Wednesday, June 20, 2012

حين يعي الإسرائيلي

أمجد عرار
مشكوك في أن المواطنين الروس، بمن فيهم اليهود، يعرفون الظروف التي يعيشها أصدقاؤهم الذين صدّقوا الدعاية الصهيونية وهاجروا للاستيطان في فلسطين المحتلة. في نهاية الثمانينات، حين كان الاتحاد السوفييتي يتهاوى تحت وطأة “إصلاحات” غورباتشوف، استغلت “إسرائيل” والحركة الصهيونية الظروف الصعبة في تلك البلاد وعبثت بعقول يهود أوروبا وبخاصة اليهود السوفييت كي يهاجروا إلى بلاد “السمن والعسل”، وكان أقصى ما بدر من مواقف خجولة من قادة الامبراطورية المتهاوية، أن اشترطوا عدم توجه المهاجرين إلى الأراضي المحتلة عام ،1967 وأذكر حينها نقاشاً حاداً جرى بين رأيين في الكيان الصهيوني، الأول رأى ضرورة الموافقة على الشرط السوفييتي، والثاني رأى خلاف ذلك. وفيما ردّد إسحاق شامير أن “إسرائيل” كبرى بحاجة إلى هجرة كبرى، رافضاً أية شروط على مكان توجه “المهاجرين” الذين لم يكونوا يهوداً فقط بل كان بينهم مسيحيون، استشاط شمعون بيريز غضباً واضطر للبوح بما لم يعتد عليه، فراح يقول إنه ليس بوسع أحد أن يتابع مسار المهاجر إن كان سيذهب إلى القدس أو الضفة أو غيرهما.
كثيرون من هؤلاء المهاجرين ندموا على تركهم بلادهم وأوطانهم في سبيل كذبة “السمن والعسل”. بعضهم ارتقى أكثر في فهمه معادلة الصراع وموقع “الهجرة” منها. أحد هؤلاء أندري فشنيتسنيكوف الفتى الذي ولد في الاتحاد السوفييتي وهاجر إلى “إسرائيل” مع أسرته اليهودية قبل 11 عاما وكان عمره ثلاثة عشر عاماً. عندما كبر التحق بالجيش “الإسرائيلي” مدة سنة ونصف السنة تخللها انكبابه على إعادة قراءة التاريخ، فكانت تلك الفترة كافية لإحداث صراع فكري ووجداني لديه، صراع قاده إلى تغيّر نوعي قَلَب حياته رأساً على عقب. لم يكتف أندريه بالتفلّت من الجيش بل نقل مكان سكنه من “إسرائيل” إلى مخيّم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين الواقع قرب بيت لحم، وقال لإحدى صحف الكيان “أريد أن أبرهن لكم أنني أسطيع العيش بأمان بين الفلسطينيين طالما أنني أذهب إليهم ليس كعدو”. لم يحتمله الذين أتوا به من روسيا فأودعوه السجن حيث قال للسجانين “أنا ضد الصهيونية.. خذوا إسرائيليتكم وخذوا بطاقة الهوية الشخصية، وضعوني في غرفة مع الأسرى الفلسطينيين”، ورفض التوقيع على شروط إطلاق سراحه التي تتضمن تعهده بعدم الدخول إلى مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية”.
أندريه حسم رأيه أخيراً واختار الموقع المضاد للصهيونية التي اكتشف مكنونها وأهدافها كحركة عنصرية عدوانية توسّعيّة، وهو تخلى عن المواطنة “الإسرائيلية” ويطالب بالمواطنة الفلسطينية، بل وأكثر من ذلك يعتبر نفسه من أنصار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولا يرى أية شرعية ل “إسرائيل”.
ليست حالة أندريه واسعة الانتشار، بل هي بتفاصيلها فريدة من نوعها، لكن “إسرائيل” التي تدرك أن أوسع الظواهر تبدأ بحالة واحدة، تنظر لها بعين الخطورة الكبيرة، ف “إسرائيل” أولاً لا تريد أن تتحوّل إلى ظاهرة مثل رفض “الخدمة” في جيش الاحتلال، وثانياً هي تخشى كثيراً من كل ظاهرة تنطوي على رفض الصهيونية والتشكيك في روايتها التاريخية التي هيأت لإقامة ما وعد به آرثر بلفور البريطاني من “وطن قومي” لليهود.
ليس بالضرورة أن يذهب كثيرون في “إسرائيل”، وبخاصة ممن وقعوا في إغراءات الهجرة، إلى المدى الذي وصل إليه أندريه، فالخبير مردخاي فعنونو لم يطلب الحصول على المواطنة الفلسطينية، ولم يكن سكن بين الفلسطينيين، ولم يكن عميلاً لأية جهة، بل استيقظ ضميره وكشف للعالم ما تملكه “إسرائيل” من ترسانة نووية. لكنه أودع السجن لاكثر من خمسة عشر عاماً وبعدها فرضت عليه الإقامة الجبرية والحرمان من التحدث لوسائل الإعلام. وما من شك في أن هذه المظاهر تتوسّع، لكن من الخطأ المراهنة عليها كثيراً.