Tuesday, June 19, 2012

خوش كلام والحرب أولها كلام

كمال الذيب
يبدو أننا أصبحنا نعيش في زمن التهريج العام والخاص، انعدمت الفواصل بين المنطق واللامنطق، بين العقل واللاعقل، بين الجد والهزل، بين الرشد والسفه ولنستعرض نماذج دالة من الحكي الذي لا يمكن أن يصنف إلا في باب التهريج، ولا يمكن في جميع الأحوال أخذه مأخذ الجد، إلا من حيث كونه يسهم في إشاعة البلبلة والفوضى ونشر الكراهية والصدام بين مكونات المجتمع: - حقوقي إنساني يهتم بكل شيء إلا بما يتعلق بحقوق الإنسان، وبحماية المدنيين والدفاع عن حقهم في الحياة والتنفس والراحة والكلام والنوم(!)، نفس هذا الحقوقي الإنساني الذي يفترض به أن يكون أول من يحترم الإنسان قبل حقوقه، لا يرى مانعاً في التهجم على أخيه الإنسان، ونعته بما يكره من الصفات التحقيرية، تحت عنوان حرية الرأي.!! خوش كلام!!
سياسي يصنف المواطنين إلى الفئات التالية: شرفاء- مرتزقة- أحرار وطبالين- سلميين وبلطجية- أصليين ومجنسين... وعليك أن صنف المواطنة في الدولة المدنية التي يبشرون بها!! خوش كلام!!
كاتب بارز وعقلاني يتحدث عن مواطنين أصليين ومواطنين غير أصليين في دولة المواطنة الجديدة. وعليك أن تختار درجة المواطنة التي سترتقي إليها بإذن الله.!! خوش كلام!!
رجل دين محترم يتحدث عن رافضة وناصبة وكفرة.. وهو يصف قسماً مهماً من شركاء الوطن. وهذه كارثة أخرى!! خوش كلام!!
سياسي مخضرم ورجل دين ذو مكانة مرموقة يهدد ويتوعد بالنار الموقدة التي لا تبقي ولا تذر.. وهذا منتهى السلمية التي تدعو إلى الطمأنينة بخصائص الديمقراطية الموعودة (ذات المعنى)!! خوش كلام!!
سياسي وكاتب يساري (ديمقراطي - عقلاني) يتحدث إلى إذاعة أجنبية فيورد قصصاً وحكايات عن (القتل والتعذيب والاغتصاب الجماعي)، وكأننا “سيبرينتشا البوسنية” أو في “حرستا” السورية.. خوش كلام!! خوش كلام في خوش كلام، وكما قال الشاعر العربي: أرى تحت الرماد وميـض نار ويوشك أن يكون لها ضــرام فإن النـار بالعــيدان تذكي وإن الحـرب أولــها الكلام فإن لم يــطفها عقلاء قوم يـكون وقودها جـثث وهام.. فئات أخرى تأتي من خارج انفلات الكلام تمارس حالة من التهريج الإعلامي والطائفي للإثارة والاستغلال والانتهازية في بعض الأحيان، تجدهم في مقدمة طابور الصارخين والمحتجين، نهاراً، وفي مقدمة طابور المتسولين ليلاً، مستغلين فروق التوقيت بين الليل والنهار لتمرير حيلهم التي سريعاً ما تنطلي على بسطاء الخلق من أمثالنا، ولأن حبل الكذب قصير فإنهم سريعاً ما ينكشفون وتنكشف عوراتهم وزيف ابتساماتهم.. ومن حسن الحظ أن هذه الدنيا التي ضاق بها أفق النقاء لاتزال تزدان بالشرفاء والمخلصين والعقلاء في كل مجال، من الذين يعملون دون كلل أو ملل، لصالح العباد والبلاد، لأنهم جبلوا على حب الخير، ولم يصبهم وباء التهريج الفتاك... ولكن ماذا عسانا نقول أمام هذه الحالة من الانفلات، فإذا كان هؤلاء هم من بين عقلائنا، وإذا كان هؤلاء هم من بين من يشكلون جزءاً من نخبنا السياسية والدينية والفكرية والإعلامية، فلا غرابة أن يكون حالنا على ما هو عليه وأن تكون الأحقاد هي السائدة والعقل هو الغائب والحكمة هي ما نبحث عنه دون جدوى، وأن نكون طوال هذه الفترة ندور في حلقة مفرغة دون القدرة على الإهداء إلى ما يخرجنا من هذه الورطة..
همسة.. سياسيون (برلمانيون وبلديون) يملؤون الدنيا صراخاً والصحف تصريحات ويملؤون علينا الشوارع والطرقات والأحياء وأسوار البيوت والمدارس والملاعب بصورهم الشخصية مع عبارات التهنئة الفجة الجوفاء بمناسبة وبغير مناسبة، وتظل صورهم معلقة في الشوارع أياماً وأسابيع بابتساماتها الفجة المتكلفة -مع أن الناس لا ترى على الأرض أفعالهم الخيرة ولا تريد أصلاً أن ترى وجوههم المستفزة- بالرغم من أن تكلفة إعداد وأجر وتعليق الصور العملاقة في وجوهنا صباح مساء يكفي لتحقيق إنجاز على الأرض ولو كان صغيراً!! ألم نقل إننا في عصر التهريج!!!