Friday, June 22, 2012

فائض السلطة وفائض الثورة

عبدالمنعم مصطفى
استدعي من الذاكرة صوراً وحكايات تزدحم بها الطفولة، فيما أتابع المشهد السياسي المصري المرتبك، بين ثورة لا تقبل بغير استحقاقاتها، وبين قوى سياسية لا ترضى عن السلطان بديلا.
من صور الماضي أستعيد مشهد عجوز يغادر المستشفى الحكومي المجاور، يحمله ذووه من تحت إبطيه، وقد أنهكه المرض، وعندما يصل قرب منزلنا يستند إلى الباب والجدار، ويفتح قارورة دواء موحد ، كانت تصرفه مستشفيات الدولة، لعلاج كل الحالات مهما اختلفت، ثم يعب الدواء في جوفه عباً، وكأنه يعتقد أن شرب الدواء كله دفعة واحدة، يذهب بالمرض كله مرة واحدة.
ومن حكايات الطفولة أيضا، استدعي وأنا بإزاء المشهد المصري، حكاية السلطان ميداس الذي أغاث ملهوفاً ذات يوم ، فظهر له ملك مجنح يسأله أن يطلب طلبا واحدا ليحقق له ما يتمنى، فيطلب ميداس، أن يصبح كل ما تمتد اليه يده «ذهباً»، ويكون له ما شاء، إلى أن يكتشف انه إن مس الطعام صار ذهباً، وان مس الشراب صار ذهباً، وحين احتضن طفلته الوحيدة ليقبلها استحالت تمثالا من ذهب!!.. وبالطبع استصرخ ميداس الملك ان يرفع عنه غضبة الذهب، لأن الأمر كما يقول المثل العربي الشائع «إن زاد عن حده ..انقلب إلى ضده»
لقد اشتعل ميدان التحرير بالثورة في 25 يناير، بسبب ما أراه «فائض السلطة»، حين بات حجم ما بيد النظام السابق من سلطة، أكبر من قدرته على ممارستها بشرف، واستدعي من الذاكرة ما قاله رئيس الوزراء الإسباني الأسبق خوسيه ماريا اثنار، عقب انتخابه لفترة ثانية من أربع سنوات، حين سأله صحافيون عما إذا كان يعتزم الترشح لدورة ثالثة، فأجاب: « بعد ثماني سنوات في الحكم يكون لديك الكثير من السلطة، والقليل من الحماس .. وهذا خطر».
كان حجم ما أصبح تحت يد النظام السابق في مصر من سلطة ، بعد أكثر من ثلاثين عاماً في الحكم ، قد تجاوز حدود قدرة النظام نفسه على إدارتها، ولجم شطحاتها، وفي المقابل فقد كان مقدار مشاعر الغضب والاستياء في الشارع المصري، أفدح من أن تقمعه سلطة، أو يردعه خوف، فقد اخترق النظام سقف كل سلطة ، و حطم غضب الناس جدار أي خوف.. عند تلك النقطة اندلعت الثورة وسقط النظام.
الثورات مثل قارورة الدواء مفتوحة الفوهة، يصعب السيطرة على مقاديرها، وتعاطيها على نحو مقنن، ولهذا فكما أن فائض السلطة يقود إلى سقوط السلطان، فإن فائض الثورة قد يقود إلى إغراق السفينة والربان.
في اللحظة الراهنة، تبدو مصر أسيرة لحظة يسيطر فيها سلطان الشهوات، بأكثر مما يمكن أن يضبطه العقل ، أو تكبحه الفضيلة ، ففي خضم صراع سياسي تسعى أطراف فاعلة فيه الى بسط رؤيتها وفرض تصوراتها، بدا ان شهوة جماعة الإخوان المسلمين للسلطة بعد أكثر من ثمانين عاماً أمضتها في العمل السري تحت الأرض، أكبر من قدرتها على ممارسة السياسة، وأن خوف العسكر من المستقبل، أكبر من استعدادهم للقبول بتسويات للوضع الراهن، وأن عجز سائر القوى السياسية الأخرى عن بسط رؤيتها او حتى الدفاع عنها، قادها إما الى المقاطعة السلبية، بالانزواء عن مشهد انتخابات رئاسية خرجت منه مبكراً، او بالتحالف إما مع «الدولة الموازية» ممثلة بجماعة الإخوان، أو مع «الدولة العميقة» ممثلة بما تبقى من قوى النظام القديم ومن تحالف معهم من قوى، تخشى جماعات الإسلام السياسي باعتبارها صاحبة مشروع لتغيير هوية أقدم دولة وثقافة أعرق شعب.
ما يهدد مصر في اللحظة الراهنة ليس فائض السلطة، فمن بيدهم السلطة الآن يواجهون عنتاً كبيرا في نيل رضا نصف الشعب عن نصف ما يقدمونه له، وإنما يهدد مصر في اللحظة الراهنة «فائض الثورة» فالذين عاشوا أكثر أيام الثورة مجداً في ميدان التحرير، مازالوا أسرى المشهد الرومانسي بتداعياته العاطفية، غير قادرين لا على قياس مقدار قوتهم، عبر وسائل القياس السياسي في صناديق الاقتراع الشفافة، ولا على لجم حركتهم وقد انطلقت من عقالها الى المجهول دون ان تقودها رؤية بصيرة، أو تنظيم محكم البناء.
مصر لا تستطيع تجرع قارورة الدواء دفعة واحدة للتعافى في لحظة واحدة، والثوار اكتشفوا بعدما فوتوا أغلب الفرص، أن الثورة لا تحيل كل ما تمسه إلى ذهب، بل ان منهم من بات أكثر اقتناعا في لحظة تاريخية فارقة بأن «غضبة الذهب» يمكن أن تقوض أحلام الثورة وأماني الثوار.