Sunday, May 6, 2012

لم يطيعوه في سورية.. لأنه ما عاد يستخفّهم

د. وائل مرزا
كيف يُمكن لنظامٍ سياسي أن يُرسّخ في واقعٍ بشري يحكمهُ الفناء والموت شعاراً يقول (قائدُنا إلى الأبد..)؟
{فاستخفّ قومه فأطاعوه}.
تُفسّرُ الآية المذكورة بشكلٍ عبقري طبيعة العلاقة بين شعبٍ يتعرّض للإذلال والإهانة والاحتقار، ونظامٍ سياسيٍ يقوم بتلك الممارسات ويُسلّطها عليه.
على مدى أكثر من أربعة عقود، استخفّ النظام السوري بشعبه إلى درجةٍ لا تكاد تُصدّق. لن يُدرك المرء معنى الكلام مالم يكن سورياً. فمن الشعارات إلى الممارسات، ومن القوانين إلى السياسات، كان واضحاً أننا بإزاء نظام حكمٍ يرى من يُفترض أن يكونوا (مواطنين) على أنهم أقلّ من الحشرات.
كيف يُمكن لنظامٍ سياسي أن يُرسّخ في واقعٍ بشري يحكمهُ الفناء والموت شعاراً يقول (قائدُنا إلى الأبد..)؟! لم يقف الأمر عند ادّعاء الخلود بالقول وبشكلٍ مباشر، وإنما تجاوز ذلك إلى ادّعاء درجةٍ من الألوهية، بلسان الحال وبشكلٍ غير مباشر. فكل فعلٍ قام به النظام على مرّ الأيام كان يوحي بوجود قناعةٍ عميقةٍ في قرارة نفسه بأنه يهب الموت والحياة، ويعطي الرزق ويمنعه، ويتحكم بمصائر العباد والبلاد في كل مجال.
في أيّ بلدٍ من هذا العالم يمكن لعريفٍ جاهلٍ في الجيش أن يُخيف رئيسه، نقيباً كان أو عقيداً أو لواءً، ويأمره بما يجب أن يفعل ليل نهار، ويجعل (خدمة الوطن) همّاً بدون نهاية؟
من الذي قال بأن رجل الأعمال في بلدٍ كان مضرب المثل في الطبيعة التجارية لشعبه لا يستطيع أن يُطور عملاً دون شراكةٍ مع مفسدٍ كبير؟
متى كان الوزير في أي نظامٍ سياسي يرتجف رعباً من حاجبٍ لديه، أو من سكرتيره في أحسن الأحوال؟ بل متى كان هذا الوزير أو رئيس الوزراء مُجرّد (ممسحةٍ) يمسح بها الحاكم حذاءه؟ فلا يكونَ له أمرٌ أو نهيٌ دون إشارةٍ من ضابط أمنٍ تخجل القذارة من اقترانه بها؟
كيف كان يحق لأصغر مُخبرٍ شأناً وإنسانيةً أن يتبختر بين عامة الناس كأنه إلهٌ قادر؟
بأي حقٍ يُنعت بلدٌ راسخٌ في الحضارة والتاريخ بأنه (سورية الأسد)؟
لم يكن لكل هذا أن يحدث لولا أن ذلك النظام (استخفّ) قومه. والاستخفاف هنا يعني فقدان الإنسان لشعوره بقيمته كإنسان، حتى قبل أي حديث عن شعوره بحقوقه الطبيعية والشرعية والقانونية. والاستخفاف يعني فقدان المرء لأي درجةٍ من درجات الإرادة في مقاومة الظلم لاستعادة تلك القيمة واسترداد هذه الحقوق.
لكن هذا كُله كان قبل انطلاق ثورة الحرية والكرامة.
سأستعير من الصديق إياد شربجي إحصائية قام بها منذ أسبوعين لنعرف معنى أن يرفض الشعبُ الاستخفاف. واستخدم حرفياً ما استخلصه من تلك الإحصائية.
يقول إياد: «عليكم الآن أن تقرؤوا هذه الأرقام لتتعرفوا على حقيقة شعبكم العظيم:
مليون ومئتي ألف مهجّر داخل البلاد من المناطق الأكثر نشاطاً في الثورة، 220 ألف مهجّر وهارب خارج البلاد، 28 ألف معتقل، 8 آلاف مختفي قسري، 13 ألف شهيد، 42 ألف مطلوب للجهات الأمنية تجري ملاحقتهم، 1100 منزل مدمر تدميراً كاملاً، 19 ألف منزل مدمر تدميراً جزئياً، 240 ألف عنصر عسكري وأمني ومدني يشاركون بقمع الثورة، 1800 حاجز أمني وعسكري مسلّح يقطّع أوصال المناطق الثائرة، 1200 عربة عسكرية ثقيلة تساهم في قمع الثورة (دبابات- مضادات للطيران- حاملات رشاشات ثقيلة- عربات مضادة للدروع- مدفعية..)، 218 واقعة مسجلة لاستخدام الطائرات الحربية والهيلوكوبتر في الرماية والقصف، انهيار اقتصادي أثّر بشكل مباشر على حياة الناس ومعيشتهم وضيق الخناق عليهم، حصار شامل وقطع مستمر لوسائل الحياة الأساسية (الكهرباء- الماء- الاتصالات- المحروقات..)، تواطؤ وتخاذل وعجز دولي لم يشهد له التاريخ الحديث مثيلاً.
رغم كل هذه الأرقام والحقائق المفزعة الكفيلة بالتأكيد بوأد أعظم الثورات الشعبية في العالم مهما بلغت قوتها وعظمتها.
رغم كل ذلك سجل يوم الجمعة 20 نيسان (جمعة سننتصر ويهزم الأسد) الرقم الأعلى بعدد التظاهرات في سورية منذ انطلاق الثورة السورية وبواقع 822 مظاهرة.
أعزائي.. هذه الثورة خارج كل التوقعات والحسابات..هذه الثورة حدث جلل سيترك بصمة لن تنسى في تاريخ البشرية..هذه الثورة سيكتب فيها مجلدات، وسيصّور عنها آلاف الأفلام وستكون موضوعاً لشهادات الدكتوراه حول العالم.هذه الثورة..هي بصمة السوريين وحدهم..أيها العالم.. أنتم الآن في حضرة الشعب السوري العظيم.. طأطئوا رؤوسكم أمام هذا المارد القادم».
صدقت يا إياد، وذهبت إلى غير عودة أيام الاستخفاف.