Sunday, June 3, 2012

محاكمة القرن

لطفي نصر
صدور الأحكام أمس فيما يسمى بمحاكمة القرن.. وهي القضية المتهم فيها الرئيس المخلوع حسني مبارك ونجلاه، ووزير الداخلية السابق حبيب العادلي، ومعاونوه.. سوف يكون لها تأثير متباين ومتشعب على انتخابات الإعادة لاختيار رئيس جمهورية مصر العربية القادم يوم السابع عشر من هذا الشهر ومن أبرز هذه التأثيرات ما يلي:
ستبقى هذه الأحكام التي جاءت مفاجأة للجميع.. محلا للانشغال بها حيث ينقسم الرأي حولها بين راضٍ وغير راضٍ عنها... وموضع مناقشات حادة قد تصل إلى الصدامات التي بدأت بالفعل في أعقاب صدور هذه الأحكام.. وسوف يؤدي ذلك بالضرورة إلى تقليل الاهتمام بالانتخابات الرئاسية.. والانصراف عنها بعض الشيء.. وهذا قد يفسر لمصلحة الانتخابات والمترشحين الاثنين.. حيث كان الأمر قد وصل جراء عدم الرضا عن المترشحين إلى توجيه الاهانات إليهما.. والانشغال بوضع الخطط والترتيبات لعملية وأسلوب المقاطعة المتربص بهما إلى الدرجة التي جعلت الإعلامي الكبير حمدي قنديل يبتكر أسلوبا يراه فريدا للمقاطعة.. وهو أن يتوجه إلى لجنة الإدلاء بصوته ليكتب على بطاقة الانتخابات عبارة - اختارها فعلا - عبارة تلفت نظر الجميع وكل وسائل الإعلام.. لذا فإن المقاطعين قد انقسموا بدورهم إلى فريقين:
الأول: الامتناع عن التوجه إلى اللجان المختصة.. والثاني: إتلاف الصوت.
وسيؤدي صدور هذه الأحكام إلى ضعف الإقبال على صناديق الانتخابات بسبب عدم الرضا عن هذه الأحكام.. فالرافضون لهذه الأحكام قسمان لا أرى ثالث لهما:
- القسم الأول يرى أن من حصلوا على البراءة لا يستحقونها.. ورأيهم أن إدانتهم ومعاقبتهم كانت واجبة.
- القسم الثاني يرى أنه مع هذا الحجم أو الكم الكبير من البراءة في هذه القضية.. فإن الحكم الذي صدر ضد الرئيس السابق حسني مبارك، وضد وزير الداخلية السابق حبيب العادلي قد جاء مشددا أو مبالغا فيه إلى درجة أن البعض قد رآه ظالما.
وهذا الأمر أدى إلى أن البعض رأى أن هذا الحكم الذي ناله حسني مبارك وحبيب العادلي هو حكم «تكتيكي».. بمعنى أنه أريد به تهدئة الشارع، والتخفيف من مخاطر ثورة أهالي الشهداء ومحبيهم وأنصارهم.. حيث إنه في ضمير القاضي أو في يقين غيره أن هذا الحكم بالإدانة سوف يطعن عليه أمام محكمة النقض بالضرورة، وان الدائرة الاستئنافية المغايرة التي سوف تعاد المحاكمة أمامها في حالة قبول محكمة النقض الطعن، قد تخفف العقوبة في هذه الأحكام ضد مبارك والعادلي في الأعم الأغلب ولا تملك أن تزيدها، كي تهبط إلى المستوى الذي يجعل هذين الحكمين متناسبين مع الأحكام التي صدرت في القضية برمتها وخاصة أحكام البراءة.
هذه الأحكام التي صدرت أمس وبالكيفية التي صدرت بها تأتي في مصلحة الفريق أحمد شفيق.. حيث كان من بين المحاذير التي تتردد عن مجيئه رئيسا للجمهورية هي الخوف من إصداره قرارات بالعفو، حيث إن الحكم الصادر ضد حسني مبارك سيطعن عليه مليون في المائة.. وأن محكمة النقض سوف تقبل الطعن.. وستعاد المحاكمة.. وقد تعاد مرة واثنتين وثلاثة.. الأمر الذي يُصّعب عليه إصدار ما قد يريد.. وهذا سوف يستغرق وقتا طويلا.. ثم ان الحكم هو السجن المؤبد وليس الإعدام الذي كان يتوقعه البعض.. أما من الناحية الأخرى فإن بيان العهد الذي أعد حاملا تعهدات والتزامات المترشحين يمنع عليهم إصدار أي قرارات بالعفو.. وأن التملص من هذه التعهدات يدخل في دائرة شبه المستحيلات لعدة أسباب منها أن الرئيس القادم سيكون راغبا في دورة رئاسية جديدة الأمر الذي يجعله يميل نحو الالتزام التام بجميع التعهدات.. ثم ان هناك تهديدا دائما بالنزول إلى الشارع، والسعي نحو الإطاحة.. كما أن وثيقة التعهدات تشير فعلا إلى شيء من هذا القبيل.
أنا شخصيا أرى أنه رغم الحجم الكبير لظاهرة عدم رضا الشعب المصري إزاء هذه الأحكام، على نحو ما أشرت إليه في مقدمة هذا المقال.. فإن هذه الأحكام قد جاءت نزيهة، أو على الأقل قد جاءت متوائمة مع ما استقر في ضمير ووجدان القاضي المستشار أحمد رفعت وعضوي المحكمة الموقرين.. وإن كنت لا أستبعد تأثر هذه الأحكام بالحالة الثورية التي بدت في نفس رئيس المحكمة والتي عبر عنها في مقدمة أحكام الأمس من حيث إشارته إلى أن مصر قد عاشت أحلام ليل دامس على مدى ثلاثة عقود من الزمان.. وقد ظهر هذا التأثر في الحكم بالسجن المؤبد على مبارك والعادلي. كما لا استبعد أيضا أن يكون هذا الحكم قد جاء «تكتيكيا» مراعاة لضمان هدوء الشارع وخاصة أن هذا الحكم سيطعن عليه لا محالة. عموما كما قلت فإنني أرى في هذا الحكم نزاهة، وقد تعامل القاضي مع ضميره ووجدانه وحرصه على سمعته الطيبة التي كانت له عبر مسيرته القضائية.. وخاصة أن هذا الحكم - كما قيل - هو آخر أحكامه.. وهو الذي سيختتم به مسيرته القضائية.
سوف نقرأ أو نسمع آراء وتعليقات لا تعد ولا تحصى حول هذا الحكم في محاكمات القرن.. ستجيء كلها بالضرورة مختلفة ومتباينة.. وقد تكون هذه التعليقات منصفة، وقد تكون ظالمة.. لكن الحقيقة المؤكدة هي أن كل هذه التعليقات - بما فيها هذا التعليق الذي بين أيديكم - ستبقى بعيدة عن الحقيقة.. ذلك لأنها لا تطول ولا ترقى إلى هذه الجهود المضنية التي بذلها أعضاء هيئة المحكمة الموقرة الذين تعاملوا وتعايشوا مع عشرات الآلاف من الصفحات والمعلومات والأدلة والأسانيد والمستندات وشهادات الشهود والأقوال.. وستبقى معها قناعاتنا نحن وآراؤنا مجرد نقاط في بحر.. وفوق ذلك فقد تعامل السادة أعضاء المحكمة مع كل ما استقر في ضمائرهم ووجدانهم.. وما توصلت إليه قناعاتهم.. هذه القناعات التي تدربوا عليها مع آلاف القضايا التي نظروها خلال مشوارهم القضائي الطويل.
وتبقى طروحاتنا التي قد تصيب أو تخيب هي مجرد اجتهادات.. هذا إذا كان لنا حق، أو كانت لنا حيثية في تقديم هذه الاجتهادات.. ولست أظن أنه من حقنا أو من حق أحد التعقيب على أحكام القضاء أو مجرد الاجتهاد إزاءها.. ذلك لأن البون شاسع بينها وبين ما يقدمه أصحاب المهام الجليلة.. السادة القضاة الأجلاء.