مأزق الوفاق ليس سياسيًا بل ثقافيًا؛ فمشكلة الوفاق في ما هو محشو في عقل قياداتها قبل جماهيرها من معطيات تخالف الواقع، وبناء على تلك المعطيات فإن كل ما تحلم به وتخطط له يوّلد كوابيس تعود بتبعاتها على جماهيرها. إذ حتى الأحلام تتزود من مخزونك الفكري؛ من أفكار وصور ومحصلات لغوية مخزنة بعقلك الواعي أو الباطن، فإن كان مخزونك غير واقعي، فماذا تنتظر من أحلامك؟ لذلك لا يعجب أحد حين يسمع الوفاق تسأل ''من هم هؤلاء الذين وجهت لهم دعوات الحوار؟''، فما ذلك إلا لأنها تنطلق من معطيات مخزونها الواعي وغير الواعي -الخط الفاصل عند الوفاق غير واضح- فقد حصرت الشعب البحريني في جماعتها والمعارضة في جمعيتها، معطيات غير واقعية احتكرت العلامات التجارية للشعب البحريني بجماهير الوفاق، واحتكرت المعارضة بمواقفها؛ لهذا هي تسأل من هؤلاء؟. الوفاق تذكرني بنكتة سمعتها مؤخراً؛ تونسي يشتكي لمواطن ليبي يقول له هل سمعت بن علي رئيسنا لمدة تزيد على 23 سنة ظهر علينا في آخر خطاب له يقول لنا ''الآن فهمتكو''، رد عليه الليبي إحمد ربك نحن ترأسنا ''معمر'' 40 سنة وظهر ليسألنا في خطابه الأخير ''من أنتم''؟! ولأن الوفاق إلى الآن لم تستوعب أن هناك جموعاً بحرينية غفيرة ظهرت في الفاتح، وأن الحوار سيشارك فيه بحرينيون لا يتبعون الفقيه، فتسأل من هؤلاء؟ باعتراف الوفاق وقد سمعته من أكثر من نائب برلماني أنهم -حين شاركوا في العمل النيابي في الفصل التشريعي الثاني- اكتشفوا أن العديد من الصور كانت مشوهة عن هذا الآخر (منبر أو أصالة أو مستقلين أو وزراء أو أفراد أو أسر). في السنوات الأربع الأخيرة، وهي المرة الأولى والوحيدة التي يجلسون فيها على طاولة واحدة ويشتركون فيها مع آخرين في عمل سياسي كما حدث في لجان التحقيق، أو يشاركون فيها أعضاء من السلطة التنفيذية اكتشفوا أن الصورة لم تكن متطابقة تمامًا مع الصورة المخزنة في الذاكرة، إذ أقروا أن العمل كان منسجمًا ومهنيًا في كثير من الأحيان مع هذا الآخر المجهول بالنسبة لهم. الشاهد؛ أن تلك التجربة الاندماجية كانت الوحيدة اليتيمة وعمرها الزمني كان قصيراً، ولم تتح لها فرصة كي تتأصل، إذ سرعان ما عادت الوفاق لعزلتها من جديد في بداية الفصل التشريعي الثالث وفرضت على نفسها الطوق بعد أن أوغلت في الابتعاد عن هذا الآخر أثناء أحداث فبراير، بل وأجبرها ثلاثي الائتلاف الجمهوري على العودة مرة أخرى لداخلها المغلق، فعادت وكلنا نعرف أن نصف أعضاء الوفاق -على الأقل- مرغم ومجبور وساكت! مشكلة هذا الانغلاق وتلك العزلة أنها بنيت على تلك المعطيات غير الواقعية، والتي لا تقتصر على إلغاء كل الشعب البحريني فحسب بل على اقتطاع البحرين من سياقها الجغرافي والتاريخي، لهذا صُدمت جماهير الوفاق من وجود الفاتح، ولهذا صدمت من دخول درع الجزيرة رغم أن البحرين ودول الخليج كل لا يتجزأ حتى قبل قيام مجلس التعاون وقبل اتفاقيات التعاون العسكري، ولهذا صُدمت الآن من الدعوات التي وجهت لبحرينيين للمشاركة في الحوار، وستظل جماهير الوفاق تخرج من صدمة وتدخل إلى أخرى حتى تعود للواقع على الأرض أو تبقى معزولة إلى الأبد تسبح في فضائها، وهذا يعني انتحار سياسي لقيادتها مع سبق الإصرار. مأزق الوفاق هو شارعها هو أبناؤها الذين تأخرت في مساعدتهم على كسر الطوق وتغيير صور المخزون الثقافي لديه، مأزقها أنها لم تنقل لهم زخم التجربة القصيرة، لم تكاشفهم بما تعرفت عليه، ودون ذلك التغيير لن تتمكن جماهير الوفاق من التعايش مع بقية شعب البحرين، ولن تتمكن من الاندماج مع واقعها المحلي والإقليمي وهذه أكثر مأساوية. قيادات الوفاق خاصة تلك التي خاضت التجربة لم تكن صادقة مع جماهيرها، خشيت من اتهامها بالانسلاخ والطيران خارج السرب، وأجزم أن ذلك الوعي الجديد المكتسب من الخبرة العملية البسيطة كان كافيًا لكسر الطوق لو قدر له أن ينتشر بين الناس، لو امتلكت القيادات جرأة المبادرة بمواجهة المأزق الثقافي وتغييره أو بالأحرى إعادة ترتيب أوراقه وإدماجه بالواقع البحريني، إنما تلك المعطيات الجديدة كانت أكثر ما يخيف أصحاب الائتلاف الجمهوري فهي تقضي على مشروعه مشروع دولة ولاية الفقيه، لذلك سارعوا بإغلاق الباب من جديد على الكتلة النيابية قبل أن تستفيق فلم ينتظروا اكتمال دورة انعقاد أخرى تعزز من هذا الاندماج، لذلك سارعوا في إعلان الانقلاب. وعادت الوفاق من جديد الآن لعزلتها غير الواقعية؛ العزلة ليست طوقاً أمنيًا على مداخل ومخارج القرى الآن، فالوفاق تخطئ من جديد إن اعتقدت أن العزلة الأشد هي العزلة الأمنية؛ بل الأشد هي تلك العزلة الاجتماعية مع المجتمع البحريني، تلك هي الأخطر والأشد وقعًا. العزلة عن العمق الخليجي هي الأخرى ذات أبعاد مأساوية على الشيعة (تابع صعوبة عبورهم جسر الملك فهد) العزلة الاجتماعية انسحبت لا على الطائفة الشيعية التي جرتها قسراً معها في مغامرتها بل حتى على أعضاء الجمعيات السبع الأخرى ومنهم سُنة، وأكثر من عانى منها عائلات أعضاء جمعية وعد الذين عزلوا في المحرق بشكل مؤلم لم يشهدوه في حياتهم. فما هي مكاسب تلك المغامرة؟ بعض التعديلات الدستورية بمساعدة مسؤولين أمريكيين ومنظمات حقوقية ووسائل إعلام؟ ربما.. إنما انظر ماذا خسرت بالمقابل. لأول مرة في تاريخ البحرين تحدث مقاطعة تجارية مبنية على أسس طائفية، لأول مرة تُشكّل لجان شعبية أمنية للأحياء السكنية على أسس طائفية (وقت الأزمة)، تلك مؤشرات فقط وغيرها كثير لو شئتم المصارحة، هذه مؤشرات تدلل على عمق الجرح الذي أوغرته الوفاق وحجم الطوق الذي نسجته حول نفسها حتى ضاق بها الوطن. وكلما علّقت الأسباب على أي شماعة ضحكت على نفسها -كما تتهم الإعلام الآن- أنكم إنما تزيدون من عزلتكم أكثر وتحكمون الطوق أكثر، فالإعلام سيجد له متنفساً، الأمر خرج من يد الدولة إنه الآن بيد الشعب البحريني، إذ قد تتمكن من إسكات الإعلام الرسمي إنما هل تستطيع إسكات الناس والنفوس المتنافرة؟. المسألة تحتاج أكثر من تعليق الأسباب على غيركم، المسألة تحتاج لجرأة غير معهودة منكم في الالتفاف للداخل إنما من أجل المصارحة والمكاشفة -وهذه حقيقة- استبعدها عنكم. فالوفاق لم تجرؤ يومًا على مكاشفة جماهيرها وقت الرخاء السياسي - وهذه كانت غلطتها- فهل تستطيع أن تجازف الآن والأجواء موتورة؟، الأمر يحتاج لأكثر من جرأة، الأمر يحتاج لإيثار يصل إلى حد المهمة الانتحارية. قيادات الوفاق الآن خاضعة للإرهاب الجماهيري، وجماهيرها موتورة لأنها مصدومة بالواقع الذي يتكشف لها يومًا بعد يوم، مصدومة بحجم العزلة الاجتماعية محليًا وإقليميًا، قيادات الوفاق الآن ترس في اللعبة وليست متحكمة فيها، هي الآن على مقعد القيادة ويدها على المقود لكنها خاضعة لاندفاع الماكينة التلقائي. حزب الله في الخارج يجلدها بسياط الالتزام بالحلم وبالمخطط وبالمشروع الانفصالي، وجماهيريها تجلدها بسياط الوفاء (لضحايا) المغامرة. وعودة على بداية المقال سنرى أن مأزقها الثقافي هو الذي قادها إلى مأزقها السياسي، مخزون ثقافي صُدم بعدم واقعية معطياته حين نزل إلى الأرض، اليوم تنساق قيادات الوفاق كما الشاة على مذبح ذلك المخزون المشوه الذي تعرف هي أكثر من غيرها حجم تشوهاته، لذلك لا يتحدث باسمها الآن إلا من يملك قدرة أكثر من غيره على الأداء المسرحي
سوسن الشاعر
صحيفة الوطن - العدد 2025 الأثنين 27 يونيو 2011
سوسن الشاعر
صحيفة الوطن - العدد 2025 الأثنين 27 يونيو 2011