Monday, May 14, 2012

جورج كينان العربي

سعود كابلي
قصة جورج كينان تضيء جانبا من لماذا سقط الاتحاد السوفييتي وظلت الولايات المتحدة؟ وهو جانب الفرق بين مؤسسة الفرد وفرد المؤسسة. قصة كينان هي قصة دولة مؤسسات تعلي من قيمة الفرد وإسهاماته
تقول الأسطورة الشعبية أيام الاتحاد السوفييتي إن الخط الدائري لمترو الأنفاق في موسكو والذي يقع في وسط المدينة لم يكن موجودا في الخرائط الأصلية لشبكة المترو، وما حدث هو أن المهندسين عندما عرضوا الخرائط على جوزيف ستالين (الدكتاتور الروسي الشهير) قام بوضع فنجان قهوته على الخرائط الأصلية فانطبع أثر بعض القهوة من أسفل الفنجان على الخرائط في المكان الذي يوجد به اليوم خط المترو الدائري في موسكو، والذي للمفارقة تم اختيار اللون البني له وهو لون القهوة، حيث إن كل خط من الخطوط يحمل لونا مغايرا كما هي العادة في رسومات خرائط المترو. وتمضي الأسطورة في أن المهندسين قاموا بإنشاء هذا الخط لأنه ما كان أحد ليجرؤ على المناقشة أو ليتحمل مسؤولية تفسير عدم وجود الخط الذي رسمه انطباع فنجان قهوة ستالين على الرسومات الأصلية، ولاحقا عُد هذا الأمر مثالا على عبقرية ستالين المتناهية ورؤيته التي لم يضاهها أحد.
مضت الأيام وسقط الاتحاد السوفيتي بكل جبروته كبيت من ورق، وربما لم يكن هناك شاهد أفضل على سقوط الاتحاد السوفيتي من السياسي الأميركي المخضرم جورج كينان (George Kennan) الذي عاش أكثر من ١٠٠ عام (ولد في ١٩٠٤ وتوفي في ٢٠٠٥) وكان أحد القلائل من الساسة الذين كتب لهم أن يشهدوا قرنا كاملا بكل ما فيه من أحداث من قلب العمل السياسي. بدأ كينان حياته كدبلوماسي تنقل بين عدة مدن وكان ضمن طاقم أول سفارة أميركية في الاتحاد السوفيتي تفتتح في موسكو عام ١٩٣٣ بسبب إجادته اللغة الروسية وتعمقه في الشأن الروسي، وبعد عدة تنقلات عاد لموسكو مرة أخرى في عام ١٩٤٤ كنائب للسفير هناك. خلال كل تلك الفترة شهد كينان من خلال وجوده في أوروبا الحرب العالمية الثانية وكذلك صعود الاتحاد السوفييتي قبل الحرب. في عام ١٩٤٦ كتب كينان ما بات يعرف "بالتلغرام الطويل" (the long telegram) وهي مراسلة كتبها من السفارة ردا على وزارة الخارجية الأميركية يشرح فيها سياسة الاتحاد السوفييتي وتحليله لها وكذلك رؤيته حول سبل التعامل الأمثل معها. كان كينان معارضا للتعاون مع السوفييت وفي تلك المراسة استخدم مصطلح "احتواء" الاتحاد السوفييتي، وبنى عليه مقترحا لسياسة الولايات المتحدة تجاه السوفييت، وهو ما قامت عدة دوائر في واشنطن لاحقا بعد جدال بتبنيه، وقام على إثرها الرئيس هاري ترومان بتبني "سياسة الاحتواء" (containment policy) ضد الاتحاد السوفييتي وأعلنها في مبدئه الشهير الخاص بسياسة أميركا الخارجية (Truman doctrine) في عام ١٩٤٧. سياسة الاحتواء هذه هي التي شكلت بصورة أو بأخرى أساس الحرب الباردة التي طبعت القرن العشرين بالعديد من الأحداث فيه. في نفس العام قام كينان بتوسعة تحليله ومقترحه الخاص بسياسة الاحتواء من خلال كتابة مقالة بعنوان "مصادر سلوك السوفييت" (Sources of Soviet Conduct) نشرت في مجلة "فورين آفييرز" تحت معرف مجهول أشير له بمستر X لاسم الكاتب فاشتهرت لاحقا "بمقالة إكس" (X article). هذا المقال كان في الواقع تقريرا أعده كينان لوزارة الدفاع الأميركية، ونشره أطلق نقاشا عريضا في الولايات المتحدة حول الاستراتيجية العامة للتعامل مع الاتحاد السوفييتي، وشكل أساس النظرة الأميركية للسوفييت. في بداية الستينات ترك كينان العمل الدبلوماسي وانتقل للمجال الأكاديمي حتى وفاته ليصبح أحد أهم أساتذة العلوم السياسية في العالم، وأحد مؤسسي ومنظري "المدرسة الواقعية" في العلاقات الدولية (realist school).
قصة جورج كينان تضيء جانبا من لماذا سقط الاتحاد السوفييتي وظلت الولايات المتحدة؟ وهو جانب الفرق بين مؤسسة الفرد وفرد المؤسسة. قصة كينان هي قصة دولة مؤسسات تعلي من قيمة الفرد وإسهاماته، وتسعى لتمكينه لأنه جزء من تمكين المؤسسة والدولة ككل. ثقة الدولة في كينان ودوره تجاه موسكو جعلت من مراسلته أساسا لصناعة توجه دولة، ضمن عمل مؤسساتي هرمي سليم حتى فُتح نقاش عام في المجتمع حول مثل هذا التوجه وتوائمه مع مصالح الدولة. وفي المقابل كان كينان نتاجا طبيعيا لدولة مؤسسات تجعل من الفرد عضوا فاعلا ذي ثقل في أي مؤسسة هو جزء منها، يختلف معها ويضيف لها باختلافه، فالمؤسسة والدولة تصبحان ناتج مجموع عطاء أفرادها وليس العكس. خرجت الولايات المتحدة منتصرة من الحرب الباردة لأنها صنعت أفرادا منتصرين داخل أنفسهم قادرين على العطاء وعلى تقديم أفكار لمجتمعاتهم ضمن مؤسسات أتاحت للفرد وإن كان حتى داخل المؤسسة أن يختلف وأن يقدم أفكاره بحرية وابتكار. في مقابل مجتمعات كمجتمعاتنا العربية خنقت الفرد، وليس أبلغ من مثال العراق، فعندما قام صدام حسين بإضافة جملة (الله أكبر) للعلم العراقي وكتبها عليه بخط يده في عام ١٩٩١، وارتكب خطأ إملائيا فادحاً (أضاف همزة للألف في لفظ الجلالة) لم يجرؤ أحد على تغييره أو مناقشته، وظل العراقيون يقفون لمدة ١٣ عاما تعظيما لعلم بلادهم وهم يرون فيه خطأ إملائيا فادحا دون أن ينبس أحد ببنت شفة.