Friday, June 15, 2012

متطرفون

عهود الأخضر
حينما يختل الميزان تضطرب الأحكام، وحينما يترك الإنسان المنتصف ليعيش في الطرف يفقد القدرة على رؤية نسبية الأشياء، فتكون مواقفه عادة عند أقصى القطب من اليمين إلى أقصى القطب في اليسار، وهنا نطلق عليه مصطلح "متطرف" الذي ارتبط تعسفاً بالدين، بالرغم من أن التطرف صفة فردية.. وهي تنشأ أولاً وقبل كل شيء من بواعث نفسية لا علاقة لها في الأصل بالعقيدة الدينية، فالمتطرف يتطرف في جميع مواقفه وسلوكياته.
وترجع المدرسة النفسية التطرف إلى عدوان يظهره الفرد على شكل طاقة انفعالية لا بد لها من متنفس، ويتخذ لذلك موضوعاً معيناً تفرغ فيه الشحنة الزائدة، وإذا لم يتمكن العدوان من أن يصل إلى مصدر، فإنه يلتمس مصدراً. ويرى بعض الباحثين أن التعصب هو اتجاه نفسي لدى الفرد يجعله يدرك فرداً معيناً أو جماعة معينة أو موضوعاً معينا إدراكاً إيجابياً محباً أو سلبياً كارهاً دون أن يكون لذلك ما يبرره من المنطق أو الشواهد التجريبية. أما المدرسة الاجتماعية فترد كل شيء إلى تأثير المجتمع وأوضاعه وتقاليده، كما يقول الفيلسوف الفرنسي اميل دوركايم "وما المرء إلا دمية يحرك خيوطها المجتمع".
في حين أن المدرسة المادية التاريخية تضع الاعتبارات المادية أساساً لتفسير الظاهرة، فمثلاً ترى أن الدوافع الاقتصادية، هي التي تصنع الأحداث، وتغير التاريخ.
لكن الحقيقة هي أن التطرف يجب أن ينظر إليه نظرة شاملة، وهذه النظرة الشاملة ترجع إلى أن الأسباب المؤدية للتعصب والتطرف الفكري والسلوكي في حقيقتها أسباب متشابكة ومتداخلة، وكلها تعمل بأقدار متفاوتة، مؤثرة آثاراً مختلفة، قد يقوى أثرها في شخص ما وقد يضعف.
ولما كانت مجتمعاتنا العربية مكمنا لجميع التناقضات الطبقية والسياسية والإيديولوجية الدينية، أصبح التطرف صفة الكثيرين فيها، وتم خلق فئة من الشباب المتعصب الذي لا يعرف الحقائق ولم يسمح له بمعرفتها، لأنه عاش في سجن فكري صنعه بعض المتشددين المنتفعين والمتاجرين بالدين، الذين فسروا النصوص حسب ما يتوافق مع رغبات العنف والعنصرية والرغبة في الإرهاب والتسلط والإقصاء، ثم شهدنا ما شهدنا من عمليات إرهابية راح ضحيتها آلاف الأبرياء، بالرغم من أن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الحكيم: (قل يا أهل الكتاب لا تغلُوا في دينكم غير الحق ولا تتبِعوا أهواء قوم قد ضَلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبِيل).
من المفارقات الغريبة أننا أصبحنا نرى تطرفا من نوع آخر الآن.. تشكل بسبب أزمة وعي أدت إلى إلحاد البعض، ولا أدري إن كانت هذه ردة فعل طبيعية نتيجة القمع المجتمعي لحرية التعبير وعدم الرد المنطقي على التساؤلات الفكرية الدينية التي تدور في عقول الشباب! أم إنها نتيجة أخطاء تربوية فادحة مما جعل البعض يتمرد بصورة هروب من الدين؟
وبين هذا وذاك تبقى ظاهرة الإلحاد تنم عن خلل ما، يجب أن ننظر إليها نظرة واقعية، باعتبارها ظاهرة أصبحت موجودة، ولا بد من التعامل معها، حتى يتم احتواؤها، وبالعقل وحده يمكن الاهتداء إلى العلل الحقيقية الكامنة وراءها، وعدم الانسياق وراء أحكام آنية، تنجم عادةً من موقف عاطفي متشدد، ولا تصدر من دراسة متأنية مستبصرة.
وبنظرة مقتضبة إلى مجتمعنا نجد أن التطرف لم يطل الأمور الدينية وحسب، بل تجاوزها إلى تطرف رياضي، وهناك أيضاً التطرف القبلي، والتطرف المناطقي، ولكن يبقى التطرف الديني هو أخطرها، ويبقى ضيق البصيرة أحد أسباب ثورة التفسخ، وهنا نرى الطيف الاجتماعي الركيك فكرياً ينتقل ما بين أقصى اليسار أو العكس ويظل الوسط هو طوق النجاة.