Tuesday, June 12, 2012

حُروب فضائية باردة

خيري منصور
ليستْ ما يُعرف باسم حَرْب النجوم، ولا صِلة لهذه الحروب بمناورات النجم سواء كان ساطعاً أو انقرض ولايزال نوره مسافراً نحو هذا الكوكب، إنها حرب كلامية أولاً وأخيراً، وإن كانت تستخدم الصورة لمزيد من التأثير أو من أجل التوثيق. فالحدث الواحد له ما يقارب العشر روايات في الفضائيات العربية وغيرها، وهذا يتطلب تدخلاً سريعاً من ابن خلدون أو أحد أحْفاد أحْفادِهِ كي يُقارن بين الروايات ويَحْشِدَ القرائن ليرجح واحدةً على أخرى. لكن الإيقاع الفضائي المتسارع والخاطف لا يتيح لابن خلدون أو أي ابْنٍ آخر، أنْ يجد الوقت ليمارس مهنته، سواء في التأريخ أو التحليل.
إن هذه الحرب أيديولوجية بامتياز، فالمراسلون لا يرصدون غير ما هو مسموح لهم برصده، والكاميرات تُصابُ بالعمى أحياناً إذا كانت المَشاهد لا تتناغم مع السِّياق الإعلامي الذي ترد من خلاله.
ولا يحتاج المُراقب إلى أكثر من بضع دقائق كي يتأكد من هذه الحرب، بحيث يتنقّل بين قنوات عدة ثم يُقارِنُ بين أدائها ونبرة مُذيعاتِها ومُذيعيها. فقد يكتشف أن الحدث قد فَرَّخَ أحداثاً، وأن ما يستحق التصفيق من خلال قناة ما، يستحق الإدانة ورُبما التجريم مِنْ قناةٍ أخرى مُضادة. إن حرب الفضائيات التي تتدرج من البارد إلى الدافئ، رغم برودتها من حيث تصنيف الحروب وأدواتها وساحاتها، تدفع المشاهد إلى التأكد من أن عبارة الإعلام المحايد الذي يقف على المسافة ذاتها من كل الأحداث هي مجرد كلمات في الهواء، لا دلالة لها ولا رصيد. والأرجح أن حكاية الإعلام المحايد هي منذ اشتقاقها تعبير افتراضيّ، أو حدّ أقصى يتعذّر بُلوغه، ويصلح فقط لأن يُقاسَ عليه من حيث الاقتراب من سَقْفِهِ أو الابتعاد عنه، وقد نفهم التبايُن في أساليب التعامل مع الواقع، لكن هذا التباين لا يصلُ حَدَّ التّضاد بحيث يتحول المقتول أحياناً إلى قاتل والعكس صحيح أيضاً.
وأدْلَجَةُ الإعلام بدأت قبل أن يصلَ إلى الحروب الفضائية بزمن طويل، فقد كان المذياع الخشبي منذ بواكير اختراعه قابلاً لهذا التوظيف، وكذلك الصُّحف في طورها البدائي قبل أكثر من قرن ونصف القرن.
إن مجال الاجتهاد في استقراء الوقائع يتسع لاختلافات في حدود المعقول والمنطقي، لكن لا مجال للاجتهاد إزاء حقائق مُصوّرة ولها شهودها. ولسوء حظّ الفَضاء المُؤَدْلج فإن الضحية ليست خرساء، وبالتالي فإن الجرائم كلها تبقى ناقصة ولا تكتمل بحيث تُطوى وتُسجَّل ضد مجهول. والمفارقة هي في كون التَّقدم على صعيد التّقْنية بالنسبة إلى وسائل الاتصال لم يكن متناسباً طردياً مع تقدم في العدالة والموضوعية، وما حدث هو العكس بحيث تم تسخير هذا التقدم في التقنية لمصلحة المزيد من التضليل وإجراء جراحات تجميل لواقع قبيح. قد لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الحروب الفضائية ضاعفت من إرباك مُشاهديها، لأن عدوى الصراعات الأرضية انتقلت إليها.