Saturday, June 9, 2012

محنة بين الاستقواء والاستعداء

نسيم الخوري
الدعوات اللبنانية إلى الحوار حرّكت الدماء المتحرّكة أصلاً في حناجر السياسيين وسلوكهم وكتلهم الشعبيّة والطائفيّة المتعددة الألوان، لاسيما أنّها دعوات وقعت في مرحلة التحضير لإعادة مدّ طاولة الحوار في قصر بعبدا التي دعا إليها الرئيس اللبناني ميشال سليمان في الحادي عشر من الجاري والمتأرجحة بين الرفض والقبول من أطراف الصراع والحوار . والسبب أنّ الطبق الأساسي للحوار هو مناقشة سلاح حزب الله والسلاح الفلسطيني كما سلاح “الميليشيات” والأهالي الكثيف الانتشار في أرجاء لبنان، مع إبقاء الباب مشقوقاً لإضافة ما يشاء المتحاورون من عناوين وملفّات أخرى . وإذا كنّا لم ننسَ بعد أنّ التحضير للحوار سابقاً، قد أوصل بعض أساتذة الجامعات والخبراء في أصول الحوار، ممّن حضّروا لتلك الطاولة إلى مناصب قضائية وإدارية ووزارية عليا، نجد أن الفقهاء القانونيين والمفكرين وأساتذة الجامعات والمثقفين في لبنان قد أغراهم ويغريهم الحوار ويشغلهم، لأنّ بعضهم يتوق إلى السلطان، والبعض الآخر أيقظته الدعوة إلى مناقشة دوره حيث يرى الجامعة أقوى من البرلمان أو على العكس، والبعض الأخير مسكون باليأس واستحالة التغيير والخروج من النفق المعقّد الذي يغطس فيه لبنان .
الدعوة لافتة وقوية كونها حرّكت الأصوات والضجيج السياسي المألوف وغير المألوف، في المقاهي والأندية السياسية وأروقة الجامعات وقاعات الخطى الضائعة في نقابة المحامين، تشظيات واحتدادات وعروق نافرة وكأن القرار في لبنان . يقولون في ما يقولون: أيّ لبنان نريد؟ أو أية دولة نريد؟ هل لدينا فكرة الدولة ليكون لنا دولة أساساً؟ هل نذهب إلى التقسيم في منطقة تسحب فيها خرائط التقسيم؟ هل نذهب إلى طائف جديد؟ هل نذهب إلى تعديل الدستور؟ ولماذا لا نطبّق الدستور قبل تعديله؟ هل نحن قادرون على شطب الطائفية السياسية في بلدٍ منقوع بالخلّ الطائفي؟
هذه هي الأجواء في لبنان كلّه اليوم، فقد خفّ وهج طاولة الحوار وفقدت بعض مفاعيلها، على إيقاعات الدعوة التأسيسية وارتداداتها الداخلية التي لربّما تجاوزت مفاعيل التحاور الذي سمّيناه تجاوراً وحسب، إذ لا يعني ضم “الأزهار” أو استواؤها أو مصافحتها أو تقبيلها لبعضها بعضاً حول طاولةٍ مستديرة في بعبدا، ضرورة تفاهمها، ولا يعني تداخل روائحها وألوانها المتعددة ضرورة أن يأتي عطرها متناغماً في رائحة واحدة يتلهّف إلى استنشاقها اللبنانيون في تطلّعهم إلى السلام والعيش والتناسل بهدوء، أو منعقدة في ثمرة من الوحدة الوطنية التي لطالما شرّع اللبنانيون أفواههم ومسام أجسادهم طمعاً بها وتطلّعاً إليها . لماذا؟ لأنّ كميّة الشوك المستور في أعناق الزهور وفي أوراقها وتحت الطاولات هي الجوهر في لعبة الأزهار الدامية، كما أنّ الماء في “المزهرية” لا يمكن حجب صفائه أو تعكيره أو توحّله ولا حتّى الهروب من تعفّن روائحه حتّى لو كان الزجاج من صنف “اللاليك” أرقى أنواع الزجاج المصقول في العالم . والأهمّ من هذا كلّه المناخ العام الذي يتحكّم بحياة الزهور ومدى ديمومة روائحها في الأرجاء، وهو المناخ العربي المحيط المشبع بالعواصف والرياح والدماء العاتية . هكذا تبدو الزهور اللبنانية تتقدّم بسرعة نحو ذبول حيث تبدأ لغة الأشواك الحقيقية في الإفصاح عن هذا التهذيب المفرط في لغة الورد! الذروة في الحوار تلك اللذة السريعة التي يمكن أن يكون قد أدّى إليها قعود الأطراف الخمسة عشر مع مساعديهم خلف الطاولة . بهذا المعنى نفهم حجم “التقاتل” اللفظي والإعلامي بين من يمثّلون في أحجامهم وشعبيتهم وعدد موظفيهم من الوزراء والنواب، أو بينهم وبين من لا يمثّلون حتّى أنفسهم سواء أكانوا خلف أم متفرّجين عليها في الشاشات .
لا يعني هذا القول التقليل من أهمية الحوار الحاصل حكماً، بل يعني أن يقف كلّ متحاور أمام المرآة ليرى نفسه ويرى حجم لبنان المتأرجح بين الوطن والساحة أو المعبر الضيق، أو الطريق المنتهي إلى طائرة للمغادرة، وأن يمسح كلّ متحاور عرق جبينه ويتلمّس شرايين عنقه قبل أن يأتي بأي سلوك أو انفعال أمام إغراء الكاميرات . ليس سهلاً أن تجترح مزهرية لوطن يبدو خارجه متجاوزاً لداخله ولو جاهر متحاوروه بأن حوارهم صنع في لبنان، فأنت تجمع في الواقع زهوراً متعددة الألوان والروائح والأشواك، ومن الحقول الفرنسية والأمريكية والسورية والإيرانية والتركية والفلسطينية والمصرية ولربّما من الأمم المتحدة والمجموعة الأوروبية في كوب واحد . وعلى الرغم من هذه المروحة اللبنانية الواسعة، تبقى معضلة اللبنانيين قائمة في مثلّث الاستقواء بالخارج أو استعداء الخارج أو استجداء هذا الخارج . متى يلج اللبنانيون عتبة الانتماء إلى وطنهم في بدايته وثوابته ومتحولاته؟