كل ترسانته، بما فيها الاسلحة الكيماوية المحرمة، وأحرق قرى بكاملها بمنازلها وحقولها، وقصف بوحشية مدناً من البر والجو وهجر سكانها، فيما هو يرفع شعار «الوحدة والحرية والاشتراكية». وها هو «البعث» السوري يكرر الجريمة نفسها ضد مدنييه، فيما يؤكد انه ماض في «مواجهة الإرهاب». ولا احد يعرف كم سيكون الرقم الأخير لضحاياه قبل ان يتوافق العالم على كبحه.

الحصيلة المتواضعة لحركات الربيع العربي

محمد جابر الأنصاري
بدايةً لابد من الإشادة بالحركات التي أطاحت أنظمة طال عليها الزمن، وشاخت، ووقفت في وجه إرادة الناس، ومارست الفساد.
لكن هل اتجه “التغيير” إلى الأفضل؟ تلك هي المسألة.
وهل طرح “الشباب” الذين قاموا بتلك الحركات “فكراً” مستنيراً مستوحى من تجارب الأكبر سناً في المجتمع، كما يجب أن تكون عليه متطلبات التطور، أم أنهم، أي الشباب، قذفوا بهذا المطلب المهم خلفهم، وانتظروا حتى تفاجئهم الأحداث؟!
إننا لانرى “فكراً” ضمن هذه “الحركات” التي لم تكن سوى انفعالات وهتافات وشعارات وتجمعات “مليونية” تجتمع وتنفض من دون أن تخلّف أثراً يذكر، عدا تحسين صورة القوى العظمى في العالم العربي التي لا تحركها سوى مصالحها، ودعك من الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية.. المعلنة.
لقد مضى زمن طويل وهي تمثل “بيتاً سيئ السمعة” في العالم العربي، وإلى وقت قريب كان “اسم” “هذا العالم” في أدبياتها الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أو “مينا” حسب الاختصار بالحروف الأجنبية..
وفجأةً صرنا بمواجهة “الربيع العربي”. كيف حذفوا صفة “عربي” من التعبير الأول وأعادوا صفة العربي إلى الربيع ربما لأنه ربيعهم هم؟!
على شبابنا أن يكونوا شديدي الحذر تجاه السياسات الأجنبية الجديدة في منطقتنا العربية!
بدايةً العرب يواجهون بعضهم بعضاً على حدود “إسرائيل” في مصر وفي سوريا.
ففي مصر يعود الصراع القديم “المؤجل” بين قوى الدولة المدنية والدولة الدينية، كما كان الأمر بين الجيش والإخوان منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.
وإذا فاز مرشح الدولة المدنية، فإن المعسكر الآخر لن يتركه ينعم بفوزه، وإذا فاز مرشح الدولة الدينية فإن القوى المدنية ستتحرك. و”إسرائيل” تتابع الأمر وهي تفرك يديها فرحاً.
وجدير بالذكر أن “إخوان” مصر يطرحون العودة لنظام “الخلافة” ولم يثبت أنه نظام إسلامي، لا من القرآن الكريم ولا من السنة النبوية المؤكدة، وإنما من تجارب المسلمين التاريخية.
وفي سوريا، على الجبهة الأخرى، نسمع كل يوم عن صراع دائر بين قوتين سياسيتين، بلا حسم، وثمة حديث دولي عن حل في سوريا على “الطريقة اليمنية”.
إن ما حدث في اليمن “إيجابي” بالنسبة إلى مجلس التعاون الخليجي.
فاليمن برميل بارود فيه “القاعدة”، التي يخشاها الجميع، وفيه احتمالات انفصال الجنوب، وفيه الحوثيون، وفيه القبائل المتناحرة التي تجد في الطبيعة الجغرافية لليمن ما يشجعها على ذلك على حساب الدولة. لذلك فإن دعم “الدولة” في اليمن مسألة تطور تاريخي لا بد منه. وهذا ما أدت إليه “المبادرة الخليجية” التي دعمها عقلاء الخليج وعقلاء اليمن.
غير أن الحل في سوريا “على الطريقة اليمنية” سيتم رفضه رسمياً لأسباب تتعلق بطبيعة السلطة. وستستمر المواجهة بين القوتين المتصارعتين ولا ندري كيف ستسير تلك المواجهة. و”إسرائيل”، كما قلنا، تراقب ذلك.
والملاحظ أن إحدى المحطات الإعلامية الأجنبية- وهذا مؤشر علينا أخذه في الاعتبار- كانت تأتي بأخبار الثورة في سوريا كما هي، لكنها أصبحت توردها وتقول: ولم تتأكد هذه الأنباء من مصادر مستقلة!
(بينما ترفض تلك المحطة أي تكذيب رسمي للأكاذيب التي تذيعها عن بلدان أخرى) وهي إذا وجدت أنباء رسمية من سوريا بادرت إلى إذاعتها بذريعة “الموضوعية” التي هبطت عليها فجأة..
والخلاصة أن هذا التحول الجديد يؤدي إلى المزيد من الاقتتال والصراع داخل سوريا.. فهل ذلك ما يريده البلد الغربي الذي يمول تلك المحطة؟
إن ليبيا هي البلد الوحيد (بالإضافة إلى تونس ومصر) التي شهدت حسماً ضد حاكم شبه مجنون، دفعه طموحه اللا محدود إلى المغامرة بمقدرات بلده وشعبه ليصبح “إمبراطور” إفريقيا” و”عميد” الحكام العرب، ولكن نهايته جاءت على يد قوات أجنبية. فقد أقام الحلف الأطلسي مظلة جوية فوق الشواطئ الليبية. والأطلسي بدوله لم يفعل ذلك لسواد عيون ثوار ليبيا، وإنما من أجل نفطها.
ومازال الوضع في ليبيا غير مستقر، وثمة تساؤلات في محلها عن مصير الانتخابات..
أما تونس، فهي في الظاهر مستقرة- وهذا مصدر “ارتياح” غربي- ولكنها في الباطن غير ذلك. وجدل الدولة المدنية والدولة الدينية ما زال معتملاً فيها، وقد يبرز إلى السطح بعنف.. هكذا نجد أنه من تونس، مروراً بليبيا ومصر، إلى اليمن وسوريا لا نرى الأمر محسوماً.
وقد يقال إن ذلك من طبيعة الثورة، فهي تحتاج إلى وقت حتى تهدأ وتستقر، لكننا نعتقد أن جدل الدولة المدنية أو الدينية لا بد من حسمه في العالم العربي والعالم الإسلامي كله.
فذلك من “حتميات” التاريخ الذي يتحرك قطاره بالعنف أحياناً، حتى لو لم نرد ذلك.

أمواج متلاطمة في السياسة الدولية

جميل مطر
المياه مضطربة في محيط السياسة الدولية، ولفرط اضطرابها يجب أن نتوقع اضطراباً أشد في مياه المنطقة العربية والشرق الأوسط بشكل عام. وأظن أنه لا توجد مبالغة كبيرة في الاعتقاد السائد بأن أزمة سوريا سوف تتفاقم وتهدد ما تبقى من استقرار في أقاليم عربية أخرى، إذا لم تسرع الأطراف السورية والمجتمع الدولي بالعمل معاً لوقف التدهور. لا شك في أن جانباً من هذه الأزمة يعود إلى حقيقة أن سوريا جزء لا يتجزأ من حالة ثورية عامة في العالم العربي، ولا شك، أيضاً، في أن جانباً آخر يعود إلى أن العالم يشهد تحولات جوهرية تدفع بدورها الدول الكبرى لتكون أشد حرصاً وحكمة في التعامل مع أزمات من هذا النوع.
أجازف باقتراح سببين رئيسين يفسران هذه الحالة الدولية المضطربة، أولهما الأزمة الاقتصادية العالمية التي انطلقت من الولايات المتحدة في العام ،2007 عام الحملة الانتخابية التي جاءت بباراك أوباما إلى قمة السلطة في واشنطن واندفعت في شكل ريح قوية تهز قواعد وأسس منطقة اليورو، وتهدد استقرار ومعدلات النمو في اقتصادات أخرى في العالم.
كان الظن، وإن لم أكن من المتحمسين له، أن الأزمة لن تتجاوز تأثيراتها مزيداً من التدهور في الاقتصاد الأمريكي وانتهاء بحالة ركود مرّ بمثيلتها من قبل وخرج منها أقوى مما كان. بمعنى آخر، كان الظن أن الأزمة ليست أكثر من تطور عابر يستطيع النظام الاقتصادي العالمي تداركه وتجاوزه من دون أخطار جسيمة. لم يتصور المسؤولون في هذا النظام الاقتصادي العالمي، وبينهم عدد من كبار المسؤولين في المؤسسات الاقتصادية والمالية والدولية، أن هذه الأزمة قد تحمل في طيات انطلاقها وتطورها مكونات تسمح لها بأن تصبح في حد ذاتها “قوة تحول” في مسيرة الاقتصاد العالمي وليس ظاهرة طارئة أو عابرة فقط، ولن تكون بالتأكيد قاصرة على دول منطقة اليورو والولايات المتحدة.
كنت قرأت أخيراً، بعض الأرقام التي يمر عليها الإعلام الأمريكي مرور الكرام فلا يتوقف عندها، وبخاصة في الشهور الأخيرة. توضح هذه الأرقام أن الاقتصاد الأمريكي ليس أفضل حالاً أو أقل سوءاً من الحالة في عدد من الدول الأوروبية المهددة بإعلان إفلاسها. جاء في الأرقام أن عجز الموازنة الأمريكية صار يمثل 6.8% من الناتج القومي، بينما هو في اليونان، الدولة الأكثر قابلية للسقوط، لا يتجاوز 1.9%، وأن الدين القومي الأمريكي تجاوز نسبة مئة وثلاث في المئة من الناتج القومي أي بنسبة الضعف، وهي نسبة تقل قليلاً عن البرتغال التي طلبت في العام الماضي إنقاذها من الإفلاس، وتزيد عن إسبانيا 58% وهي الدولة التي طلبت عند نهاية الأسبوع إنقاذها. وبالتأكيد هي حالة ليست بعيدة جداً عن حالة الدين الإيطالي وحجمه 9.1 تريليون يورو. وتنبئ الأخبار الواردة من هناك بأن الحالة الإيطالية تعصى على التحسن رغم وجود حكومة تكنوقراط. يتردد أن هذه الحكومة توشك أن تعلن عجزها واستعدادها للتخلي عن المسؤولية.
كان الظن أيضاً، أنه طالما ظل الاقتصاد الصيني قوياً، فإن الخوف على الاقتصاد الرأسمالي العالمي غير مبرر، لأن “الآلة” الصينية قادرة ولسنوات طويلة قادمة، على تشغيل الاقتصاد العالمي وتعويض خسائره ومساعدته بإقراض الدول العاجزة أو إنقاذها. لم يدر في حسبان الكثيرين أن الاقتصاد الصيني المستفيد من العولمة والمندمج فيها بكل طاقته معرض للإصابة بأمراضها. لذلك لم يعد الغرب يخفي قلقه بعد أن بدأت تظهر على الاقتصاد الصيني بوادر انكماش داخلي وتضخم في الميل للاستهلاك وتراجع في القدرة التصديرية.
السبب الثاني الذي أحمّله جانباً من مسؤولية الاضطراب في السياسة الدولية هو هذا التصعيد المتعمد والمبالغ فيه في النشاط العسكري لعدد من الدول الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة وروسيا والصين. أعود إلى التذكير بأن العقل السياسي الغربي ليس غافلاً عن واقعة تاريخية تتصل بحالات الكساد، وهي أن حرباً عالمية مدمرة نشبت بسبب، أو في أعقاب أو في ظل، أزمة اقتصادية عالمية انطلقت في الثلاثينات من القرن الماضي من الولايات المتحدة وعبرت الأطلنطي إلى أوروبا، وهناك اندلعت الحرب العالمية الثانية.
ازداد مؤخراً عدد المحللين السياسيين الذين يربطون بين الأزمة الراهنة، وهي ليست أضيق اتساعاً أو أقل خطورة من أزمة القرن الماضي، وبين عودة المجمعات الصناعية العسكرية في كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين إلى تشغيل طاقتها كاملة، بحجة الاستعداد لمواجهة أوضاع استراتيجية استجدت في شرق آسيا والمحيط الهادي. بمعنى آخر، تتجدد عملية صنع “عدو جديد” بعد أن تم إخضاع “الإرهاب الإسلامي” والقضاء على مصادره ونقل عملياته إلى أقاليم يمكن السيطرة عليها من دون اللجوء إلى حشد حلف دولي في حرب عالمية ضد الإرهاب، كما فعل الرئيس بوش. هل يقف وراء حشد الموارد لأغراض الاستعداد لحرب حقيقية أو وهمية هدف إنعاش الاقتصاد عن طريق زيادة الإنفاق على التسلح؟
***
المثير للانتباه أن تتصادف مع هذا التصعيد ثلاث حملات دبلوماسية وإعلامية هائلة. هذه الحملات هي أولاً: حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، خاصة أنصار أوباما لإعادة تقديمه إلى الناخب الأمريكي في صورة “رئيس مقاتل وصعب المراس”.
ثانياً: حملة الترويج لفكرة انتقال مركز الاهتمام الدولي من أوروبا إلى المحيط الهادي وشرق آسيا، بما يتبع هذا الانتقال من تحول جذري في استراتيجيات الحرب والأسلحة المبتكرة وإجبار الصين وروسيا على الدخول في سباق باهظ التكلفة في مجال صناعة الأسلحة وتطوير تكنولوجيا دفاعية متقدمة. وقد أجريت أخيراً تجربة نموذج منها ضد حواسيب المعامل النووية الإيرانية، وأعتقد أنها أزعجت كثيرين من صانعي السياسة في دول عدة. قد يكون من الضروري لفهم أبعاد هذا السباق دراسة الخطط الأمريكية المطروحة الآن بالقوة نفسها التي طرحت بها خطة حرب النجوم في عهد الرئيس ريغان. من بين هذه الخطط، أو ربما تتصدرها، خطة يطلقون عليها “معركة جو - بحر”، وهي خطة تهدف إلى السيطرة على الساحة الباسيفيكية وشرق آسيا، وقد اقتبستها وزارة الدفاع الأمريكية من لعبة الأتاري الشهيرة بالاسم نفسه في الثمانينات من القرن الماضي.
ثالثاً: حملة سياسية ودبلوماسية واسعة هدفها الرئيس الإعداد لخروج سلمي وهادئ للقوات الأمريكية وما تبقى من قوات الحلف الأطلسي الموجودة في أفغانستان. تهدف أيضاً إلى تمهيد الساحة لتحقيق درجة من الاستقرار الإقليمي وترتيب توازن قوى جديد في منطقة وسط آسيا. المهم في هذا التوازن أن يضمن لحلفاء أمريكا نفوذاً أقوى ويحقق الأمن للمصالح الاقتصادية للولايات المتحدة في أفغانستان.
هذه التطورات وغيرها في الساحة الدولية، تستحق اهتماماً خاصاً وتركيزاً مناسباً من جانب الدبلوماسيات العربية وعلماء السياسة لما تؤذن به من عواقب وآثار مباشرة على الأمن والسلم في منطقة الشرق الأوسط.

بين التسلطّية العسكرية و الإخوانية

سليمان تقي الدين
خرجت جموع من الشعب المصري إلى الشارع احتجاجاً على الأحكام القضائية التي صدرت بحق الرئيس المخلوع ونجليه وبعض أعوانه. رأى المحتجون أن الأحكام جنائية شخصية قاصرة عن محاكمة النظام. في تلك الرمزية بدا أن النظام يقاوم التغيير ما أعطى أحد أركانه فرصة أن يكون مرشحاً منافساً للرئاسة وربما الأوفر حظاً فيها. سرت موجة من الغضب لأن المؤسسة العسكرية لم تطبق “قانون عزل الفلول” على رئيس الحكومة الأسبق. تقوم المؤسسة العسكرية بضبط حركة الثورة من توقيت قانون الانتخاب، إلى شكله، إلى لجنة الطعون والهيئة التأسيسية الدستورية.
خطف الإسلاميون رصيد الثورة الشعبي في الانتخابات النيابية، وخطف المجلس العسكري الانتخابات الرئاسية. وأصبح الشعب المصري بين خيارين أحلاهما مرّ. توطيد سلطة الإسلاميين الشمولية أو إحياء النظام بعصب المؤسسة العسكرية ونفوذها. يكاد التنافس هذا يستعيد مخاطر المشهد الجزائري في تسعينات القرن الماضي بين الدكتاتورية المدنية والشمولية الإسلاموية.
كانت ثورة 25 يناير ديمقراطية سياسية تحمل مضامين اجتماعية وطنية. أسقطت السلطة ولم تفكك قوى النظام. أرست منسوباً متقدماً من الحريات والتعددية وتوازن السلطات، وقصّرت عن تكوين مرجعية للتغيير في مؤسسة دستورية. ربما استدرجت الثورة إلى معركة السلطة والانتخابات قبل تكوين الهيئة الدستورية. الشرعية الدستورية يتنازعها المجلس العسكري والبرلمان، النظام والإسلاميون. أما شرعية الثورة فقد انقسمت على ذاتها. إذا اتفق العسكر والإسلاميون وقع الانقلاب على مكتسبات الثورة، وإذا تصارعا تعرضت مصر لخطر نزاع أهلي يهدد الدولة. لم يستجب طرف السلطة الفعلية لمطلب “المجلس الرئاسي المدني الانتقالي”. يحتفظ المجلس العسكري ويهدد بإصدار الميثاق الدستوري منفرداً، وتهدد الأكثرية البرلمانية بسلطتها في التشريع.
أفرج المجلس العسكري عن قرار تشكيل الهيئة الدستورية. هنا المعركة الأساس التي استأخرها وضع العربة أمام الحصان.
شكلت محاكمة رموز النظام صدمة حقيقية. لا الإرث القانوني يسمح بمحاكمة سياسية شاملة، ولا التوازن السياسي يسمح باستئناف هذه المحاكمة. نصف الثورة هذا يفتح المواجهة ليس على توزيع السلطة فقط، بل على ركائز النظام.
ثلاث قوى تتنازع مستقبل مصر أظهرتها الانتخابات الرئاسية متقاربة. أكدت النتائج أن الإسلاميين لا يمثلون أكثر من ثلث الكتلة الناخبة في الاختيار السياسي على المستوى الوطني. رغم ذلك لديهم ميول استئثارية واضحة فلم يشاركوا قوى الثورة الأخرى ولم يتعاونوا على مرشح يسد الطريق أمام “فلول النظام”. ليس هذا المأخذ الوحيد ضدهم. فقد حاولوا الهيمنة على لجنة صياغة الدستور. سرّعوا بإجراء الانتخابات رغم تحفظات الآخرين قبل أن تتمكن الثورة من فرض إصلاحات دستورية حقيقية. فما زال النظام الرئاسي هو القائم رغم الأكثرية البرلمانية التي استأثروا بها. إذا كان ذلك يعطي مرشح النظام والمؤسسة العسكرية حججاً دامغة للطعن في مصداقيتهم السياسية وتنكرهم لوعودهم، فضلاً عن شرعية القلق من نزوعهم إلى المسّ بالحريات العامة وبالإرث المدني لمصر، فإن ذلك لا يعني أن هذه الحصيلة السياسية لم تكن نتيجة لتواطؤ معروف بين المؤسسة العسكرية وبينهم. هم الآن يهادنون النظام ولو كانوا في منافسة مع مرشحه الرئاسي. لم يسهموا في تحويل محاكمة رموز العهد السابق إلى محاكمة سياسية للنظام. بل يمكن القول إنهم خارج معركة هذه المساءلة والمحاسبة، فهم لا يقاومون النهج الاقتصادي والاجتماعي ولا يتصدون لفتح ملف السياسة الخارجية لمصر وخياراتها في الدفاع عن أمنها القومي. في مكان ما يؤدون وظيفة تجديد النظام وتعزيزه بقاعدة شعبية بعد انهيار شرعيته ويتناغمون مع المؤسسة العسكرية والإدارة الغربية الأمريكية، خصوصاً في احتواء الثورة وتحجيم مفاعيلها. القيادة السياسية للإسلاميين تتحول بسرعة إلى جناح من أجنحة النظام، لكن جمهورها ليس كذلك. أظهرت الوقائع الأخيرة انحسار الموجة الشعبية التي حظوا بها في الانتخابات التشريعية. يتزايد الحذر والتحفظ على خطابهم السياسي وممارساتهم. المشكلات التي تراكمت بعد الثورة تضغط باتجاه أمرين، إما تعميق مسار التحول السياسي وإما المخرج “البونابارتي-النابوليوني” الذي يدعيه لنفسه المجلس العسكري.
لا ندري ما إذا كان ممكناً الآن إخراج الثورة من هذه الأزمة، بالعودة إلى الصراع على مضمون الدستور وهيكلة النظام وتوزيع السلطات وتوازنها. حتى هذه اللحظة لم تدخل الثورة في مواجهة هذه التحديات الأساسية.
مهما تكن نتائج الانتخابات الرئاسية إذا حصلت وتكاد تكون محصورة بين الجناحين المدني والعسكري من النظام، فإن المواجهة بدأت مجدداً في الشارع. هذه المرة على قوى التغيير أن تعالج مشكلاتها التنظيمية والبرنامجية انطلاقاً من رصيدها الوطني الذي برز في الانتخابات الرئاسية. تحتاج قوى التغيير إلى حركة فرز وضم في المعركة المقبلة. عليها أن تستقبل المزيد من جمهور الحركات الإسلامية حول البرنامج الإصلاحي الاجتماعي والسياسي، والمزيد من الجمهور المدني الديمقراطي الذي يقلقه ويخيفه تجديد النظام بأدوات عسكرية أو مدنية، كلاهما يصادر شعارات الثورة وطموحات الناس ولا يقدم بديلاً لأزمة عميقة وشاملة.
أفرج المجلس العسكري عن قرار تشكيل الهيئة الدستورية لكنه بذلك احتفظ لنفسه بالقدرة على إدارة الحوار والنتائج، خاصة إذا فاز مرشحه في معركة الرئاسة.