Tuesday, May 15, 2012

الشيخُ القرضاوي والوعي بالديمقراطية

عبدالله خليفة
يتحدث فضيلةُ الشيخ يوسف القرضاوي عن الديمقراطية بشكلٍ أدبي، مؤيداً الديمقراطية ورافضاً الاستبدادَ والمستبدين، لكنه يحولها لمعنى عامٍ مجرد:
(إن جوهر الديمقراطية - بعيدًا عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية - أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يفرض عليهم حاكماً يكرهونه، أو نظاماً يكرهونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألا يُساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها ولا يرضون عنها. فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤه التشريد والتنكيل، بل التعذيب والتقتيل)، من مقالته الديمقراطية واتفاقها مع روح الإسلام.
وهذا في الواقع معنى عامٌ غيرُ تاريخي وغيرُ اجتماعي معلقٌ في الهواء، فلابد من معرفة هؤلاء الناس وفي أي سياقٍ وشروط تاريخية يعيشون فيها.
والشيخُ يفهمُ التاريخَ بشكلٍ ديني أدبي، ويطبقُ قراءته هذه على نصوص القرآن وتاريخ الإسلام، فحقيقةً أن الناسَ مساقون في عيشهم في عالم الاستبداد وفي ثورتهم عليه، الناس يظلون مهيمنٌ عليهم في المراحل التاريخية كافة التي عاشتها الإنسانية.
ثمة شروط تجعل من المستعبَدين يثورون، ولكن بيد من تبقى القيادة؟ وهل من يقودهم للثورة سوف يحقق الحرية؟ وهل هناك حرية مطلقة أم حريات نسبية مع تطور أشكال الإنتاج والأنظمة؟
ولهذا فإن الشيخ حين يصل إلى هذا المعنى العام المجرد الذي توصل إليه يمضي به إلى الديمقراطية الحديثة بقفزة واحدة.
فالديمقراطيةُ هي صراعٌ اجتماعي بين أغلبية شعبية وأقلية محتكرة للسلطة، لكن أي تغيير في السلطة المستبدة السابقة لن يؤدي بالضرورة إلى ديمقراطية شعبية وعدالة اجتماعية. فحين تظهر ادوات التصويت والبرلمان والاقتراع وغيرها من الأدوات الغربية الحديثة ويتم نقلها في الدول العربية فهذا لا يعني ديمقراطية موجهة لـ (الظالمين والمستكبرين) وكل هذه الكلمات التي يتفضل بها الشيخ يوسف. فما يحدث الآن هو انتقال السلطة من جماعة رأسمالية إلى جماعة رأسمالية أخرى.
فكلماتٌ مثل أن الحاكمَ (يفرضُ عليهم نظاماً يكرهونه) هذا تعبيرٌ أدبي، وليس تعبيراً موضوعياً، فمن الأنظمة من فرضَ نظاماً كان مقبولاً للناس في سنين لأنه يقدم لهم تطوراً اقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً. لكنهم ثاروا عليه حين عجز هذا النظام عن تقديم المكتسبات للناس، وتحولت الطبقة الحاكمة إلى عقبة أمام هذا التطور، وليس بالضرورة أن تكون ثورتهم والنظام الذي ينجمُ عنها مُلغيين لشروط الاستغلال بل جاءتْ أشكالٌ جديدة منه، ربما أخف ربما أسوأ حسب فاعلية الناس ووعيهم.
إن الشيخَ حين يصل لذلك المعنى المجرد المبهم غير الدقيق يواصل عرضَهُ التعميمي عبر توسيع نتائجه:
(هو جوهر الديمقراطية الحقيقية التي وجدتْ البشريةُ لها صيغًا وأساليب عملية، مثل الانتخاب والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة وحرية الصحافة، واستقلال القضاء.. إلخ).
ومرةً أخرى يضعُ الشيخُ القضيةَ في تجريد عبر قوله (وجدتْ البشريةُ)، فليس ثمة تجارب بشرية مطلقة بل هي التجربة الغربية الديمقراطية الرأسمالية، والبشريةُ لم تعرف غيرها إلا كلمحات طفيفة لدى اليونان في عصر المدن السابق.
وبالتالي فإن الشيخ القرضاوي حين يقطعُ جذورَ الديمقراطية وكيف نبتتْ يستمر في منهجهِ اللاتاريخي، وهذا المنهجُ يسمحُ له بالانتقاء، فيذكرُ شروطاً ويلغي شروطاً أخرى، حسب رؤيته وموقعه السياسي الاجتماعي.
فالديمقراطيةُ نظامٌ متكاملٌ تتداخلُ فيه السماتُ العلمانية والعقلانية وفصل السلطات، وهو لا يحققُ عدالةً مطلقة، بل هو صراع اجتماعي سياسي، وكل طبقة تقومُ بتقديم برنامجها، وتؤسس النظام بوحدةِ الطبقات العمالية والبرجوازية، واتفاقها عليه، وأبعدتْ منه رجالَ الكنيسة ومحاولاتهم الدخولَ ليس كأشخاص مستقلين ولكن كسلطة واستغلال حكمهم المطلق السابق في تاريخ أوروبا في الديمقراطية النسبية الجديدة، أي أن الديمقراطية هي صراع سياسي اجتماعي عصري بين قوى ذات برامج متباينة تجد الرفض أو القبول وتسهم في تطورِ البناء الاقتصادي والواقع ككل.
ثم بعد ذلك يعرضُ الشيخُ مقتطفاتٍ دينية قائلاً في إحداها:
(الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام، فهو ينكر أن يؤم الناس في الصلاة من يكرهونه، ولا يَرضون عنه).
هنا ينتقلُ الشيخُ من عبادةٍ دينيةٍ إلى معنى سياسي عصري مغاير، فهذه العبادة لا تتدخل في القرارات السياسية ولا تُتخذُ بالأكثرية والأقلية، فهي مظهرٌ عبادي، وتتحكم فيه الدولُ، فهل هذا المعنى الأخلاقي الذي ظهر في المرحلة التأسيسية في الإسلام غدا مظهراً سياسياً وكان الناس قادرين على تنفيذه في مختلف العصور؟
وكما يلغي الشروطَ الموضوعيةَ التي جرتْ فيها الصلاة وكيف هيمن الحكامُ على المصلين والفقهاء، فهو كذلك يلغي شروطَ تكوّن الرسالات النبوية عبر العصور ويضعها في فهمه الأدبي الإنشائي المجرد.
فيتوجهُ الشيخُ للعصور القديمة المعبرة عن زمنية العبودية وهو محق في نقدها بطبيعة الحال، لكنه يجعلها ثلاثة أطراف:
(وقد كشفَ القرآنُ عن تحالفٍ دنس بين أطراف ثلاثة خبيثة:
الأول: الحاكم المتأله المتجبر في بلاد الله، المتسلط على عباد الله، ويمثله فرعون.
والثاني: السياسي الوصولي، الذي يسخر ذكاءه وخبرته في خدمة الطاغية، وتثبيت حكمه، وترويض شعبه للخضوع له ويمثله هامان.
والثالث: الرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من حكم الطاغية، فهو يؤيدهُ ببذلِ بعض ماله، ليكسبَ أموالاً أكثر من عرق الشعب ودمه، ويمثلهُ قارون).
إن الأسلوبَ الانتقائي المستخدمَ هنا يبعدُ القضيةَ عن التاريخ العربي الإسلامي الذي بدأ فضيلةُ الشيخ من بؤرته، ولهذا فإن التاريخَ الموضوعي غائبُ الملامح، فمصطلحا الرأسمالي والإقطاعي يُوضعان في عصر العبيد، فما كانت زمنية الحكومات القديمة سوى أزمنةٍ عبودية وكانت فيها إنجازات حضارية كبيرة كذلك، ولكن لم يكن فيها سوى حكام وتجار ورجال دين وعبيد. ولكن القوتين المهيمنتين كانتا هما الحكام والكهنة، وليس هذه الكائنات الاجتماعية العصرية مثل الوصولي والرأسمالي. وهذا موجود في أي كتاب للتاريخ. وإخراجُ الشيخِ للكهنةِ أو لرجال الدين من الطبقة الحاكمة في عصر الفراعنة أو عصر بلاد الرافدين وكل التاريخ القديم هو أمرٌ له دلالته الاجتماعية السياسية.
يتوجه فضيلةُ الشيخ يوسف القرضاوي إلى الاهتمام بالعناصر الديمقراطية الجنينية الأولى التي أطلقها الإسلامُ في فضاء البشرية، مثل الدور الايجابي للخلفاء الراشدين وتعاملهم الإنساني مع المواطنين، لكن الشيخ يقف عند هذه العناصر ويعود للتراث ليستشهد بنصوص، وليس بتحليلاتٍ تبينُ أهمية هذه العناصر وظروفها وأهمية تطورها لاحقاً، فهذه العناصرُ لم تتطور لتغدُو مؤسساتٍ منتخبةً وتشريعية، أو يتطور دورُ أهلِ الحل والعقد ليغدو مؤسسةً منتخبةً مشرعةً قيادية تصدر عنها القراراتُ في الخلافة الراشدة، وخاصة في القرارات المصيرية كالحروب وتملك الأراضي العامة والتصرف بها ومنع تحولها إلى ملكياتٍ خاصة مُلحقةٍ بالدول فيما بعد عهد الحلفاء الراشدين كما جرى بالفعل.
ركز الشيخُ على العناصر الفردية والقولية الحكيمة، ولم يتطرق إلى العناصر التأسيسية في القرآن حول الدولة الشعبية وطبيعة المُلكيات فيها، وطبيعة السلطة المؤسَّسة على هذه الأملاك الشعبية الحرة السائدة.
ولهذا فإنه مع غيابِ سلطة الخلفاء الراشدين وتغير طبيعة الأملاك العامة العائدة للناس، ولم تعد كذلك، فإن تلك العناصر الديمقراطية لم تستمرْ بل أُلغيت.
ويقدمُ لنا القرآنُ طبيعةَ السلطة المُقامة على أساسِ قيادة الناس، عبر التحالف الاجتماعي بين التجار والعاملين، وعلى أساس تلك المُلكيات الصغيرة الواسعة الانتشار والحرة.
إن العناصرَ الديمقراطية في الإسلام جاءتْ من وجود مُلكيات كثيرة للفقراء، وللتجار بطبيعة الحال، ولكن حين تتركز المُلكية في قبيلةٍ ودولةٍ وجماعة واحدة، فإن تلك العناصرَ الديمقراطية تخبو، وتتحول الدولةُ إلى دكتاتورية.
تنامى توزيعُ الثروة على الجمهور، وكان يُنتظر أن يتوسعَ من خلال أراضي الفتوح ولكن ذلك لم يحدث كما نص القرآن، وكان سيوسعُ من تلك العناصر الديمقراطية، وهذا التوزيع هو الذي أوجد الجماعات والقوى الشعبية التي استطاعت هزيمة الإمبراطوريتين، وهذا التوزيع للأراضي الزراعية من الكنيسة والإقطاع في فرنسا هو الذي أسس الدولةَ الديمقراطية فيها، وهو الذي جعل الحكم السوفيتي رغم دكتاتوريته ينتصرُ على قوى التدخل الأجنبية.
إن استشهاد الشيخ يوسف بالسنة النبوية إضافة للقرآن ودورهما في تعرية الظالمين ونقد الفساد وتجبر الحكام ونقد الشعوب الساكتة عن حقوقها كذلك، كلامٌ صحيح وجميل، ولكن الركائز التي وُجدت من دور المُلكيةِ الخاصة الشعبية أو دور المُلكية العامة القائدة للعدالة والتطور الاقتصادي، هي الدعائمُ للتحول الديمقراطي في العصرين القديم والراهن.
إن فضيلة الشيخ يصل إلى نتيجة مغايرة لبداية مقالته:
(لقد قرر الإسلام الشورى قاعدة من قواعد الحياة الإسلامية، وأوجب على الحاكم أن يستشير، وأوجب على الأمة أن تنصح، حتى جعل النصيحة هي الدين كله، ومنها: النصيحة لأئمة المسلمين، أي أمرائهم وحكامهم).
لكن مجمل المقالة تعطينا لمحة مهمة عن مستوى فهم بعض الجماعات الدينية للديمقراطية، فالمسألة ليست النصيحة فقط ولكن أساساً إدارة المؤسسات العامة من قبل الأحزاب الفائزة في الانتخابات وقيامها بتنفيذ برامجها، ورؤية تراكم تجارب المسلمين وأسباب ضعفها وكيف تجاوزها بناءً على كل هذه التجربة الثرة.
لهذا فإن تجربة الاخوان المسلمين وما يصدر حالياً عن الفقهاء والسياسيين المتأثرين بهذا التيار، يتوقفون عند أساسيات عامة للديمقراطية كما تفضل الشيخ القرضاوي، فيما أن المعضلة أكبر وأعمق، فحتى حين تُذكر التجربةُ التركية يُعرضون عنها، دون تحليلها، وكيف أنها قامت على أساس قريب من التجربة الإسلامية الأولى وإن كانت بيد خصوم وقوى علمانية متطرفة، فظهور طبقة وسطى حرة ذات مشروعات ومصانع ومزارع وقوى عاملة متطورة مما شكل تقارباً اجتماعياً توحيدياً وطنياً نهضوياً أمكن بعده الرجوع لجذور الشعب الدينية فيحدث تخط للعلمانية المتطرفة، ونمو للحداثة وللديمقراطية وللتعددية الحقة من جانب آخر.
ولهذا فإن تجربة الإخوان المسلمين في مصر المناهضة لهذا التوحيد على أسس رفض الإصلاح الزراعي وعدم إنقاذ القرى والفلاحين كما جرى في السابق والذي يجب أن يُعاد النظر فيه ويُصحح، كذلك من الضروري تغيير طبيعة حياة العمال المتردية، والتركيز على أحداث تحول صناعي كبير في بلد تشكل فيه الصناعة الصغيرة والمتوسطة ٨٠%، من دون ذلك يستحيل حدوث تطور موضوعي وتتوجه الأمور لجوانب ذاتية.
إن دور فضيلة الشيخ القرضاوي على التجديد الديني وتأييد الثورات العربية وإعادة النظر في جوانب من الفقه هي مهمة لتطور المسلمين في هذا العصر، وهو يعبرُ بهذا عن نخبة صغيرة مؤثرة في حراك الملايين نحو إزالة أنظمة متكلسة.
إننا نرى ضرورة متابعة المسائل الاجتماعية والفكرية للعصر وعدم الانسياق وراء رأسماليات حكومية باذخة استهلاكية وعدم توسيع الاقتصادات الطفيلية، بعد الرفض الحاد للقطاعات الاقتصادية العامة الذي جرى، بل من الضروري تشكيل جبهة تحديثية من قوى الإنتاج المختلفة العامة والخاصة لإحداث الثورات الانتاجية وما يتشكل معها من تحولات ثقافية واجتماعية هي جزءٌ من تصحيح المسار في تاريخنا وإعادة هذه الأمة إلى قلب الحضارة العالمية، غير تابعة ولا مُنتزعة من تراثها.