Monday, June 4, 2012

قفزتان ونموذجٌ يحترق

عبدالله خليفة
في مشهد ذبح الشعب السوري يتماثل موقفا روسيا وإيران، في مفارقةٍ تاريخية ظاهرية لكنها تعبر عن حقيقة موضوعية.
رأسماليتا دولة استغلاليتان شموليتان عنيفتان كل منهما انطلق من موقع أيديولوجي مختلف تماماً ظاهرياً، تدافعان عن نمط النظام الذي أسستاه وهو ينهار تحت ضربات الشعب الثائر.
القومية الروسية المُمركزة المحاطة بشعوب وأديان كثيرة تتغلغل فيها لم يعد التمركز القومي القيصري بقادرٍ على السيطرة على الهيكل العظمي لهذه القومية المهيمنة.
القومية الروسية في بنائها للتحالف الأممي مع الشعوب الفقيرة المضطهدة شكلت تلاحماً أممياً وتعاوناً، لكن هذا الشكل تم عبر هيمنة رأس مال دولة روسي، الذي كان يبني رأسمالية محصنة بالأيدلولوجيا (الماركسية)، التي تم نزع عقلها النقدي الموضوعي وحُنطت، فلم تعدْ قادرةً على تطوير الأممية البروليتارية من مواقع الندية، بل من مواقع رأسماليةِ دولٍ تحفرُ استغلالَها في القوميات والشعوب العائشة في الإمبراطورية الروسية ذات العباءة المشتركة المتجهة للتمزق.
القومية الروسية ليست على غرار القوميات الغربية التي أتيح لها النمو خلال قرون في أسلوب الإنتاج الرأسمالي، فقد نزلت هذه القومية بآلتها العسكرية البشرية الضخمة وبجسم علاقاتها الاجتماعية المحافظة، كصخرةٍ هائلة على المدن الحديثة، وراحت تتحرك جغرافياً لمقاربة الحداثة، فتغير العاصمةَ والأزياءَ وتدرس وتنشر اللغة الألمانية، وتخفف من أوساخ العبودية ببطء شديد، فيما الأمم الغربية تتقدم بسرعة وتكتسحُ العالمَ وتتغلغل في أمنا روسيا ذاتها، فكان القيصرُ الروسي هو مدار الحركة والذي يغير العاصمة من مكان إلى آخر ويصدر مراسيم إزالة العبودية أو مراسيم السلطة السوفيتية، والطبقة الوسطى مدار قيادة النهضة لم تنشىء منصاتٍ كبيرةً لإطلاق الحداثة.
الدولة تغيرُ أصباغَها وقياداتها وكلماتها وأيديولوجياتها، فتقيمُ الشيوعيةَ الحربية ثم اقتصاد النيب (السوق)ثم التجميع الزراعي الرهيب لكن تظل السلطة المطلقة ورموزها يتبدلون ويتحدثون لكن بين أيديهم أزرة المصانع والصواريخ.
في إزاحة الجمهوريات السوفيتية والمعسكر الاشتراكي وصداع حركة التحرر الوطني خفتتْ من ضياعِ الفوائض الاقتصادية الناتجة من قطاعات عامة متآكلة فساداً وجموداً اقتصادياً وتقنياً، ووجهتها للاقتصاد، دون قدرة على تغيير نوعي على الطريقة اليابانية، فظهر القطاعُ الخاص، وجاءت البرجوازيةُ الملعونة واقتصاد السوق، التي ساهمت في تغيير الجمود والركود دون أن تقدر على تحويل المجتمع ديمقراطياً بشكل شامل، لأن القيصر مازال موجوداً، ورأسمالية الدولة الشمولية لاتزال تهيمنُ على أغلبية الاقتصاد، وتغيير ذلك حسب طرق البرجوازية السوداء الحاكمة يعني التفكك الكبير لروسيا الاتحادية وقيام الجمهوريات الإسلامية في الجنوب وانفصالها.
صارت تجارة السلاح والتغلغل في رأسماليات دولة شمولية كليبيا وسوريا وإيران في المنطقة هو أحد الحلول، وهذه الدول كذلك معادية للرأسمالية الحرة، وتقيم بناءات شبيهة بروسيا.
لكن فجأة وبأشكال رهيبة شعبية قامت جماهير عربية (متخلفة) بما عجزت عنه نضالاتُ روسيا الكبرى، أي بمقاربة الغرب الديمقراطي ولكنها لاتزال في تلعثمها السياسي لم تصلْ للغةٍ سياسيةٍ منطوقة بوضوح.
إيران قامت بنفس الثورة التي تبدو للأمام وهي قفزة للوراء، رأسمالية دولة اختصرها العسكر بسرعة، المقاربةُ مع الحداثةِ عبر التقنياتِ والجسمُ من القرون الوسطى ويتقدم هذا الجسم على المسرح الدولي بأزياء العباءات واللحى والتظاهر بالشعبية المفرطة والزهد ويندفع سيلٌ من الأساطير.
ذات القومية المأزومة المحاطة المتداخلة بقوميات أخرى والمتصارعة معها دون حلول للبيت الشعبي المشترك هو ذات مأزق القومية الفارسية الحادة في تطورها السريع على مسرح السياسة السائدة، وقد تلقفت آخر إنجازات التدهور الروسي، وهو التوسع الإمبراطوري العقائدي لكن عبر مذهبية دينية وعدم القدرة على التصنيع المتطور الذي يحتاج إلى التنافس الداخلي في السوق وعدم وجود دولة مهيمنة عليه، وكلتاهما تشترك كذلك في تجميد تطور الفكرة المذهبية، وتركيبها على رأسمالية الدولة، وإنتاج رأسمالية خاصة سوداء من بين الأحشاء الداخلية للأجهزة.
مثلت سوريا عقدة للدولتين المصدرتين للسلاح والأفكار التي فات زمانها المعبأة شعبياً والمتوترة دينياً والمنغلقة عن التفتح الديمقراطي، فهي الحليف المفقود الذي يؤدي إلى خسائر اقتصادية وسياسية كبيرة، ويغدو نموذج الدولة على الطراز الروسي والإيراني والصيني محل تساؤل من شعوبها ومن بقية الشعوب، ويبدو تحلل سوريا كأنه كذلك انتقال للنار الاجتماعية الثورية لبيوت الزجاج الشمولية لدول آسيوية عدة.
إنه التاريخ يتحرك والشعوب تريد التنوع وازدهار العيش والصراع ضد أشكال الاستغلال كافة كذلك، وهذا لا يكون سوى بحكومات منتخبة وبرلمانات وصحافة حرة وسوق لا تسيطر عليها فئات معينة أو حزب.
وكلما لم تَشحن هذه الدول عجلاتها بالزيت الديمقراطي مواصلةً مراكمة الصدأ، ورفض التنوع والتعاون الديمقراطي بين القطاعين العام والخاص، وتعاون الشعوب في دولة قومية أو متنوعة القوميات، فإنها تعرض نفسها وشعوبها لمخاطر جسيمة تبدو حرائق سوريا نموذجاً خطيراً في حالات تكراره.