Monday, May 28, 2012

مهزلة دولية اسمها الملف النووي الإيراني

عبيدلي العبيدلي
فشلت العاصفة الترابية التي هبت على بغداد في تأجيل موعد، أو تغيير مكان اللقاء الذي تم بين إيران ومجموعة (5+1) بشأن الملف النووي الإيراني، الذي كان من الممكن القبول بكونه مجرد اجتماع روتيني، ينعقد التزاماً بالقرار الذي خرج به لقاء إسطنبول الأخير، كي يركز جهوده على مناقشة المرحلة التي وصل إليها الملف النووي الإيراني، والإجراءات المطلوب اتخاذها للحيلولة دون انتقاله من المستوى السلمي، إلى المرحلة العسكرية، وهو الهدف الذي لم تتوقف آلة الإعلام الغربي عن الترويج له منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام. لكن ماسبقه، وما تلاه أيضاً، من أحداث وتصريحات ذات علاقة مباشرة بالدول المشاركة، وغير مباشرة بالأوضاع في منطقة الشرق تجعل المتابع له يكاد أن يجزم، بأن جدول أعماله لم يقتصر على البند النووي، بل طالت القائمة كي تشمل بنوداً أخرى، ليس الشرق الأوسط سوى الأشد حضوراً فيها، والأكثر أهمية فيما بينها. أول تلك الأحداث، كان إنقاذ البحرية الإيرانية المباغت لسفينة أمريكية تجارية في خليج عدن، إثر تعرضها، كما صرح مسؤول بالقوات البحرية الإيرانية “ لهجوم من قبل قراصنة”، الذين لاذوا بالفرار مجرد وصول قطع البحرية الإيرانية !! التي كانت تقوم، حسب قول المسؤول “بمهمة استطلاعية”، وصفت بأنها “روتينية”. نلفت هنا إلى أن الاستغاثة الأمريكية، والنجدة الإيرانية، وهروب القراصنة مجهولي الهوية، كل ذلك يتم تحت سمع وبصر الأسطول السادس الأمريكي الذي تجوب قطعه البحرية المتقدمة في الاتصالات والمزودة بأرقى الرادارات وأكثرها تعقيداً، دون أن يستشعر، ومن ثم يبادر لإنقاذ إحدى السفن الأمريكية التي هاجمها أولئك القراصنة، وساعدتها قطعة بحرية إيرانية تقوم بمهمة استطلاعية روتينية. ثانيها التصريحات المتناقضة التي سيطرت على أقوال الإدارة الأمريكية، ففي 19 مايو 2012، يخرج علينا الرئيس الأمريكي باراك اوباما بتصريح يقول فيه “إن زعماء الدول الثماني المجتمعين في كامب ديفيد نظرتهم موحدة حول المفاوضات المقبلة حول الملف النووي الإيراني”. ثم يعود كي يستدرك “إن إمكانية تحول البرنامج الإيراني النووي إلى إنتاج الأسلحة أمر يقض مضاجعنا جميعاً”. يعقبه بعد ذلك بثلاثة أيام فقط تصريح المتحدث باسم البيت الأبيض جاي كارني، قائلاً “من المهم أن نلاحظ أن الإعلان اليوم يشكل خطوة إلى الأمام”، لكنه هو الآخر يستدرك كي يشدد على “أن الولايات المتحدة ستحكم على سلوك إيران انطلاقاً من أفعالها”، وكأنما الأفعال الإيرانية بانتظار هذا التوعد الأمريكي كي تعيد النظر في السلوك الذي ستختاره. أما ثالثهما فهو ما رشح من تصريحات دولية في أعقاب اللقاء الإيراني مع الوكالة الدولية للطاقة في 21 مايو 2012، حيث أكد المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية يوكيا أمانو “أن المحادثات مع كبير المفاوضي النوويين الإيراني كانت موسعة وسيكون لها تأثير إيجابي على مفاوضات إيران مع القوى العالمية في وقت لاحق هذا الأسبوع”، ورد عليه سكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني الذي يمثل بلاده في المفاوضات مع الدول الكبرى حول البرنامح النووي الإيراني سعيد جليلي أن “بلاده والوكالة الدولية للطاقة الذرية أجرتا محادثات جيدة جداً حول تعاونهما المستقبلي”، مضيفاً “لقد أجرينا اليوم محادثات جيدة جداً وإن شاء الله سيكون هناك تعاون جيد بين إيران والوكالة الذرية”. مما يعني أن طي الخلافات، بافتراض صدق تصريحات من قالهما، والتوصل إلى اتفاق بات قاب قوسين أو أدنى. ونتوقف بتأنٍ، وتمعن مشترك عند الإشارة الرابعة، وهي الزوبعة التي ما تزال تعصف بالمكتب التنفيذي، ومن ورائه المجلس الوطني السوري المعارض، والتي قادت إلى الموافقة على استقالة أو ربما إقالة رئيسه برهان غليون، الذي أعلن فور قبول الاستقالة بأن “انسحابه من رئاسة المجلس الذي يضم 313 عضواً فور اختيار بديل له، تجنباً لمزيد من الانقسام”. وتناقلت وكالات الأنباء حينها أن “ قبول استقالة غليون، يأتي بعد حوالي أسبوع من بروز الانقسامات مجدداً داخل المعارضة السورية، حيث وصلت الصراعات الداخلية إلى القمة حول المنصب الذي كان يشغله غليون”، إلى جانب الخلافات حول الموقف من التدخل الخارجي في سوريا. ونصل إلى الخامسة، وهي ذات علاقة بالتداعيات التي أعقبت الاتهامات التي وجهت للجيش السوري الحر، وتحميله مسؤولية “خطف مجموعة من الحجاج الشيعة اللبنانيين في سوريا”، رغم نفيه ذلك، كما جاء على لسان رئيس المجلس العسكري للجيش الحر، الذي يتخذ مقرًا له في تركيا، مصطفى الشيخ، الذي قال لوكالة فرانس برس، “إن الجيش السوري الحر غير مسؤول أبداً. نحن لا نؤمن بهذه الطريقة. هذه محاولة لتشويه الجيش الحر”، وما تلا ذلك من مقتل الشيخ أحمد عبدالواحد الذي كان متوجهاً لحضور اعتصام لأهالي حلب في لبنان، عند مروره على حاجز للجيش اللبناني، وبين الحدثين، كانت تصريحات الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، بشأن خطف الجيش السوري الحر للبنانيين التي قال فيها إن “قيادتي حزب الله وحركة أمل سيتعاطيان مع موضوع خطف اللبنانيين في سورية بطريقة مسؤولة جداً”، مضيفاً :«هناك دول وقوى إقليمية مؤثرة في هذا النوع من الملفات”. في ذلك القول إشارة واضحة إلى الأحداث اللبنانية – السورية بإعادة تركيب سياسي قريب لمنطقة الشرق الأوسط. وننتقل إلى السادسة، وقبل الأخيرة، وهي احتمالات نتائج الانتخابات الرئاسية في مصر، التي تنذر، من وجهات النظر، الإسرائيلية والغربية – خاصة الأمريكية – والإيرانية، بوصول جماعة الإخوان المسلمين في مصر، الأمر الذي يعني إعادة رسم خارطة النفوذ السياسي، والانتماء العقائدي والمذهبي على حد سواء، من جديد، بما لا يتفق والمصالح الاستراتيجية والعقيدية للدول الثلاث، بالتقاطع وليس بالتوافق، ما لم يجرِ تغيير جذري في مشروع جماعة الإخوان إزاء المنطقة. وننتهي بالسابعة، وهي نتائج قمة مجلس التعاون الخليجي التي عقدت قبل أيام من لقاء إيران مع مجموعة (5 + 1)، وفي أعقاب زيارة الرئيس الإيراني أحمد محمود نجاد، التي صاحبتها ضجة إعلامية إثر التصريحات الاستفزازية التي أطلقها خلال تلك الزيارة، ثم تلتها دعوة إيران مواطنيها للتظاهر عقب صلاه الجمعة للاحتجاج علي ما وصفته بخطه أمريكيه تهدف إلي ضم البحرين للسعودية. وحث مجلس تنسيق الدعاية الإسلامية الإيراني، الذي ينظم المظاهرات نيابه عن الحكومة الإيرانية، “الإيرانيين على الاحتجاج على الخطة الأمريكية الهادفة لضم البحرين للسعودية، بحسب وصفهم
من الخطأ القاتل أن يقودنا فهمنا للأحداث والتصريحات إلى أنها “مؤامرة”، فليست هناك مؤامرة تعد في وضح النهار، وتحاك خيوطها على مرأى ومسمع العالم، أفراداً، ودولاً، ومؤسسات. لكن من السذاجة بمكان القبول بأن ما أعد له في بغداد، لا يعدو كونه مناقشة الملف النووي الإيراني، الذي سيواصل من شاركوا في لقاء بغداد استكمال نقاشاته في نهاية العام الحالي في موسكو. فلو كان الهدف، كما تروج الأطراف الضالعة في لقاء بغداد، وقف إيران عن الاستمرار في مشروعها النووي، لكانوا وضعوا طهران أمام خيارين لا ثالث لهما، إما انصياع طهران، دونما نقاش، لما تراه مجموعة (5 +1) صحيحاً، بغض النظر عن حق تلك المجموعة في فرض شروطها، وإما تصعيد موقف تلك المجموعة إلى مستوى اضطرار إيران للخضوع لها. هذا يعني أن هناك بنوداً إضافية، ليست محصورة في الملف النووي الإيراني، هي التي ستستأثر بنصيب الأسد من النقاشات، التي لا بد لها من أن تعرج على بند ذلك “الملف”. هذا يدفعنا إلى التوقف عند اجتماعات الملف برمتها، وإعادة قراءة جدول أعمالها بشيء من التمعن المشوب بالشك. فحقيقة الأمر إذا نظرنا إلى تلك الأحداث والتصريحات التي أوردناها في بداية المقال، وحاولنا إنضاجها بوضعها في قدر على نار هادئة، وإعادة قراءتها جميعاً وهي تتفاعل في طريقها نحو النضج، سنكتشف أنها جميعاً تشير إلى أن أكثر البنود هامشية على مائدة اجتماع بغداد، ولاحقاً في موسكو، لن يكون الملف النووي الإيراني، وإنما إعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط التي لا بد وأن تأتي في قمة اهتمامات جميع الدول المشاركة في اللقاء، بما فيها الدولة الإقليمية، والتي هي إيران. وبالتالي فلن ينكب المشاركون في لقاء بغداد، ويهدرون وقتهم في مناقشة موضوع، تشير كل الدلائل على أن هناك شبه إجماع على طريقة التعاطي معه، والتحكم، إلى حد بعيد، في مساراته، في مرحلة هم في أمس الحاجة إلى إمعان النظر في خارطة الشرق الأوسط، التي تؤثر مواقع أراضيها الاستراتيجية، الحاضنة لما يزيد على 25 % من الإنتاج العالمي للنفط، وتختزن ما يربو على 60% من احتياطيه، على سياستهم العالمية، وتمس مصالحهم المباشرة، كي يعيدوا رسم تلك الخارطة، الحبلى بالتغيرات، بما ينسجم مع تلك المصالح، ويحافظ عليها، ويضمن الدفاع عن كلتيهما: السياسة، والمصالح. لا ينبغي أن يقودنا كل ذلك إلى تصوير أن ما يجري في لقاء بغداد لن يعدو كونه “مؤامرة “ يحيكها المشاركون فيه ضد العرب والدول العربية، ففي ذلك الكثير من التسطيح السياسي، الذي غالباً ما نغرق نحن العرب في تحليلات مياهه الضحلة. فمن الطبيعي أن يحظى الملف النووي الإيراني بالاهتمام، لكن في الحدود التي يستحقها، دونما إغراق غير مجد، ولا قفز عليه غير مبرر. من أجل ذلك ولكي نزيل الأوهام من أذهان من يصرون على جدية أطراف لقاء بغداد في حصر نقاشات جلساته في موضوع الملف النووي الإيراني، لنفترض جدلاً، إن إيران أصرت، وبشكل علني، على حقها في امتلاك السلاح النووي، فهل هذا يعني قدرتها على استخدامه ضد أي من أعدائها، فيما لو اندلعت حرب بينها وبين أي من أولئك الأعداء. ولنأخذ العدو الصهيوني مثالاً للتدليل على عدم أهمية تسليح إيران نفسها نووياً. فرغم امتلاك تل أبيب للسلاح النووي منذ الستينات، إن لم يكن الخمسينات من القرن الماضي، فهي لم تجرؤ على استخدامه في أي من الحروب التي خاضتها ضد الدول العربية، بما فيها حرب رمضان في سبعينات القرن الماضي، عندما كادت تل أبيب أن تشهد أكبر هزيمة عرفها تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، فوجدناه عوضاً عن اللجوء إلى السلاح النووي، تستنجد بالولايات المتحدة التي لم تتردد في مدها بما تحتاجه من سلاح وعتاد ودعم إعلامي ودبلوماسي، قاد في نهاية الأمر إلى وقف التقدم المصري، وصولاً إلى معاهدات السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل. من هنا ليس هناك أكثر من طهران ذاتها إدراكاً، بأن هناك ما ينبغي أن يكون أكثر أولوية من امتلاك السلاح النووي، إنما مستقبل خارطة العلاقات وأطلس التحالفات القادمة في منطقة الشرق الأوسط، الآخذة معالمها في التشكل، وهو الأمر الذي يسيل له لعاب من لهم مصالح فيها من أمثال مجموعة (5 + 1)، أو يثير مخاوف من ستمسهم تلك التحولات بشكل مباشر مثل إيران. تأسيساً على ذلك، فإن ما يدفع أطراف لقاء بغداد أن يروجوا لعنوان محادثاتهم، كي يوهموا العالم بأنها ستكون محصورة في القضية النووية هي مجموعة من الأسباب يمكن تحديد الأهم من بينها في النقاط التالية: 1. بالنسبة لإيران، ليس هناك ما بوسعه سحب البساط من تحت خصومها الداخليين، وهم كثر هذه الأيام، وتحييد القوى القومية والعقائدية المعارضة لها، أفضل من جر البلاد إلى معركة خارجية، تظهر فيها طهران أنها مجبرة على خوضها، كما تبدو فيها أيضاً، أنها ضحية مستهدفة من “الدول العظمى”، بقيادة “الشيطان الأكبر”، الذي هو الولايات المتحدة. الحكم في طهران اليوم، في أمس الحاجة إلى تماسك داخلي ملتف حول السلطة، يعينه على خوض معاركه الإقليمية الخارجية، مثل الخلاف على تسمية الخليج، والحق في امتلاك التقنيات النووية، والحيز السياسي والاقتصادي الذي تطمح هي لاحتلاله في خارطة الشرق الأوسط. 2. أما بالنسبة لدول مجموعة (5 + 1)، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة، فهي الأخرى بحاجة اليوم إلى قناة شرعية توفر لها القدرة على استمرار الاتصال مع طهران، وتمدها بالغطاء العلني الشرعي الذي يبيح لها إجراء أية مفاوضات تجد نفسها في حاجة لها. على نحو مواز أيضاً، تدغدغ الإدارة الأمريكية، من خلال إثارة الرأي العام الأمريكي والدولي ضد إيران، وسعيها للوصول إلى حل بشأن المسألة النووية، غرائز المجتمع الأمريكي، وتحرف أنظاره عن المشكلات الداخلية التي يعاني منها، والتي ولدتها الأزمة المالية التي عصفت بالاقتصاد الأمريكي، وماتزال تداعياتها، تشكل تهديداً مستقبلياً ماثلاً أمامه. كل ذلك يجعل المواطن العربي يرى فيما جرى في بغداد، وقبل ذلك في إسطنبول، ولاحقاً في موسكو، بشأن الملف النووي الإيراني ما يشبه المهزلة الدولية التي سوف تستمر لفترة قادمة، ولن تتوقف قبل أن يصل الطرفان الأساسيان في تلك اللقاءات، وهما إيران والولايات المتحدة إلى اتفاق واضح المعالم، ينظم العلاقات فيما بينهما، ويزيل عقبات الخلافات التي تقف في طريق مساعيهما المشتركة للوصول إلى صيغة تحالف قوي قابل للصمود في وجه العواصف التي يرونها في انتظاره