Friday, June 22, 2012

العرب وقانون الجاذبية

د. غسان اسماعيل عبدالخالق
يبدو أن الانسان العربي هو الأكثر اكتواء بقوانين الجاذبية الأرضية على نحو تراجيدي واستثنائي، وملخص أطروحتي على هذا الصعيد، تتمثل في أن هذا الانسان –على امتداد قرن كامل من الزمان- مارس تصعيدات هائلة لتوقعاته، أو أن هناك من دفعه أو أوهمه بمشروعية هذه التصعيدات فاعتقد فعلاً بواقعية هذا الطيران، ثم وجد نفسه فجأة دون مقدمات وبتسارع شديد، يهوي من شاهق مرتفع ليرتطم بأرض صلبة قاسية فيتفتت أو يكاد، ليستأنف من جديد لمّ ما تناثر من كيانه وماهيته، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعسكرياً.
في عام 1948، بدت نتيجة المعركة المقدسة بين العرب واليهود، محسومة النتائج سلفاً، فأنّى لحفنة من المهاجرين المغامرين أن يهزموا عشرات الملايين من العرب الذين كانوا يحيطون بهم إحاطة السوار بالمعصم، وتسابقت الجيوش العربية الرسمية وغير الرسمية من أجل الوصول إلى فلسطين... وكانت النتيجة كما تعلمون جميعاً، أن الإنسان العربي الذي أوصل توقعاته إلى الطابق العاشر، وجد نفسه مضطراً إلى القفز في الفراغ الدامي.. وضاع الجزء الأكبر من فلسطين!.
تكرر هذا التصعيد في عام 1956 ثم في عام 1967 ثم في عام 1973، وفي كل مرة كان عدد الطوابق يزداد، لتزداد قوة الارتطام الدامي، دون أن يتعلم الانسان العربي من دروس الارتطام السابق، ودون أن يكبح جماح الانصياع للأحلام والرغبات على حساب الحقائق والأرقام ومدى الجاهزية الحقيقية للمواجهة والتغيير.
التصعيد والارتطام الأحدث هو الأقسى والأطول أمدا في آن واحد، وقد بدأ كما أقدّر منذ عام 2001 وما زال مستمراً؛ ففي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر توفرت الثغرة التاريخية المناسبة لمهندسي الربيع العربي في واشنطن ولندن وباريس فعملوا على تصعيد توقعات العرب وملايين من المسلمين بخصوص المواجهة بين الغرب وصدام حسين، ونجحوا فعلاً في اقناع الرأي العام العالمي بامكانية انتصار صدام حسين في هذه المواجهة استناداً لما روّجوه ولفّقوه من امكانات عسكرية خارقة يمتلكها صدام حسين، وما هي إلا جولة حقيقية واحدة حتى تبين البون الشاسع بين الآمال الكبيرة التي علقت والإمكانات الحقيقية التي أبيدت عن بكرة أبيها!.
وكان يمكن لهذا البروفة القاسية أن تكون درساً مفيداً للنظام العربي على صعيد قوانين الجاذبية الأرضية، فيبادر إلى تسريع عملية التطوير والتحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي قبل أن تلوح ثغرة أخرى للمهندسين المتأهبين عن بعد، إلا أن هذا النظام اختار أن يدفن رأسه في الرمال كالمعتاد، فلما ضرب الكساد العالمي ضربته تهيأت الثغرة التاريخية مرة ثانية لاستئناف رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، وعلى نار التناقض الحاد بين الأنظمة المتشددة والمجتمعات التي خسرت كل شيء مادياً ومعنوياً، فانطلقت الشرارة من تونس وتواصلت في مصر ثم في ليبيا ثم في اليمن ثم في سوريا وما زالت تتواصل!.
التصعيد والارتطام الأحدث هو الأخطر دون ريب، لأنه لم يكن نتاج مواجهة تقليدية بين العرب والغرب، أو بين العرب واسرائيل، بل كان بين العرب وأنفسهم، فيما كانت أبرز العواصم الغربية ومعها تل أبيب تمتع أنظارها بما يمكن للعرب أن يقدموا عليه (أنظمة وجماهير) حينما تتعلق الأمور برسم مستقبلهم، وقد كانت النتائج مؤلمة في الحد الأدنى وكارثية على أرض الواقع.. حتى الآن، فلا تونس استقرت ولا مصر ثابت إلى رشدها ولا ليبيا تحررت من منطق الصدفة ولا اليمن ائتلف ولا سوريا توقف نزيفها!.
هذا التصعيد المقصود والمبالغ فيه من طرف الغرب على صعيد المتوقع من (الربيع العربي) وهذا الاستغراق دون أي تحفظات من طرف الغالبية العظمى من الجماهير العربية في حلم التغيير والتحرر من الاستبداد، تكفل بإسقاط الانسان العربي من الطابق الخمسين بعد المئة باتجاه أرض زرعت بحراب الإحباط واليأس والغضب ونفاد الصبر والشك في الذات، ومن شأنه أن يحول الانسان العربي إلى عجينة مطواعة في أيدي المهندسين ايّاهم ولسان حاله يقول: لقد حاولت الصعود مراراً، لكنني فشلت في متابعة هذا الصعود، فشكّلني كما تريد.. لأنني لم أعد أعرف كيف أصعد ومتى أهوي!!.