Tuesday, June 12, 2012

مرحلة الانتقال وروح الانتقام

مصطفى الفقي
يفزعني  مثل غيري  تلك الروح الانتقامية الوافدة على الشعب المصري في الفترة الأخيرة، ولست أشك في أنها رد فعلٍ متوقع للشحن الطويل من القهر السياسي والفساد الاقتصادي والتراجع الثقافي في العقود الأخيرة، ولكن الكثيرين يتساءلون حولنا: ماذا جرى لهذا الشعب الذي كان معروفاً بالتسامح وسعة الصدر، فما باله اليوم يفرز أحقاداً دفينة ويطرح غضباً عارماً ويمارس عنفاً غير مبرر في كثير من الأحيان؟ هل تغير المزاج المصري أو أن شيئاً ما طرأ على الشخصية الوطنية فدفع الانفعالات الانتقامية للسيطرة على هذه الفترة الانتقالية؟! ولست أدعو من خلال هذه الكلمات إلى نوعٍ من الصفح العفوي أو إسقاط الحقوق أو إهدار الدماء، بل إنني أقول صراحة إن كل شيء قابل للمناقشة إلا أرواح الشهداء، وإني إذ أدعو اليوم أبناء هذا الوطن الواحد إلى مراجعة سريعة للوضع الراهن واحتمالات المستقبل أمامه، فإنني أرصد وبكل أمانة الضباب الذي يغلف حياتنا والغيوم التي تحجب الرؤية أمامنا، والصخب الشديد الذي أصبح سمة لنا، وإذ أقول ذلك فإن عيني على تجارب سبقتنا وشعوب مرت بمثل ظروفنا واستطاعت أن تجتاز العوائق والصعاب بثبات وصبر ورحابة وطنية ورؤية شاملة، دعونا نطرح ما نريد أن نتحدث عنه من خلال النقاط الآتية:
أولاً: إن المصالحة الوطنية الشاملة لا تعني على الإطلاق نسيان الماضي أو إغلاق الملفات، ولكنها تعني بالدرجة الأولى إحداث عملية تعبئة شاملة تسمح لنا بالتحرك إلى الأمام من دون أن ننسى أهمية إلقاء نظرة إلى الوراء بين حين وآخر، إذ ليس المطلوب أبداً أن نعفو عن مستبد أو نتستّر على جريمة ولكن المطلوب بشدة أن نعلي المصلحة العليا للبلاد، ونعلو على الجراح، وننظر إلى المستقبل أكثر من نظرتنا إلى الماضي، وقد تكون تجربة دولة جنوب إفريقيا بقيادة مناضل العصر “نيلسون مانديلا” نموذجاً يستحق الدراسة والتأمل بعدما سقط النظام العنصري في تلك الدولة الإفريقية الكبيرة المتعددة الأصول والأعراق من أفارقة وأوروبيين وهنود وغيرهم، فما بالنا بشعب مصر المتجانس تاريخياً، المنصهر حضارياً، أليس جديراً به أن يمضي على طريق يسمح لهذا الوطن المنصهر تاريخياً، المتوحد ثقافياً، بأن يمضي على طريق يقترب من تلك التجربة الإنسانية الرائعة؟ وأعود فأكرر إن الدماء لا تقدّر بثمن كما أن الشهداء نجوم يُرصّعون تاريخ الوطن، ولكن قضايا النهب والسلب وسرقة الأموال تحتاج إلى مصالحة من نوع آخر ونظرة مختلفة عما نحن عليه، فالقضاء يأخذ مجراه، ولكن القافلة يجب أن تمضي في طريقها من دون توقف، ولا يخفى علينا أن كثيراً من قطاعات الدولة المصرية مصابة بنوع من الشلل الوقتي الذي يجب أن نواجهه في شجاعة وجسارة وإيمان. وقد يقول قائل إن ظروفنا تختلف، فقد كانت القضية في “جنوب إفريقيا” قضية ثقافية ذات بعد تاريخي، وعندما نبذ المجتمع هناك الأساليب العنصرية كان مستعداً بالضرورة إلى استلهام روح العصر والاتجاه نحو المستقبل بشكل مختلف. ولكنني أقول: لا يمكن أن نظل أسرى الماضي، وعبيداً للأحزان، بل يجب أن ننطلق جميعاً في سماحة ورضىً وراء من تأتي به صناديق الانتخاب ومن جاءت بهم الانتخابات البرلمانية أيضاً، ولكن عليه وعليهم، لم الشمل واستيعاب الواقع، لأن الوقت يمضي والوطن ينزف والموارد تتراجع والأزمات تطل علينا كل يوم!
ثانياً: إن الجدل الزاعق الذي يدور، والحوار الهابط الذي نستمع إليه، والتراشق بالاتهامات وتبادل السباب والنقد المتجاوز، كل هذه أمور تدعونا إلى تأمل ما يجري بعين موضوعية ترتفع فوق الآلام سعياً وراء تحقيق الآمال والأحلام، والمسألة ليست بهذه السهولة، فأنا أدرك كما يدرك الجميع، صعوبة تجاوز ما كنَّا عليه وما عشنا فيه، ولكن الأمر في النهاية يحتاج إلى شجاعة الصفح وشيوع روح المصالحة والقدرة على الفكاك من قبضة الماضي اللعين.
ثالثاً: إن حزب “الحرية والعدالة” ومن بعده “الأحزاب السلفية” مسؤولة بالدرجة الأولى عن تحريك الشعب وتعبئة قواه تجاه مسيرة مدروسة للإصلاح تشارك فيها كل القوى السياسية والخبرات الوطنية من دون تفرقة أو استبعاد أو إقصاء، وكفانا حزناً أن النظام السابق قام بتجريف “مصر” من أغلى مواردها البشرية وحصر نطاق حركته في إطار محدود على نحوٍ أدى إلى حرمان كفاءات متميزة من ممارسة دورها الفاعل على الساحة الوطنية والمسرح السياسي، لذلك يجب ألا تقع الأغلبية الجديدة في أخطاء الأغلبية السابقة وإلا فإننا نعيد إنتاج الماضي من حيث الشكل على الأقل.
رابعاً: إن سقوط “جدار الخوف” لا يعني انهيار القيم أو العبث بالتقاليد، أو إطاحة القانون، أو تجميد احترام الأكبر والأكثر خبرة، فالتواصل بين الأجيال هو آلية الحركة نحو المستقبل وصمام أمانها، وواهم من يتصور أن الإصلاح يبدأ من جيل معين أو تيار بذاته، فالكل شركاء في صناعة المستقبل وصياغة الحياة الجديدة لشعب عانى طويلاً وحان وقت دخوله بوابة العصر بشكل مدروس ومنطق حضاري يقوم على رؤية شاملة وإدارة واعية.
خامساً: علينا أن ننظر إلى الخطر المحدق بنا من كل اتجاه، والذي يلزمنا بقدر كبير من الحذر واليقظة خصوصاً على المستويين العسكري والاقتصادي، فدولة “إسرائيل” ترصد كل ما يدور في أروقة السياسة المصرية وتتابع عن كثب ما يجري على أرض أكبر دولة عربية هي رائدة المنطقة تاريخياً ومركزها جغرافياً، ولم يكن وزير خارجية “إسرائيل” يهذي عندما قال إن (الثورة المصرية أشد خطراً على “إسرائيل” من “إيران”)، كما أن بعض تصريحات مرشحي الرئاسة المصرية أثارت قلقاً لدى حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت في “إسرائيل” أخيراً على نحو يتخذه غلاة المتعصبين هناك مبرراً للاستعداد لعمل عدواني جديد قد تكون بعض مناطق “شمال سيناء” هدفاً له.
أليس الأجدر بنا  أيها السادة  أن نركز اهتمامنا على ما يدور حولنا محلياً وإقليمياً ودولياً بدلاً من الخطاب الانتقائي الذي يحجب الرؤية ويعدم الإرادة؟ إن “مصر” بلد ثري بتراثها وشعبها ويجب أن تمضي على طريق أفضل بكثير مما هي عليه، فالانتقام سهل ولكن المصالحة هي التي تحتاج إلى شجاعة وطنية، كما أن الهدم تصرف سلبي ولكن البناء الجاد هو طريق الوطن نحو المستقبل الواعد.