Sunday, June 17, 2012

ثمة مخرج لمأزق الانقسام الفلسطيني

علي جرادات
الحالة الفلسطينية في غاية التعقيد بسبب انقسامات داخلية تتداخل مع ما تعيشه الحالة العربية من انكفاء على الذات فرضته تحولات عاصفة في أكثر من دولة عربية، وفي مصر وسوريا بخاصة، وقبل كل شيء بسبب استباحات الكيان الصهيوني وصلفه السياسي الآخذ بالتعمق بصورة غير مسبوقة. هذا فضلاً عن تداخل كل ما تقدم مع تدخلات دولية ترعى سياسة الاحتلال، وتقودها الولايات المتحدة كدولة عظمى باغية لم تكف يوماً عن عدائها للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية العادلة وحقوقه المشروعة المغتصبة.
تعقيدات لا يقوى على معالجتها سوى عقل وطني شمولي يستوعب عناصر اللوحة الفلسطينية المركبة وتداخلها، وتحفزه إرادة سياسية جادة تتسلح بطريقة تفكير مسؤولة في مأزق متعدد الأوجه تعيشه الحركة الوطنية الفلسطينية بانقساماتها التي لم ينفع لإنهائها، (ولن ينفع)، كل المحاولات القائمة على تجاهل أساسها السياسي، ف”اتفاق مكة” سكبت فيه جهود لا يستهان بها، وحوارات القاهرة واتفاقاتها وإعلاناتها المتكررة لم تنقطع، والوساطة المصرية لم تدخر جهداً عن اقتراح أفكار وممارسة ضغوط، ولجان المصالحة الوطنية الداخلية ما انفكت تحاول، ولكنها كلها لم تفضِ إلى إعادة بناء وحدة وطنية منشودة فرعها إعادة توحيد “سلطتي” الضفة وغزة المتنازعتين، فيما أصلها إعادة توحيد الشعب الفلسطيني بعمومه وقضيته الوطنية بمجملها، فنصف الشعب الفلسطيني في الوطن ونصفه الآخر في الشتات، وإعطاب ديناميكية محاولات تفكيكه إلى تجمعات بأجندات متباينة غير ممكن من دون إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كمؤسسة وطنية تمثيلية جامعة بقيادة موحدة وبرنامج سياسي موحد، كأهداف يُعَدّ التقدم بخطوات ملموسة على طريقها ضرباً من الوهم من دون اعتراف الجميع بما يكفي من حزم بأن الكيان الصهيوني ماضٍ في سياسات استباحة الشعب الفلسطيني، أرضاً وحقوقاً ووجوداً وتطلعاتٍ ورؤية، وبأن القضية الفلسطينية ليست على أبواب تسوية سياسية ولو متوازنة، فما بالك بعادلة، وأن الدولة الفلسطينية ولو على حدود الأراضي المحتلة العام 1967 ليست “على مرمى حجر”.
تلك هي حقائق الصراع على الأرض التي لا يستجيب لاستحقاقاتها وتحدياتها إصرار قيادتي منظمة التحرير و”حماس” على اختزال الوحدة الوطنية في محاولات يلفها الشك والتسويف والتأجيل لتوحيد “حكومتي” “السلطة الفلسطينية” في حكومة واحدة بجهازين أمنيين يترأسها الرئيس الفلسطيني على أساس برنامجه السياسي القائم على مواصلة “التهدئة” مع الاحتلال كسياسة ثابتة لا محيد عنها، وعلى استمرار محاولات تجديد التفاوض العبثي مع أكثر حكومات “إسرائيل” تطرفاً وعنجهية تحت مسمى “لقاءات الاستكشاف” تارة، و”الرسائل المتبادلة” تارة ثانية، و”الحوار من دون التفاوض” تارة ثالثة، وكل ذلك في إطار انتظار قيادة “المنظمة” لانقضاء الموسم الانتخابي الأمريكي، عدا انتظارها، وبالمثل قيادة “حماس”، لما ستؤول إليه الحالة المصرية عموماً، وما ستسفر عنه انتخاباتها الرئاسية خصوصاً.
هنا ثمة إغفال لحقيقة أن المخرج من الانقسام بات مرهوناً باستيعاب خصائصه وخصائص ما أنتجه من مأزق، وباستيعاب منهجية هذا المخرج وطابعه، بوصفه صناعة فلسطينية أولاً، وينبع من المركبات الفلسطينية ذاتها. فالاستنجاد بالعامل الخارجي أو الاستقواء به أو انتظار ما ستؤول إليه تحولاته، لم يفضِ، ولن يفضي، إلا إلى إدامة الانقسام وإطالة أمده، بما يؤكد حقيقة أنه كلما استنزف العامل الوطني الفلسطيني نفسه زادت التدخلات الخارجية في شؤونه، وأخطرها بالطبع تدخلات الكيان الصهيوني وراعيه الأمريكي، وبالتالي فإنه لم يعد ثمة مهرب من الاعتراف بالحقائق كما هي. فالانقسام عميق أولاً وسياسي بامتياز ثانياً، ولا يمكن إنهاؤه “بعناق”، وإنما بالبحث عن الخطوة السياسية الصحيحة الأولى في ميدان مزروع بالألغام والتناقضات، فعقلية أنا أريد وعلى غيري الانصياع فشلت إلى غير رجعة، ولم تجنِ سوى الانقسام، ولن يقود الإصرار عليها إلا إلى تعميقه، فالسياسة في التحليل الأخير “تنازعات وتسويات” وليست إقصاء وإملاء، وتحديد الهدف يبدأ بالبحث عن قواسم مشتركة لا تنسف خيارات القوى السياسية المختلفة، فلا يوجد قوة تختار الانتحار السياسي بالتخلي عن خيارها، فما بالك عندما يصبح خط سيرٍ ومصالح فئوية ومصدر تمويل في آن، فلا الذين وقَعّوا اتفاق أوسلو جاهزين لسحب توقيعهم، ولا الذين يناهضونه مستعدين للتوقيع عليه، فضلاً عن أن ثمة لكلا الخيارين قوى اجتماعية وتيارات شعبية تسندهما، عدا ما لكل منهما من دعم خارجي، وبالمحصلة فإن ميزان القوى الداخلي لا يتيح القول: “نحن الشرعية التاريخية” أو “نحن شرعية المقاومة”، ذلك أن للميزان كفتين متعادلتين تقريباً، ما يعني أن مدخل إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة إنما يتمثل في انتخاب مرجعية تشريعية شاملة للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، أي انتخاب مجلس وطني على قاعدة الحجم الانتخابي للتجمعات والتمثيل النسبي، بما يتجاوز وضعية: “سلطتين”، قيادتين، برنامجين، “داخل وخارج”، “غزة وضفة”، و....إلخ، من مظاهر التشظي، وبما ينهي تشرذم المرجعيات ويفضي إلى توحيد الإرادة، وهذا خيار ممكن رغم ما يعترض سبيله من عقبات، ذلك أن أية عقبات فلسطينية داخلية يمكن تذليلها بالتوافق، كما أن أية عقبات خارجية يمكن الاتفاق على حلها بالتعيين كما كان يحصل على امتداد مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية التي تصبح بذلك مرجعية شاملة تضم المركبات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية كافة.. بينما تكرس جهود “السلطة” في الضفة وغزة لإدارة مجالات التعليم والصحة والتنمية والقضاء.... فأربعة ملايين يعيشون في الضفة وغزة حيز مدني متشعب ومثقل باستباحات الاحتلال، وبهموم بطالة تناهز 35%، وفقر يناهز50% وتعليم يطغى عليه التلقين، وينتج بطالة سنوية تناهز 40 ألفاً من خريجي الجامعات وطلبة الثانوية، وقطاع صحي يلهث وراء الأمراض من دون قدرة على مواكبة التطور الطبي في البلدان المجاورة، ما يضطر الآلاف من الفلسطينيين إلى معالجة أنفسهم في مستشفيات غير فلسطينية، علماً أنه يمكن تأمين البنية التحتية والكادر المطلوبين لو توافر التخطيط السليم، فضلاً عن اجتثاث الفساد، وتقليص “الجيوش” البيروقراطية والأمنية التي لا يحتملها الاقتصاد الفلسطيني الذي يفترض أن يكون اقتصاد تقشف ومقاومة وصمود لا اقتصاد بذخ واستهلاك.