Thursday, May 31, 2012

أمريكا التي خرجت عـن نص قيمها

كمال الذيـب
أمريكا كما تخيلها رجل القانون توماس جيفرسون الجمهوري على طريقة اليونان القديمة تختلف عن أمريكا التي يقودها سياسيو اليوم. ففي حين أراد جيفرسون بناء أمة مسالمة متميزة عن أوروبا “الغارقة آنذاك في الحروب والدماء والصراعات والثارات”، قامت في الواقع أمة محاربة، وفي منافسة مستعرة مع نفسها ومع سكانها الأصليين عبر الإبادة الجماعية المعروفة، كما قامت أمة عدوانية خارج الحدود استهوتها لعبة الهيمنة على العالم وتسييره. أما النموذج الذي حلم به جفرسون، وفي المقابل ألهم مشروع ويلسون البناء الأوروبي الراهن أكثر مما أثّر في الولايات المتحدة، وللأسف فالوجه الأكثر فظاعة أصبح اليوم مرتبطاً بالممارسات الأمريكية الخارجية، لا احترام للإنسان في البلدان التي يتم احتلالها أو التعدي عليها جواً وبحراً وبراً من العراق إلى أفغانستان وباكستان وليبيا وغيرها. إن الولايات المتحدة على مر الزمن مارست في حق البلدان الأخرى ما كان آخذه جيفرسون على الفرنسيين في عهد نابليون: (محاولة فرض مفهومهم الخاص للحرية على جيرانهم). الأمريكان تجاوزوا تلك الأفكار والممارسات البريطانية والفرنسية القديمة، ولم يعد لجميع الشعارات المتعلقة بالحريات مثل حرية التفكير والتعبير والتجارة والمعتقد والحق في الحياة والبحث عن السعادة وحق مغادرة الوطن وحق التواصل بين الناخبين وممثليهم والاتجار مع البلدان المجاورة والعمل لكسب لقمة العيش والدفاع في وجه المعتدين والأشرار والحفاظ على حرمة المسكن الخ..، لم يعد لها أي أهمية عندما يتحرك الأمريكي خارج أمريكا، إذ يبدأ الاحتقار والتجاوز والقسوة والتعذيب: كل شيء مباح على الطريقة الإسرائيلية. ولا يجب هنا أن ننسى أن الولايات المتحدة كانت قبل عدة عقود فقط بلد التمييز العنصري الرسمي (على غرار إفريقيا الجنوبية) ضد الملونين، وفي أيامنا هذه لاتزال ترتسم داخل غالبية المدن، كبيرة وصغيرة، حدود يصعب تجاوزها بين مختلف الفئات الاجتماعية والجماعات الإثنية. والعاملان هنا يتقاطعان، فمن “الغيتوات” السوداء إلى الضواحي اللاتينية وصولاً إلى “الجماعات المغلقة” وغيرها من مجمعات “الكاونتري كلوب” المخصصة لأصحاب المليارات، تبدو الولايات المتحدة رمزاً للتقطيع الاجتماعي في المكان. إن التبريرات العديدة التي تم تسويقها في السنوات القليلة الماضية حول ما بات يطلق عليه (الميل إلى العنف والتوحش في السياسة الأمريكية) التي تبدو مفارقة تماماً لمنطق الحرية وشرعة حقوق الإنسان والمبادئ التي كافحت البشرية من أجلها منذ قرون، تحتاج اليوم إلى إعادة قراءة، لأنه لا أحد تقريباً يمكنه أن يقبل الرواية الإعلامية الرسمية للعنف والقتل الذي مارسته القوات الأمريكية في أكثر من مكان، وخصوصاً في أفغانستان والعراق، بالإضافة إلى ممارسات غير عادية من التعذيب الذي سجلته كاميرات التاريخ في أبو غريب تحيل على ما هو أسوأ الممارسات في مجال انتهاك حقوق الإنسان.. إن السلوك الأميركي المتسم بالمعاملة غير إنسانية للسجناء في غوانتانامو أو فتح النار على النساء والأطفال وسط الحشود في بغداد أو صيد المعارضين للهيمنة الأمريكية بالطائرة بدون طيار في تعز اليمنية أو في قندهار الأفغانية ليس فقط ترجمة لمنطق القوة والتي تدعي فرض قانونها على العالم ، بل إنها ترجع في جذورها التاريخية إلى مفهوم للحياة هو بمثابة نفي لمفهوم المجتمع المدني في حد ذاته.
همس.. هناك عشرة آلاف شخص يسقطون قتلى بالرصاص في الولايات المتحدة سنوياً مقابل عشرات في كندا أو في فرنسا على سبيل المثال كما تدل على ذلك الإحصائيات.