Saturday, June 16, 2012

هل نعي ما نقول دولة مدنية.. مرجعيتها

محمد المرباطي
عندما نعي ما نقول سنعيد انتاج الثقافة والفكر ونُقَوم السياسة، والكلمة لا ينبغي لنا أن نقولها على إطلاقها، فذلك من الأخطاء الشائعة على ألسنتنا، فنحن لا نعي في كثير من الإحيان ما نقول، والطريقة الصحيحة لدراسة المصطلح ان نبدأ بتقديم عام تمهيدًا للمدخل بحيث نكون على بينة بالأفكار الأساسية للمصطلحات بهدف تسهيل فهم خصائصها ومصادرها، ووفق هذا المنهج سأتحدث عن الدولة وصفتها المدنية «الدولة المدنية»، ثم نأتي بمصطلح آخر عندما نقول «ذات المرجعية الدينية»، لذا علينا التوقف عند عبارة «دولة مدنية ذات مرجعية دينية» المتداولة لدى جميع الأوساط العربية، وصارت جزءا من ادبيات ما يسمى بالربيع العربية، واصبحت مثار جدل واجتهادات لا حصر لها بين مختلف شرائح المجتمع العربي، ولكي نعي ما نقول سوف نجزئ العبارة ونعيدها لجذورها العربية ومن ثم لمصادرها الغربية، ولهذا سوف نبدأ بتعريف الدولة، ومن ثم صفتها المدنية، بعدها سنأخذ بالجزئية المضافة «ومرجعيتها الدينية»، وهنا لا اخص دين بذاته وانما اعني الدولة الدينية اياً كان هذا الدين او المذهب او العقيدة. مفهوم الدولة عند العرب: لم تعطِ اللغة العربية معنى للدولة حسب الاصطلاح المتداول، وقد اختلفوا في معنى الدولة، وقالوا الدولة بفتح الدال تختلف في المعنى عند ضمها، وقد جاءت الكلمة في سورة الحشر الآية 7 «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» ولكن المفسرين العرب اختلفوا في معنى الدولة، وقالوا في حال رفع الدال تأخذ الدولة بمعنى المُلك وتبدل الدهر والسنين، وإذا فتحت الدولة تعود لهزيمة وانتصار الجيش بمعنى هزيمة الهازم، وقد اخذ معنى الدولة في اللغة العربية للدلالة على عدة معانٍ اخرى، حيث نجد في تفسير الشيخ طنطاوي جوهري ( 1870 - 1940م ) في كتابـه «الجواهر في تفسير القرآن» أن معنى الدولة: «بأن تُدالَ إحدى الفئتين على الأخرى في الحرب»، والدولة بالضم تقال في المال، وتعني التداول وجمعها دولٌ ودولاتٌ، وقال أبو عمرو عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري، إمام النحو وعالم من اعلام اللغة في تفسيره للدولة انها تجمع: بين الحرب والمال، ويقول الكسائي «أبو الحسن علي بن حمزة بن عبدالله بن بهمن بن فيروز الكسائي» صاحب القراءة السابعة للقرآن الكريم ان مفهوم الدولة في تداول المال «المال يتدواله القوم بينهم، وفي الحرب تدال بين الهازم والمهزوم» وقال الصحابي ابو عبيدة بن الجـــراح ان «الدولة بالضم: اسم الشيء الذي يتداول به بعينه، والدولة بالفتح: الفعل» وقال سيبويه في تعريفه للدولة: «دالَتِ الأيام، أي دارت الأيام» ويقولون دواليك في المداولة، ويقول ابن منظور في لسان العرب ان : «الدولة الانتقال من حال الشدة إلى الرخاء»، ولكي لا نطيل الحديث عن تفسير معنى الدولة عند العرب نكتفي بحديث أبي سُفيان بن حرب: لهرقل عظيم الروم عندما سأله عن الحرب بينه وبين النبي محمد انه قال: «الحرب بيننا سجالٌ إنا نُدال عليه مرة ويدال علينا أخرى» وهذا في معنى الدولة للدلالة على على النصــــر والهزيمــة «إنـــا نـــدال عليه، ننتصر عليه، ويدال علينا أي ينتصر علينا» «شرح الصحيحين لمسلم والبخاري» وابن بري صاحب «الدرر اللوامع». يتضح مما سبق أن الدولة عند العرب ليست كلمة دالة كاصطلاح فلسفي وسياسي كما عَرَفَها فلاسفة اليونان والأغريق، ولا تخرج عن المعنى البسيط للتداول والغلبة بمعنى الإدالة، وفي هذا الصدد يقول الحجاج: «إن الأرض ستُدال منا كما أدلنا منها» بمعنى ان نكون في بطنها كما كنا على ظهرها. نستنتج مما سبق ان الدولة كمصطلح لم يأخذ ابعاده السياسية في التراث الإسلامي، لذا كانت اللغة العربية تخلو من كلمات مرادفة للدولة في الاصطلاح السياسي، مثل رئيس الدولة او ما يشير لمؤسساتها وطبيعتها، وقد اخذ المسلمون بمصطلحات اخرى كإشارة لطبيعة الحكم، مثل الخلافة والإمامة، وللدلالة على نظام الحكم استخدموا مصطلحات الخلافة والإمامة والولاية، وفي اشارة للهيئات السياسية فقد استخدموا الأمصار والألوية ومسميات الدار مثل «دار السلام ودار الحرب ودار الحكمة»، وقد تمكن ابن خلدون من تطوير مفهوم الدولة في الفكر العربي الإسلامي من خلال طرحه للأبعاد الاجتماعية والسياسية لمفهوم الدولة، ولكنه اخذ بمبدأ العصبية في استمرار او انهيار الدولة.
الدولة عند الأغريق واليونان: لقد صنف فلاسفة الأغريق الدولة الى صنفين: الدولة الفعلية القائمة والدولة المثالية، وتحدث أرسطو «384 - 322 ق م» في كتاب السياسة عن الدولة القائمة فعلاً وأسباب انهيارها، وكيف تحقق استقرارها، وعند حديثة عن الدولة المثالية يضعها في اطار القانون «الدولة القانونية»، ويقول أن القانون هو السيد الأعلى، وليس أي شخص كائناً من كان، وفي تحديده للعلاقة بين الحاكم والمحكوم يرفض مبدأ الخضوع، ويقول ان ذلك يتعارض مع احتفاظ كل من الطرفين بحريته، وعلى ذلك فهي تقتضي قدراً من المساواة بينهما، على الرغم مما يمكن أن يكون بينهما من فوارق، ويصنف القانون بأنه العقل المجرد عن الهوى، ويقول على الحكومة ان تستشير الفضلاء من مواطنيها، ثم يصنف الحكم الدستوري على أساس الصالح العام «المصالح العامة»، ووفق هذا المبدأ يؤكد ضرورة ان تدار الحكومة بمقتضى قوانين تنظيمية عامة وليس تبعاً للأهواء الشخصية، وان يكون التعليم القوة المساعدة على تكوين الرعايا الفاضلين، ويحدد غايات الدولة في سيادة القانون، وتحقيق المثل العليا، والحرية، والمساواة، وتقدم الإنسان، وعند تصنيفه للحكومات يجد افضلها الحكومة الدستورية لأسباب انها تجمع بين الديمقراطية والأرستقراطية. لقد كانت آراء افلاطون في كتابه «الجمهورية» تختلف عن تلميذه ارسطو، فقد هاجم ديمقراطية أثينا، معللاً ذلك بأسباب جهل السياسيين وما تميزوا به من أنانية تؤدي إلى إعلاء مصلحة فئة من الفئات على مصلحة الدولة نفسها، كما انتقد صراعاتهم الحزبية، وأرجع عدم استقرار الأنظمة السياسية المدنية إلى تضارب المصالح الاقتصادية بين فئتين، فئة تملك الثروة والسلطة وفئة لا تملك، ونتيجة لهذه الأفكار اخذ ينادي بضرورة إلغاء نظام الملكية الفردية، وأن يكون تعليم المواطنين موجهاً نحو تقديم الصالح العام، وقال ان ذلك لا يقل أهمية عن تثقيف الحكام أنفسهم، وكانت خلاصة افكاره في تخيله للمدينة الفاضلة التي حددها في اثني عشر بندا اهمها وحدة افرادها، والحاجة الإنسانية للدولة كتنظيم اجتماعي سياسي، وتأكيد الرغبة في العمل كقوة غريزية عند الإنسان، وقوة المنطق التي يمثلها الفلاسفة والحكماء، والأخوة كأساس للروابط بين الأفراد، ووضع اساس نظري للتعليم يشمل الفئات العمرية والتخصصات العلمية والعملية من خلال وظيفة الفرد داخل محيطه الإجتماعي، مؤكدا على ضرورة المساواة بين الجنسين، وحرم الملكية للحراس والجنود، كما وجد اهمية في المعرفة للحاكم لكي يستطيع أن يفهم اسباب تفعيل الشر أو الخير. مفهوم الدولة المعاصرة: تتفق مراجع القانون الدستوري في تعريف الدولة على توافر ثلاثة شروط هي الشعب، والأرض «الأقليم» والسلطة، وقد تبلورت الدولة الحديثة منذ مطلع القرن السادس عشر كرد فعل ضد دولة الأقليات الأرستقراطية المدعومة من الكنيسة، التي تميزت بالاستبداد في الحكم، وقد توسع مفهوم الدولة الحديثة منذ قيام الثورة الفرنسية «1789»، وغلب عليها الطابع الديمقراطي كعلامة فارقة بينها وبين الدولة الاستبداية، ولكنّ الدولة المدنية الحديثة لم تكتمل إلا بعد صراع طويل من اجل المساواة في الحقوق المدنية والسياسية، ونصيب عــــادل مــن الثــــروة، والملفت ان افلاطون كان يميز بين نوعين من البشر في هذه الحقوق عندما فرق بين الفرد الطبيعي المدفوع بحاجاته واهوائه ورغباته، وبين المواطن الذي يضع المصلحة العامة فوق مصالحه الخاصة، ويكون مدفوعا بقيم الخير والحق، وهي حقيقة لا نزال نبني عليها الوطنية وفضائلها السياسية كأساس تقوم عليه المصالح العامة، إذ لا وجود لصفة الوطنية مالم تكن مستمدة من المصالح الوطنية العامة، التي تقوم على علاقة الفرد بالوطن والدولة، وهي الحقيقة التي ألهمت فلاسفةَ عصر الأنوار الذين حرروا الدولة من سطوة الكنيسة ورجال الدين والإمتيازات الخاصة، واعتبروا الدولة مؤسسة سياسية عامة فوق الأفراد، الذين هم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وميزوا الدولة عن السلطة بسيادتها على جميع السلطات الأخرى، من واقع ان الإنسان هو أساس الدولة وليس موضوعها، وعليه وجدوا بأن السيادة هي القدرة الدائمة على البقاء الطبيعي في شكلها الاجتماعي، فدوام السيادة مرهون بدوام الشعب صاحب السيادة ومصدرها، وهي الحقيقة التي قادت فلاسفة الأنوار لمفهوم علمانية الدولة وسيادتها باعتبارها نتاج العقل البشري بعيدا عن المثل العليا او التفويض الإلهي من واقع ان السيد هو من لا يستمد سيادته من الغير.
الدولة في الفكر الفرنسي المعاصر: يقول (الفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو 1689 - 1755): الدولة اما ان تكون ديمقراطية أو أرستقراطية أو استبدادية، ويضيف بأن فساد الحكومات يبدأ بفساد المبادئ، ثم يؤكد ان مبدأ الدولة الديمقراطية التي تتجلى في المواطنة هي التي تحقق الحرية والمشاركة الفعلية في الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية، والمساواة في الحقوق المدنية والسياسية، وتكافوء الفرص. يمكننا القول على ضوء ما تقدم أن الدولة مفهوم مركب يدل على نظام الحكم، والسلطة المستمدة من الشعب بطريق الانتخاب، والتي تمارسها مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية، وعلى هذه الدلالة تأسس المعنى الاصطلاحي للدولة المدنية. الدولة المدنية: المدنية كلمة لا معنى لها في معاجم اللغة العربية، فهي مشتقة من المدينة وجذرها المدن، فالأساس هي مدن ومنها اشتقاق مدينة كمفهوم اجتماعي للدلالة على وضع حضري لجماعات سكانية تتميز عن المستوطنة بكثافتها السكانية التي يفترض ان لا تكون اقل من الفين نسمة في الكيلو متر المربع، اضافة للإنظمة الإدارية التي تقوم عليها حكومة المدينة، وهي من الشروط التي تميز المدينة عن القرية او البلدة والمستوطنة التي تقوم في الغالب على انظمة اجتماعية وعشارية، وحديثاً لجان شعبية تقوم على التفاهم والإتفاق بين السكان، وللمدينة مراكزها التجارية والإدارية، ودائماً ما نجد علامات مرورية او ادارية تشير الى مركز المدينة وغالباً ما تكون وسط المدينة، ونلاحظ عبر الحقب التاريخية (دولة مدينة) والفاتيكان هي دولة المدينة المعترف بها في الأمم المتحدة. عندما نوجزء كلمة المدنية، نقف على جذرها) مدن (والياء للنسب كأن نقول) مدن/ي (و) بحرين/ ي ( ) وسعود/ ي (و)عراق/ ي (فالياء للنسب ولايجوز مدها، اما التاء المربوطة فهي للتأنيث. المدينة تعني في معجم اللغة العربية الحضارة، والمدني عكسه البدوي، هي للدلالة على التقدم والرقي الحضري) الحضارة (التي يقابلها البداوة كصفة لسكان البوادي، ونستدل من كلمة الحضارة الاستقرار، كونها مشتقة من كلمة حضر، فهو موجود ومستقر وحاضر في المكان، ولم يعد يترحل، كونه غادر حياة الترحال وفضل الاستقرار، ولذا يمكننا القول ان الاستقرار في المكان شرط من شروط المدنية) الحضارة (، كذلك نقول) حـــاضـــرة (بصيغة المـــؤنث الفاعــــل، وجمعها) حواضر (كأن نقول بغداد حاضرة الدولة العباسية ودمشق حاضرة الدولة الأموية والمعنى ان دمشق وبغداد عاصمتان للدولة الأموية والعباسية، ونستدل من هذا أن الحاضرة تعني العاصمة، وقد ترمز للمدن الكبيرة ايضاً، وفي العموم فإن الحضارة عند العرب تعني عكس البداوة، والحضر) المدن (عكس البوادي، وللدلالة على الرقي يصف ابن خلدون البداوة بالتوحش ويقـــول:» هم بالنسبة للحضـــــر بمقـــــام الوحـــش غــــير المقـــدور عليــــه، ويقول:الانسان مدني بالطبع ولا بد له من الاجتماع ويعني بالإجتماع المدنية (( ، وقد يكون هذا سَبَبٌ لربط العرب بين صفتي الحضري والحضاري، فالحضاري هو الإنسان غير المتوحش او حسب الإصطلاح الحديث الإنسان غير المتخلف ويقابلها الإنسان المتقدم كأن نقــــول الشعوب المتقدمــة والشعوب المتخلفــــة، وفي إصطلاح مماثل نقول الإنسان التقدمي والرجعي كإشارة للتقدم والتخلف، وفي تعريف ابن خلدون للحضارة والدولة لا يشمل الدين والعقائد التي على أساسها تقوم الدولة. الحضارة (civilization) تعني المدينة والتمدن والمدنية، والمنســــوب إليهــا المدنــي، وعليه فإن ما ينسب للمدن او المدينة يكون (مـــدني – مـــدن/ي ) وعليــه نقــول: (مؤسسات/ المجتمع/ المدني/ ) ونبي قولنا انها مؤسسة/ لمجتمع/ المدينة/ بمعنى المجتمع المتمدن (المتحضر) بخلاف مجتمع البدوي او القبيلة او الطائفة كشرط لشمول الفرد بحقوق المواطنه على إعتباره عضوا في مجتمع المدينة له حقوقه المدنية والسياسية وغيرها بمـــوجــب (عقد) اجتماعي (الدستور). العقد الاجتماعي: العقد الاجتماعي يعود لفترة الرومان قبل اكثر من الفي عام، وقد تحدث افلاطون وارسطو عن العقد الإجتماعي، وفي الإصطلاح الحديث هو الدستور الذي يرسم ويحدد المبادئ العامة التي تحكم علاقة الأفراد بعضهم ببعض في نطاق الدولة ككيان سياسي للمواطنين، وفي هذا الصدد نلاحظ صفة المدني قد شملت مجالات واسعة في الحياة العامة، فنحن نقول على سبيل المثال القانون المدني، والقضــــــاء المدني، والدفــــــاع المدنـــي، والزواج المدنـــي، والمسؤولية المدنية، الحريَّات والحقوق المدنية، وهي دلالة على المجتمع المدني.
الدولة المدنية في التراث الإنساني: عرفت البشرية الحكم المدني قبل حوالي «2500» عام، بموجب معاهـــدة الجبـــل المقــدس «شمالي اليونان» التي نصت على قيام «برلمان» ومدونة قانونية شملت الألواح الأثني عشر كأول مدونة قانونية رومانية، ولا تزال حاضرة، كجزء من القانون الروماني الذي حدد نوع الحقوق المدنية، فبموجب هذه المدونة صار بمقدور عامة الناس الزواج من أي مستوى طبقي او اجتماعي، واصبح بإمكانهم تقلد المناصب العليا في الدولة، وقد تطور هذا الوضع القانوني من خلال إعلان دستور الدولة المدنية، الذي بموجبه تم تصنيف وظائف الدولة وآليات انتخاب موظفيها واعضائها، منها البلدية والقضاء والوظائف الحكومية، كما تم تحديد وظيفة الدكتاتور – الدكتاتور كانت ظاهرة تاريخية ايجابية، وكان الدكتاتور ينتخب في الحالات الإستثنائية لدرء الخطر عن الوطن، حيث تتكثف جميع السلطات في الدكتاتور بإرادة شعبية - . لقد تناولنا بالبحث مفهوم الدولة وتطورها في الإصطلاح السياسي والحقوقي، ثم اخذنا بصفتها المدنية وخلفياتها التاريخية واسبابها الموضوعية، وقد تأكد لنا ان الدولة المدنية لم يعرفها التاريخ العربي إلا حديثا، فنحن امام اشكالية اصرار البعض، ودون وعي عند محاولة الصاق الصفة المدنية لمراحل تطور الدولة العربية الإسلامية، التي لم تؤسس على عقود «دساتير اجتماعية» حسب المفهوم المعاصر، وإنما على تراتبية الحكم المطلق، إضافة إلى ان الدولة المدنية مصطلح غربي قديم يعود لمراحل الدولة الرومانية، كما سبق الإشارة، والدولة المدنية يحكمها مدنيين لا مكان فيها لرجال الدين او العسكريين، وفي إطار التنظيم المدني للمجتمع تقوم الدولة المدنية على منظومة القوانين والنظم العلمانية، كحصيلة لتطور مسارات المجتماعات الأوربية من خلال تأسيس الدولة العلمانية المتميزة عن النظم القبلية او دول الطوائف الدينية والنظم العسكرية المستبدة التي عرفها التاريخ العربي الإسلامي، وعلى هذا الأساس فمن الخطأ القول «دولة مدنية بمرجعة دينية» لأن الدولة المدنية تقوم على مبدأ الفصل بين الدين والدولة، بمعنى عدم تدخل رجال الدين في السياسة، وإلا اصبحنا امام دولة علمانية بمرجعية دينية. إن شرط الدولة المدنية قيام انظمة الحكم الديمقراطية، فالدولة الديمقراطية بالضرورة دولة مدنية علمانية بمرتكزاتها الثلاثة: اولاً علمانية الدولة، ثانياً مبدأ وطنية الدولة، ثالثاً الديمقراطية كسمة مميزة للدولة المدنية، وعلى هذه الأسس الثلاثة تقوم الدولة المدنية وقوامها المواطنة المتساوية بعيدا عن الانتماء الديني او العرقي او غيره، والمواطنة تحددها جنسية الدولة المدنية، فطالما الفرد يحمل جنسيتها يكون متساوياً في الحقوق والوجبات، بينما يقـوم نظام الحكم الإسلامي على العقيدة الإسلامية، والأحكام الشرعية كمصدر للسيادة، ويقضي الخليفة أحكامه من كتاب الله وسنة رسوله، ولا تملك الأمة حق عزل الخليفة، ونظام الخـلافة لا يقوم على مؤسسات بالمعنى المتعارف عليه في النظم الديمقراطية، فالخليفة في الدولة الأموية والعباسية وما تلاها هو الحاكم المطلق في تعيين وعزل وزرائه ومعاونيه، فهم مجرد مفوضين لا يملكون من السلطة شيئا يذكر، فقد انعقد الاجماع على وحدة الخلافة التي تقوم على البيعة شرعاً لمن بُويع أولاً بيعة صحيحة، وإذا بويع لخليفة آخر قوتل الثاني، حتى يبايع للأول أو يقتل، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخِرَ مِنْهُمَا» كما وجبت الطاعة، وفي حديث أخرجه مسلم في «صحيحه» عن أبي سلام قال: قال حذيفة بن اليمان – رضي الله عنهما – قال: «قلت: يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال نعم، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال نعم، قلت فهل وراء الخير شر؟ قال: نعم، قلت: كيف؟ قال يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع» رواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي والألباني، وفي هذا الصدد يقول الشيخ عثمان الخميس «ابوعمر» في موقع مسجل ان منهج اهل السنة والجماعة: «السمع والطاعة للحاكم ولو كان فاجرا ولو كان فاسقاً»، وَذُكر عن الأمام الطوسي في وجوب الطاعة انه قال: «... لا يجوز إيجاب طاعة أحد مطلقا إلا من كان معصوما مأمونا منه السهو والغلط وليس ذلك بحاصل في الأمراء ولا العلماء وإنما هو واجب في الأئمة الذين دلت الأدلة على عصمتهم وطهارتهم»، وفي هذا الشأن تحدث آية الله أحمد جنتي بتاريخ 7ا /12/2010م خلال مؤتمر في مدينة شيراز جنوب إيران بأن: «معارضة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي ترقى إلى مرتبة إنكار الله» وقد نقلت وكالة فارس ومهر للإنباء، إضاف للوكالات العالمية، وفي خطبة الجمعة اكد بأنه: «لا مكان للتسامح الإسلامي» لاحظ صحيفة الوقت البحرينية في عددها / 1440 السبت 15 صفر 1431 هـ - 30 يناير 2010، هذا بالإضافة الى ما استند اليه بعض شيوخ الأزهر، مثل الشيخ أحمد عبد السلام المحلاوي الذي أعلن بوضوح : ((أن من يطالبون بالدولة المدنية في مصر كفرة وعبدة الطاغوت»، كذلك نجد الدكتور عبدالله الصبيح يؤكد في مقال بعنوان: الدولة في الإسلام بين التبعية واستقلال التصور أن: «من وصف الدولة الإسلامية بأنها دولة مدنية وقع في خطأ لا يقل عن الخطأ الأول، ذلك أن الدولة المدنية الحديثة تنكر حق الله في التشريع، وتجعله حقا مختصا بالناس، وهذا بخلاف الدولة الإسلامية، بل إن هذا يخرجها عن كونها إسلامية ويسمى هذا النوع من الحكم في الإسلام بحكم الطاغوت». بالتوافق لما سبق يمكننا القول أن الدولة المدنية عند بعض الجماعات الإسلامية ومنهم الإخوان المسلمين، هي دولة مدنية ذات مرجعية دينية، وهي تخريجة غريبة لقول يسوق لدولة مدنية علمانية كافرة مرجعيتها دينية، وهي بدعة تنم عن مأزق كبير تحاول تلك الجماعات الخروج منه بطرق ملتوية بهدف مسايرة التطورات العالمية التي اجتاحت كل انماط الدولة الأخرى من شيوعية وقومية ودينية، وإذا قبلنا جدلا بمنطق الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية عندها سنكون امام حالتين الأولى دولة دينية بأحكام شرعية او دولة دينية بقوانين واحكام دستورية، عندها سنكون امام دولة مدنية علمانية، والصفة الدينية مجرد إضافة زائدة لا مكان لها في التشريع . أن الديمقراطية شرط من شروط الدولة المدنية، لأسباب ان الشعب يكون مصدرا للسلطات والتشريع والسيادة، بعكس المفهوم الديني للدولة حيث ينتفي دور الشعب كمرجع للتشريع والسيادة، فالقوانين والنصوص الدستورية في الدولة المدنية قابلة للتحول والتغيير، على خلاف الدولة الدينية التي لا تخضع تشريعاتها ولا يجوز ان تخضع لإرادة غير مراجعها ومصادرها، ولا تقبل في ظاهرها او باطنها التغير او الجدل باعتبارها نصوصا واحكاما شرعية ثابتة ومصادرها مقدسة، ولا تقبل الاجتهاد او التأويل إلا في إطار مرجعياتها الدينية، وفي هذا الصدد يقول احد مفكري الأخوان المسلمين: «أليس من الأمان للأوطان أن تطبق مدنية الدولة بالشكل العلماني « غير الكافر».. حتى لا نجد أن الصراع مستقبلاً يتحول إلى صراع ديني مذهبي بين هذه التيارات حول مفهوم الفئة الناجية التي لها حق الولاية على الأمة».