Wednesday, June 20, 2012

انقلاب الدستور

يوسف عبدالله مكي
بشكل مفاجئ أصدرت المحكمة الدستورية العليا في مصر حكما بحل مجلس الشعب الذي لم يمض على انتخابه أكثر من ستة أشهر. وقد اعتبر في حينه أول خطوة حقيقية على طريق التحول الديموقراطي بعد ثورة 25 يناير. وجاء في تعليل الحكم أنه بسبب وجود مواد غير دستورية في قانون انتخابات المجلس، تلحق الظلم بالأعضاء المستقلين، وتمنح الحق في دخول المجلس، على النظام الفردي للمنتمين للأحزاب السياسية، بما يأخذ من حصة المستقلين. وبالتزامن مع هذا القرار، صدر حكم آخر ببطلان عزل المرشح الرئاسي، أحمد شفيق، تحت ذريعة ارتباطه بالنظام السابق، بما يضيف لحملته الانتخابية قوة اعتبارية.
ومنذ اللحظة الأولى لصدور الحكم الدستوري بحل مجلس الشعب، أعلن رئيس المحكمة الدستورية أن الحكم أصبح نافذا، وبموجبه فقد مجلس الشعب قانونيته. وجاءت موافقة المجلس العسكري الأعلى على هذه الأحكام لاحقا لتحسم الجدل، ولتغلق أبواب مجلس الشعب، وتوضع مقراته تحت حراسة المؤسسة العسكرية.
وقد تباينت المواقف من هذه الأحكام تبعا للمصالح والاصطفافات السياسية. فبينما رأى فيها الإخوان المسلمون والقوى التي تحالفت معهم، ثورة مضادة وعودة إلى المربع الأول، وانقلابا على المنجزات التي حققها الحراك الشعبي، فإن أعضاء آخرين، مؤيدين للمرشح أحمد شفيق رأوا في هذه الأحكام خطوة صحيحة، لأنها ألغت هيمنة الإخوان المسلمين المطلقة على المجلس، ورفضت دستورية قانون العزل السياسي.
ولا شك أن هذه الأحكام جاءت في صالح المرشح أحمد شفيق، فقد مكنته من مواصلة حملته الانتخابية، وقدمت له دعما اعتباريا، هو أحوج ما يكون له. لكن المرشح الآخر الدكتور مرسي يمكنه أيضا الاستفادة منها، فقد أبرزت انحياز المؤسسة العسكرية الواضح ضده، بما يكسبه تعاطف الناخبين.
اللافت للنظر، أن هذه الأحكام صدرت قبل أيام قليلة من انتهاء انتخابات الإعادة، وتلك مسألة تثير الكثير من الإشكالات. نحاول في هذا الحديث أن نتلمس دوافع توقيت صدور الأحكام في هذا الوقت بالذات، ونتائجها المرتقبة. وفي هذا السياق نسجل بعض الملاحظات.
السؤال الذي يصدمنا يتعلق ابتداء، بحل مجلس الشعب، والانتخابات والنتائج التي أفرزتها. لماذا تأجل الطعن في دستورية هذه الانتخابات إلى ما بعد ستة أشهر من تشكيل المجلس؟ أو لم يكن من المنطقي أن تتأكد المحكمة الدستورية العليا من دستورية القوانين التي تجري على أساسها الانتخابات، قبل المباشرة فيها، ثم يصار إلى إجرائها؟.
وهنا تقتضي القراءة، التنويه بأن أكثر المتفائلين، لجهة الإخوان المسلمين، لم يتوقعوا الفوز الساحق للجماعة في انتخابات المجلس. وقد كشفت تلك الانتخابات عن خواء سحيق وتجريف كبير وواسع للعمل السياسي، بحيث لم تبق في الساحة المصرية من قوى سياسية حقيقية منظمة سوى جماعة الإخوان. ولذلك اضطرت بعض القوى الوطنية والقومية للتحالف معهم وإبرام صفقات غير متكافئة لمساعدتهم على الوصول، ولو بشكل جزئي إلى المجلس. وقد قبل هؤلاء بالحصول على القليل من التفات، سواء بالانحياز للمؤسسة العسكرية أو بالانحياز نحو الإخوان.
كان من أحد النتائج الرئيسية لهذه الانتخابات، أن المشهد السياسي المصري أصبح محكوما بثنائية الجيش والإخوان. وهو أمر ربما يكون مقبولا لدى المؤسسة العسكرية، لو أن جماعة الإخوان اكتفت بالوصول إلى المجلس، ولم تحاول الوصول إلى أعلى مركز للسلطة في البلاد، مركز رئاسة الجمهورية.
واقع الحال، أن الوضع أصبح خطيرا بالنسبة للمجلس العسكري، بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية بفرز مرشحين فقط من أصل ثلاثة عشر مرشحا، هما مرشح حزب الحرية والعدالة، الاسم السياسي للإخوان المسلمين، الدكتور أحمد مرسي واللواء أحمد شفيق الآتي من المؤسسة العسكرية. ولأن المتوقع هو أن يمنح مؤيدو الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح أصواتهم لمرشح الإخوان المسلمين، بعد أن أعلن هو نفسه عن نيته التصويت لصالح الدكتور مرسي. يضاف إلى ذلك أن نسبة كبيرة من الذين صوتوا للمرشح حمدين صباحي، ومجموعات 6 أبريل وخالد سعيد، ستذهب أصواتهم في انتخابات الإعادة لصالح مرسي، فإن ذلك يرجح فوزه وتسلمه لموقع رئيس الجمهورية، وخروج شفيق من حلبة الانتخابات الرئاسية بخفي حنين.
ذلك يعني، أن الإخوان المسلمين، إذا لم يقم العسكريون بحركة التفاف سريعة حولهم، سيسيطرون على كافة مناحي الحياة السياسية المصرية. فسيتربعون على عرش مجلس الشعب وموقع رئاسة الجمهورية، ويتولون من خلال موقعهم، صياغة دستور مصر، وفقا لمنطلقاتهم السياسية والعقدية، وهو ما لا يمكن أن يقبل به المجلس العسكري الأعلى.
إن الأحكام التي أصدرتها المحكمة الدستورية العليا، أعادت الكرة إلى المجلس العسكري، ومكنته من تحقيق عدة أهداف في آن واحد. فالإخوان لن يعودوا بعد هذا القرار اللاعب الرئيسي في الساحة السياسية المصرية. وقد استفادت المؤسسة العسكرية من بقائهم بالمجلس في الأشهر الماضية، حيث عرّت قدراتهم على مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية التي تمر بها مصر. وقد اهتموا أثناء وجودهم فيه بأمور هامشية، خارج اهتمامات المواطن المصري، وعبرت عن انحياز أيديولوجي أعمى لأفكارهم. ولن يتمكنوا في حالة إجراء انتخابات نيابية جديدة من تحقيق نصر كاسح كالذي حققوه بالدورة التي حكم دستوريا بعدم شرعيتها.
وما سيتبقى لهم، سيكون منصب رئاسة الجمهورية، إن سارت الأمور بالاتجاه الذي نتوقعه، منصبا بصلاحيات محدودة جدا، يمنحها العسكريون له. وسيكون الرئيس تابعا وخاضعا للمجلس العسكري في طقوسه وممارساته. فالقسم الذي يؤديه الرئيس المنتخب سيكون أمام المجلس الذي يضطلع بالدور التشريعي والتنفيذي في آن معا. وقد أعلن عن تعديلات دستورية تصب جميعها في صالح هيمنة المجلس العسكري. وحتى إذا تمت كتابة الدستور المصري مجددا، فستكون بإشراف وسيطرة المجلس العسكري، ولن تشكل بأي حال من الأحوال حدا أو تقليصا لسلطاته.
سوف تستمر لعبة القط والفأر بين الإخوان والجيش. وسيكون الإخوان أمام أمرين أحلاهما مر. إما القبول بهيمنة المؤسسة العسكرية، على السلطة في مصر كما كانت منذ 23 يوليو عام 1952م، أو التحدي والقبول بمواجهة مع العسكر، ربما تعيد مجددا إلى المشهد السيناريو الجزائري بين العسكر وجبهة الإنقاذ، أو على الأقل تستحضر صورة الصراع الذي حكم العلاقة بين الإخوان والسلطة في مصر طيلة العقود الستة الماضية، وذلك أمر لن يطول بنا المقام حتى تتضح معالمه.