Friday, June 15, 2012

بين التسلطّية العسكرية و الإخوانية

سليمان تقي الدين
خرجت جموع من الشعب المصري إلى الشارع احتجاجاً على الأحكام القضائية التي صدرت بحق الرئيس المخلوع ونجليه وبعض أعوانه. رأى المحتجون أن الأحكام جنائية شخصية قاصرة عن محاكمة النظام. في تلك الرمزية بدا أن النظام يقاوم التغيير ما أعطى أحد أركانه فرصة أن يكون مرشحاً منافساً للرئاسة وربما الأوفر حظاً فيها. سرت موجة من الغضب لأن المؤسسة العسكرية لم تطبق “قانون عزل الفلول” على رئيس الحكومة الأسبق. تقوم المؤسسة العسكرية بضبط حركة الثورة من توقيت قانون الانتخاب، إلى شكله، إلى لجنة الطعون والهيئة التأسيسية الدستورية.
خطف الإسلاميون رصيد الثورة الشعبي في الانتخابات النيابية، وخطف المجلس العسكري الانتخابات الرئاسية. وأصبح الشعب المصري بين خيارين أحلاهما مرّ. توطيد سلطة الإسلاميين الشمولية أو إحياء النظام بعصب المؤسسة العسكرية ونفوذها. يكاد التنافس هذا يستعيد مخاطر المشهد الجزائري في تسعينات القرن الماضي بين الدكتاتورية المدنية والشمولية الإسلاموية.
كانت ثورة 25 يناير ديمقراطية سياسية تحمل مضامين اجتماعية وطنية. أسقطت السلطة ولم تفكك قوى النظام. أرست منسوباً متقدماً من الحريات والتعددية وتوازن السلطات، وقصّرت عن تكوين مرجعية للتغيير في مؤسسة دستورية. ربما استدرجت الثورة إلى معركة السلطة والانتخابات قبل تكوين الهيئة الدستورية. الشرعية الدستورية يتنازعها المجلس العسكري والبرلمان، النظام والإسلاميون. أما شرعية الثورة فقد انقسمت على ذاتها. إذا اتفق العسكر والإسلاميون وقع الانقلاب على مكتسبات الثورة، وإذا تصارعا تعرضت مصر لخطر نزاع أهلي يهدد الدولة. لم يستجب طرف السلطة الفعلية لمطلب “المجلس الرئاسي المدني الانتقالي”. يحتفظ المجلس العسكري ويهدد بإصدار الميثاق الدستوري منفرداً، وتهدد الأكثرية البرلمانية بسلطتها في التشريع.
أفرج المجلس العسكري عن قرار تشكيل الهيئة الدستورية. هنا المعركة الأساس التي استأخرها وضع العربة أمام الحصان.
شكلت محاكمة رموز النظام صدمة حقيقية. لا الإرث القانوني يسمح بمحاكمة سياسية شاملة، ولا التوازن السياسي يسمح باستئناف هذه المحاكمة. نصف الثورة هذا يفتح المواجهة ليس على توزيع السلطة فقط، بل على ركائز النظام.
ثلاث قوى تتنازع مستقبل مصر أظهرتها الانتخابات الرئاسية متقاربة. أكدت النتائج أن الإسلاميين لا يمثلون أكثر من ثلث الكتلة الناخبة في الاختيار السياسي على المستوى الوطني. رغم ذلك لديهم ميول استئثارية واضحة فلم يشاركوا قوى الثورة الأخرى ولم يتعاونوا على مرشح يسد الطريق أمام “فلول النظام”. ليس هذا المأخذ الوحيد ضدهم. فقد حاولوا الهيمنة على لجنة صياغة الدستور. سرّعوا بإجراء الانتخابات رغم تحفظات الآخرين قبل أن تتمكن الثورة من فرض إصلاحات دستورية حقيقية. فما زال النظام الرئاسي هو القائم رغم الأكثرية البرلمانية التي استأثروا بها. إذا كان ذلك يعطي مرشح النظام والمؤسسة العسكرية حججاً دامغة للطعن في مصداقيتهم السياسية وتنكرهم لوعودهم، فضلاً عن شرعية القلق من نزوعهم إلى المسّ بالحريات العامة وبالإرث المدني لمصر، فإن ذلك لا يعني أن هذه الحصيلة السياسية لم تكن نتيجة لتواطؤ معروف بين المؤسسة العسكرية وبينهم. هم الآن يهادنون النظام ولو كانوا في منافسة مع مرشحه الرئاسي. لم يسهموا في تحويل محاكمة رموز العهد السابق إلى محاكمة سياسية للنظام. بل يمكن القول إنهم خارج معركة هذه المساءلة والمحاسبة، فهم لا يقاومون النهج الاقتصادي والاجتماعي ولا يتصدون لفتح ملف السياسة الخارجية لمصر وخياراتها في الدفاع عن أمنها القومي. في مكان ما يؤدون وظيفة تجديد النظام وتعزيزه بقاعدة شعبية بعد انهيار شرعيته ويتناغمون مع المؤسسة العسكرية والإدارة الغربية الأمريكية، خصوصاً في احتواء الثورة وتحجيم مفاعيلها. القيادة السياسية للإسلاميين تتحول بسرعة إلى جناح من أجنحة النظام، لكن جمهورها ليس كذلك. أظهرت الوقائع الأخيرة انحسار الموجة الشعبية التي حظوا بها في الانتخابات التشريعية. يتزايد الحذر والتحفظ على خطابهم السياسي وممارساتهم. المشكلات التي تراكمت بعد الثورة تضغط باتجاه أمرين، إما تعميق مسار التحول السياسي وإما المخرج “البونابارتي-النابوليوني” الذي يدعيه لنفسه المجلس العسكري.
لا ندري ما إذا كان ممكناً الآن إخراج الثورة من هذه الأزمة، بالعودة إلى الصراع على مضمون الدستور وهيكلة النظام وتوزيع السلطات وتوازنها. حتى هذه اللحظة لم تدخل الثورة في مواجهة هذه التحديات الأساسية.
مهما تكن نتائج الانتخابات الرئاسية إذا حصلت وتكاد تكون محصورة بين الجناحين المدني والعسكري من النظام، فإن المواجهة بدأت مجدداً في الشارع. هذه المرة على قوى التغيير أن تعالج مشكلاتها التنظيمية والبرنامجية انطلاقاً من رصيدها الوطني الذي برز في الانتخابات الرئاسية. تحتاج قوى التغيير إلى حركة فرز وضم في المعركة المقبلة. عليها أن تستقبل المزيد من جمهور الحركات الإسلامية حول البرنامج الإصلاحي الاجتماعي والسياسي، والمزيد من الجمهور المدني الديمقراطي الذي يقلقه ويخيفه تجديد النظام بأدوات عسكرية أو مدنية، كلاهما يصادر شعارات الثورة وطموحات الناس ولا يقدم بديلاً لأزمة عميقة وشاملة.
أفرج المجلس العسكري عن قرار تشكيل الهيئة الدستورية لكنه بذلك احتفظ لنفسه بالقدرة على إدارة الحوار والنتائج، خاصة إذا فاز مرشحه في معركة الرئاسة.