Saturday, June 9, 2012

حوار للتنفيس أم للتأسيس

عصام نعمان
الحوار في لبنان مطلب دائم، كلما احتدمت الخلافات وتأزمت العلاقات بين أطراف الشبكة الحاكمة، انبرى مسؤول سياسي أو مرجع ديني أو قائد حزبي أو هيئة وطنية إلى مطالبة أطراف الصراع بالحوار لإيجاد تسوية مقبولة للأزمة، فالعنف لم يحلّ أيَّ أزمة في تاريخ لبنان المعاصر بل زادها تعقيداً، التسوية هي قاعدة الخروج من الأزمة، والحوار هو السبيل إليها.
يطول أمد الأزمات عندما يصعب إجراء حوار بين الجماعات والقيادات المتصارعة، وفي أغلب الأحيان، لا تنتهي الأزمات إلاّ بتدخل طرف أجنبي أو عربي لإدارة الحوار بين الأطراف المتصارعة. لم يحدث قط أن تمكّن اللبنانيون من تلقاء أنفسهم وفيما بينهم، من إجراء حوار صحي قاد إلى تسوية متوازنة لأزمة معقدة.
المفوض السامي البريطاني الجنرال سبيرس كان “بطل” تسوية نسبة التمثيل في مجلس النواب بين المسيحيين والمسلمين عشية الاستقلال سنة 1943. رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر ومبعوث الرئيس الأمريكي روبرت مورفي كانا بطلي تسوية النزاع سنة 1958 التي قضت بعدم تجديد ولاية الرئيس كميل شمعون وانتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً بديلاً. وعبدالناصر كان، مرة أخرى، بطل التسوية المعروفة باسم “اتفاق القاهرة” بين حكومة لبنان وفصائل المقاومة الفلسطينية الناشطة في ربوعه سنة 1969. وقادة السعودية وسوريا كانوا رعاة اتفاق الوفاق الوطني المعروف باسم “اتفاق الطائف” بين القوى السياسية المتصارعة سنة، 1989 قادة قطر والسعودية وسوريا كانوا وراء “اتفاق الدوحة” سنة 2008 الذي طوّق تداعيات الأزمة السياسية الناشئة عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخلو سدة الرئاسة بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود وذلك بانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً.
يعاني لبنان منذ سنوات أزمة متعاظمة نتيجةَ تطورات داخلية وخارجية متفاقمة لعل أبرزها وأخطرها الأزمة السورية التي اندلعت منتصف مارس/ آذار 2011 وماانفكت تشتد وتفيض بمضاعفاتها على لبنان والجوار. ولدرء الأزمة بكل جوانبها، دعا الرئيس سليمان إلى حوار وطني في 11 الشهر الجاري من دون عُقَد وشروط، للاتفاق على استراتيجية دفاعية ضمن نصوص الدستور ووثيقة اتفاق الطائف “ترتكز على مقومات القوة التي يتمتع بها الجيش والقوى الأهلية المقاومة، وعلى آليات وضوابط انتشار واستعمال هذه القوى والسلاح بصورة عامة، وتطوير النظام السياسي من دون التورط في أزمات جديدة أو تعديلات في أساسيات ميثاق العيش المشترك وتوازنات النظام”.
دعوة الرئيس سليمان قوبلت بإيجابية وارتياح من جانب قوى 8 آذار، وأحد أطراف قوى 14 آذار (حزب الكتائب)، و”جبهة النضال الوطني” (وليد جنبلاط)، والقوى والأحزاب الوطنية والديمقراطية، غير أن معظم قوى 14 آذار تحفّظت على الدعوة، بادئ الأمر، وإن أبدت بعض الليونة لاحقاً.
هل تنعقد طاولة الحوار؟
الأرجح أنها ستنعقد لكن من دون “نصاب” كامل. بعض القادة، كحسن نصر الله وسعد الحريري وسمير جعجع، سيتغيبون لدواعٍ أمنية وإن كان ثمة من سينوب عنهم، وبعضهم الآخر سيحضر على سبيل المجاملة ولن يحمل معه اقتراحات جدّية للخروج من الأزمة.
إلى ذلك، لكلٍ من الأطراف المدعوين للحوار هواجسه ومصالحه وفهمه الخاص للأزمة الراهنة وتداعياتها. رئيسا الجمهورية والحكومة يشعران بوطأة الأزمة ومخاطر تداعياتها، الأمر الذي يدفعهما إلى محاولة تبريد الأجواء الساخنة وتدوير الزوايا بين الأطراف المتصارعين للحؤول دون تطور الأزمة إلى فتنة أهلية.
قوى 8 آذار تشاطر الرئيسين سليمان وميقاتي هواجسهما، لكنها تأمل أيضاً بأن تدفع المخاطر المحيقة بالبلد قوى 14 آذار إلى فك ارتباط بعضها بأطراف خارجية لها أجندة إقليمية، وإلى أن تتساهل قليلاً لتمكين مختلف الأطراف من الاتفاق على قانون للانتخابات يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته.
قوى 14 آذار ترى في سلاح حزب الله (المقاومة) محور الأزمة لكونه خارج سلطة الدولة، وتركّز تالياً على ضرورة وضعه تحت إمرة الدولة، رغم إقرارها ضمناً بأن الدولة غائبة وليست قادرة تالياً على النهوض بموجبات الدفاع الوطني.
رغم هذه الهواجس والتحفظات والمعوّقات، تبقى طاولة الحوار مطلباً ملحاً لكونها أداة تنفيس للاحتقان والتوترات المتصاعدة، إذ إنّ مجرد رؤية هذا الرهط من “الزعماء” مجتمعين، بالأصالة أو بالوكالة، تحت سقف واحد يشيع الأمل بأن ثمة بديلاً من العنف والتراشق بالرصاص والقنابل.
أجل، إنها طاولة حوار للتنفيس وليس للتأسيس، ومع ذلك بإمكان أطراف الحوار، إن توافرت الإرادة الطيبة والتحرر من ثقافة الاستعانة بالأجنبي والركون إليه، التوافق على إعادة تأسيس لبنان وطناً ودولة بالتوافق على المدخل الأساس لعملية الإصلاح، وهو قانون انتخاب ديمقراطي يكون بموجبه لبنان كله دائرة انتخابية واحدة، وينتخب اللبنانيون بموجبه ممثليهم إما وفق نظام التمثيل النسبي، وإما وفق قاعدة “لكل ناخب صوت واحد”.
بهذه المنهجية ينبثق من الشعب مجلس نيابي له قاعدة تمثيلية عريضة، وكوادر سياسية جديدة، وبالتالي قدرة تأسيسية مؤثرة. ولعله لن يتأخر عن تنفيذ ما كان يقتضي تنفيذه منذ أكثر من عشرين سنة وهو المادة 22 من الدستور التي تقضي بانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي ومجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف ومشاركة مجلس النواب بت القضايا الأساسية والمصيرية.
ترى، هل يستطيع اللبنانيون، لأول مرة في التاريخ، أن يتحاوروا بحرية ويتوافقوا على تنفيذ مضمون تسوية تاريخية كانوا توصلوا إليها، بكثير من الدم والجهد والألم سنة، 1989 من دون تدخل أو وساطة أو وصاية خارجية؟