Tuesday, June 5, 2012

الناصريون و الساداتيون

عبدالله خليفة
عبر الانقسام في قادة انقلاب يوليو ٥٢ عن مسائل اجتماعية وشخصية متداخلة. الهيمنةُ الفرديةُ للرئيس جمال عبدالناصر عبرت عن حس وطني تقدمي بلا وعي ديمقراطي عميق، وتشكلت هذه الهيمنة عبر السيطرة العسكرية التي جعلت من الرئيس هو الدولة واختصار الشعب.
هي ذاتُها ميراث الفراعنةُ والخلافةُ المطلقة حيث يُصعّد الحاكم ذاته ويعزل الخصوم مزاوجاً بين قرارات اجتماعية نهضوية وأدوات سياسية قد تكون فاسدة.
القراراتُ المفيدة تتآكل مهما كان حجمها، ربما بعض المشروعات العملاقة المفيدة كالسد العالي وامتلاك قناة السويس وغيرهما من المنجزات بقيت نظراً لإنشائها بنية اقتصادية وطنية مستقلة، لكن قرارات الإصلاح الزراعي والتأميمات للقطاع الخاص الصناعي، كانت متناقضةً معرقلة لتطور الاقتصاد الوطني الديمقراطي، فالإصلاحات الزراعية كانت محدودة لم تتمكن من تحرير الفلاحين من الإقطاع وحتى سنة ١٩٦٥ مع ظهور لجنة تصفية الإقطاع من جديد وبرئاسة عبدالحكيم عامر! عبرت عن عدم الجذرية والارتباك التاريخي، أما التأميمات فكانت ضربةً للطبقة الصناعية الخاصة التي كان يجب أن تُطور وتُدعم لا أن يُقضي عليها لتظهر طبقة العقاريين والمقاولين والسماسرة وهي الفرخة التي سوف تحتضن الإخوان لينتشر البيض الفاسد.
هنا نسخ بائس للتجارب (الاشتراكية) فجعلَ هذا من الناصرية شخصاً لا فكراً ولا برنامج عمل تحويلي للحياة.
كان الرئيس يعمق أزمتَهُ كبرجوازي صغيرٍ وسط طرق التحولات العالمية، ومواصلةُ السيطرة كان دافعه الواسع الكبير لكنه يبحث له عن محتويات تجريبية في كل فترة.
المحتويات التجريبية متضادة لا تشكلُ تصعيداً متواصلاً لفئات وسطى وعمالية متقدمة، ولا تراكماً فكرياً ممنهجاً، فمن الهجوم على الشيوعية في الخمسينيات حتى احتضان الاشتراكيين وهم في الزنزانات ومحاصرو الفكر. فالاشتراكية تغدو امتدادا لذاتٍ برجوازية صغيرة تبحث عن البقاء السلطوي وتصعدها في تحولاتٍ اجتماعية تضم الملايين والشركات، مفيدةً معطية للعاملين مكاسبَ مهمة، لكن رأسمالية الدولة تغدو رأسمالية موظفين على السكة التاريخية البيروقراطية العتيقة الحضور في وادي النيل.
إن غياب الديمقراطية والليبرالية والماركسية والعقلانية من تفكير الضباط لا تؤسس ثقافةً عميقة وطنية تتغلغل في الجمهور الطليعي، فالطبقات والفئات تغدو ملحقة ببدلة الضابط، لا متجذرة في المؤسسات والناس والتاريخ والوعي.
لم يتشكل في ذاته التحالف التاريخي الديمقراطي بين العمال والطبقة الوسطى، وهذا هو الفكر والإرث والعصر، بل تشكلت تجريبيةُ رأسمالياتِ الدول الشرقية الشمولية فوق جسدِ الناس، وفي كلِ بلدٍ تبحث عن صيغة تناسب الدكتاتور المحلي وتُركبُ على بلدته العسكرية حتى تحترق.
ولهذا فإن الرئيس- الوطن، الرئيس الذي اختصر الوطن والأمة في شخصه، عليه أن يفكك هذه العلاقة، لأنه لا أحد يستطيع أن يختزل الأوطان في شخصه.
ومن هنا فإن الأعداء ورفاق النضال ساهموا كل من موقعه في هذا التفكيك التاريخي؛ جيش جريح في سيناء يؤشر إلى كارثة المؤسسة العسكرية، وأعضاء مجلس الثورة يتساقطون وتتكشف ملفاتهم المحدودة في فهم العصر والوطن، ويظهر من بينهم شخص آخر نقيض يهدمُ كل ما سبق وكأن كل ذلك التاريخ النضالي البطولي هباء ورماد!
أناس عسكريون اغتروا بمركباتِهم الحربية فصعدوا ثم هبطوا، رافضين في صعودهم وسقوطهم قوانين الحداثة والديمقراطية والعلمانية، في تكوينهم للثورة المؤدية إلى ثروات من تحت الطاولات الاجتماعية، حطموا الطبقةَ الوسطى الصناعية والديمقراطية وتراكم العقلانية الصغيرة العصرية، وخلقوا فئات وسطى من نثار المضاربات، وسيطرة البيروقراطية المجنونة بملفاتها وقوانينها والفارغة من عمل حقيقي.
لا نجحوا مع شرق انضموا إليه ولا مع غرب، وولّدوا قوى غامضة تائهة هي نتاج ذلك النثار الاجتماعي السياسي الذي لم يتجمع على طبقة قائدة قوية بمشروعاتها وثقافتها وإنتاجها، وتبحث عن رئيس بعد أن سد الرؤساء العسكريون الأفقَ من كل شخصية عملاقة بالوعي والإنتاج لا بالعضلات والقبضات والملفات.
وآخرهم راح يبكي وهو يدخل زنزانة هي بحجم ذلك التاريخ وقد هبطَ من سماء الغرور والصولجان.