Friday, June 15, 2012

ربيع الدولة الوطنية

أحمد الشرعبي
اعتبار ثورات الربيع العربي جزءاً مكملاً لثورات التحرر التي قامت ضد الاحتلال الخارجي المباشر ونشأت نظمها الجمهورية تحت وطأة المستبد التابع مالك ومخترع هتاف (بالروح والدم...) الأمر الذي وسم الأوضاع الداخلية في معظم البلدان الربيعية بعبثية ما قبل الدولة.
ولئن كان المؤمل اقتران التغيير المبشر به في مصر وليبيا وتونس واليمن وسورية بمضمون سياسي واجتماعي جديد يحمل عنوان الدولة الوطنية، فما هو الأفق المتاح أمام هذه الدولة.. ولماذا نختارها وسطاً بين الحالة الثورية الجانحة نحو الغضب و(شيزوفينا) الشعار الملتهب وبين الآمال المعقودة على قيام الدولة المدنية؟
ما أعلمه تحديداً ويدركني اليقين به أن المدنية التي تسود مجتمعات الرفاه والمتحررة من رواسب "العسكرتاريا" إنما يحققها مسار تطور تاريخي تنمو خلاله مفاهيم حداثية تؤصلها ثقافة التعايش والسلام وتتبلور ضمن منعرجاته جدلية الصراع السياسي والاقتصادي بين طبقات المجتمع، الأمر الذي ينتج الجديد من وظائف الدولة الضامنة استقرار وديمومة موازين العدالة وتكافؤ الفرص بين مختلف الأنشطة والفعاليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتشاركة في إنتاج الرفاهية والمؤمنة بدور الدولة المدنية ومسؤوليتها عن حماية مواطنيها من الاستئثار والسيطرة والطغيان.
فهل يشي الواقع المعاش في أي من بلدان الربيع الثائر أو غيرها من الأقطار العربية بدلالات تؤكد اكتمال مقومات نشوء الدولة المدنية أم إن الحديث عنها يأتي من قبيل الترويح على النفس وازدراد شعارها ليستقر في معدة كسولة لم تستطع بعد هضم الوعود التي أطلقتها ثورات العرب منذ أربعينات القرن العشرين؟
إننا كما هو حال المترددين على عيادات الطب النفسي نلوذ بأحلام اليقظة ونسقط معها في دوائر الوهم الكاذب..
نحن لا ندعو لحرمان الناس من معاقرة الأحلام ولكننا غير قادرين على تمرير مخاتلات الساسة حتى وإن تبنى كبرها أو انطلى غثاؤها على شباب الربيع العربي.
أولئك الثوار الليبيون الذين أجهزوا على القذافي بعد وقوعه في الأسر وبتلك الصورة المزرية كيف يستطيعون إقناعنا بأهليتهم لقيادة دولة مدنية؟ وهؤلاء المتحمسون لإقامة دولة للمساواة في اليمن كيف نعثر على أثر لمصداقية خطابهم بينما لا يستطيعون الفكاك من عقدة الاصطفاء وأنانية التمييز والتميّز السلالي بما يعادل توجهات أحزاب أخرى التحقت بالثورة وفرضت وصايتها على ساحاتها ولم يدركها الحرج من تكسّب الثمن جرياً على شغفها المعتاد بنصيب من ذات السلطة التي لم تعد هدفاً للإسقاط؟ ومن أين لشمس الدولة المدنية أن تسطع بينما الأحزاب السياسية المصرية تتوافق على الاحتكام لشروط التنافس على ثقة الشعب وتقبل وتخوض هذه المنافسة وتشارك في مختلف إجراءات الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وحين تأتي النتائج خلافاً لتوقعاتها تخرج شاهرة سيف الاستقواء بالثورة على صناديق الاقتراع؟
لهذا تغدو الدولة الوطنية الديموقراطية أفضل الخيارات المتاحة في مثل أوضاعنا العربية الراهنة مما يستدعي الوقوف أمام تصورات واضحة لمشروعها المرحلي ريثما تنضج شروط وإمكانات قيام دولة مدنية قادرة على مقاومة عوامل الوهن.
ترى ما هي ملامح هذه الدولة؟ أهي كيان منعزل خلف قضبان السيادة ونواميس الكائنات المنغلقة على الذات كما لو كان ذلك موضة حنق خانق أم إنها حالة من حالات إعادة التموضع لدى الجيوش البرية عندما تجد نفسها دون غطاء؟ وكيف تبدأ هذه الدولة مهامها وأين تنتهي..؟ أهي محمية تخلف يستوطنها بشر لم يلحقوا قطار العصر..أي شيء تكون وبمن..؟ وما مدى قدرتها على التكيف في ظل سباقات العولمة وصراعات المصالح وبؤر الاستقطابات الإقليمية والدولية؟ وهل من نماذج أو بالأحرى تجارب سابقة حالفها النجاح في إقامة الدولة الوطنية؟...إنها أسئلة شائكة تحوم المقاربات الفكرية حولها، لكنها لا تستطيع الإجابة عليها بمعزل عن إرادة سياسية وشعبية يتصدرها مشروع وطني لا تقيده الإيديولوجيا كما في النموذج الكوبي أو السوداني.. ولا دموية العنصر على شاكلة الكيان الصهيوني..
إن تشخيص الأوضاع التي انتهت إليها أنظمة الحكم المطوح برؤوسها يتلخص في شقين، عبثية ما قبل الدولة على الصعيد المؤسسي مقابل هياكل سلطة رخوة تتقمص (يوتوبيا) الشرعيات الجمهورية حسب حاجة الحاكم الفرد ووفقاً لمقولة القيصر: (أنا الدولة والدولة أنا).. لهذا يكون من المتعذر بناء دولة مدنية على أنقاض إرث ما قبل الدولة الوطنية ويغدو من المستحيل بناء أي شكل من أشكال الدولة المؤسسية على أرضية من حطامات الماضي وخرائبه المتداعية. وإذا اعتبرنا أن ما حدث في بلداننا ثورة شعبية لها نفس خصائص الثورات وسياقاتها فإن معنى ذلك استحالة الانتقال التلقائي المباشر من زخم الثورة وعنفوانها إلى أحضان الدولة المدنية بانسيابية أدائها وسلاسة ونضج رسالتها دفعة واحدة، إذ يتعين أن تمثل الدولة الوطنية أساساً لمرحلة انتقالية ضمن وسائط الارتقاء المتدرج إلى المدنية كنظام للحكم وبناء المجتمع وكفلسفة للحياة برمتها.
أتوقف مضطراً بحكم مساحة الحيز المتاح على أن للحديث بقية من تجاذبات الآلام والآمال، متذكراً مطلع أشهر الأناشيد اليمنية للشاعر الكبير مطهر الإرياني.
(يا قافلة عاد المراحل طوال
وعاد وجه الليل عابس)