Friday, June 15, 2012

روسيا.. موسم الخسائر

يحيى الأمير
في الواقع لم يكن الروس أصدقاء لنا على المستوى الشعبي، بل إن روسيا لا تعد من وجهات السفر التي يقصدها السعوديون باستمرار، وخلاف البعثات الدبلوماسية، وبعض المبتعثين لم يحدث أن مثلت روسيا بلدا أو ثقافة حاضرة أو مؤثرة في الوجدان السعودي أو العربي. بالطبع كان المفترض أن يمثل ذلك الغياب مدخلا للسياسة الروسية لتصنع لبلدها ولمجتمعها صورة إيجابية لدى شعوب المنطقة العربية، ولتلتحق بركب كثير من الدول العظمى التي أدركت مبكرا أن عظمتها تفرض عليها أن تتجه نحو الشعوب بذات الحرص الذي تتجه به الحكومات، لكن على ما يبدو أن الروس لا يدرون أن ذلك كثير، أو لا يستوعبونه. منذ أن سقط الاتحاد السوفيتي أصبحت روسيا أشبه ما تكون ببعض بلدان الربيع العربي بعد نيل الاستقلال، إذ ظهرت نخبة من السياسيين الذين تولوا إدارة البلاد بعيدا عن التطلعات الشعبية وأخذوا يتداولون بينهم مقاليد السلطة والمال وسط تضييق واسع على الممارسات الديمقراطية الحرة، ورغم ذلك، أقامت مختلف دول المنطقة علاقات سياسية واسعة مع موسكو، خاصة حين لعبت دورا في تسوية عملية السلام الإسرائيلية العربية التي انطلقت من مدريد.
لكن كثيرا من المراقبين يرون تلك التحركات المبكرة إنما كانت موجهة للغرب ولم تكن موجهة للعالم العربي، لقد كانت بمثابة إعلان تأييد روسي للمواقف الأميركية والغربية في مختلف القضايا، وصولا إلى أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر حيث فتحت روسيا الكثير من قنوات الاتصال مع دول محورية ومهمة في العالم العربي، كان الاقتصاد هو العامل الأبرز في تلك العلاقات.
لقد استطاع الرئيس بوتين في فترة ولايته السابقة أن يعيد شيئا من الاستقرار الداخلي لروسيا، لكنه استقرار بمقاييس روسية خاصة، فبعد عقود من الانفلات الأمني والتدهور الاقتصادي كانت روسيا بحاجة إلى رجل يغسل الفترة المتردية التي حكم فيها يلتسن الرجل المريض والعاجز.
استعادت روسيا شيئا من استقرارها الداخلي، فاتجهت للخروج من فكرة أن تكون تابعة لسياسة الغرب والولايات المتحدة خاصة أن كثيرا من الملفات المعلقة تمثل هاجسا روسيا لا يهدأ.
لقد رأت روسيا في الحرب الأميركية على العراق بداية لوجود فراغ سوف تخلفه تلك الحرب، وظهر كثير من المعلقين والسياسيين الروس الذي شبهوا ما ستواجهه الولايات المتحدة في العراق بما واجهه الاتحاد السوفيتي في أفغانستان.
لم تلبث عمليات البحث عن قوة لروسيا أن ارتبطت بملفاتها العالقة من الولايات المتحدة إلى الدرجة التي يمكن القول معها إن نوعا من الحرب الباردة عاد إلى الواجهة. كان نشر الدرع الصاروخي في دول أوروبا الشرقية، وفي دول وسط آسيا التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي بالنسبة لروسيا نوعا من المنازعة السيادية، وبالإضافة إلى بعض الملفات فقد وجدت روسيا نفسها تسعى لمواجهة سياسية مستمرة مع الولايات المتحدة. ولقد وجدت في منطقة الشرق الأوسط أبرز المحاور التي يمكن من خلالها أن تواصل لعبة المناورات السياسية مع الغرب.
حاولت موسكو أن تلعب دورا في قضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وقامت قيادات روسية بزيارات لفلسطين، محاولة من روسيا أن تكسب لها موقعا في إدارة هذه القضية بالغة الأهمية، وفي عام 2006 م دعا بوتين قيادات في حركة حماس لزيارة موسكو.
كل ذلك تعرض لنكسة كبرى مع اندلاع ثورات الربيع العربي، ويشير محللون إلى أن روسيا كانت تدرك أن لحظة ما ستتواجه فيها روسيا مع تلك الثورات، وستجد فيها تهديدا لكثير من مصالحها، وإطاحة بما استطاعت بناءه من علاقات استراتيجية، بل وتهديدا لأطماع اقتصادية.
لروسيا علاقات متميزة مع إيران، ومع حزب الله اللبناني ومع النظام السوري، وهي منظومة علاقات تتضمن بكل وضوح نوعا من المخاتلة السياسية مع الولايات المتحدة والغرب. ومع اندلاع الثورات العربية لم تستطع روسيا أن تكون بذات الإيقاع الغربي الذي اندفع مؤديا بكل قوة لتلك الثورات.
كانت الثورة الليبية أولى لحظات الممانعة السياسية لروسيا، إذ وقفت رافضة لتدخل قوات حلف الناتو، لكنها أدركت أن عليها تأجيل ذلك الرفض وتلك الممانعة لاستخدامها أمام ثورات في الشرق الأوسط، كان نظام دمشق أبرز المرشحين لمواجهتها.
فيما لو فقدت روسيا النظام السوري، فإنها ستفقد أبرز الملفات التي تلعب من خلالها أهم المناورات السياسية مع الولايات المتحدة، فجزء كبير من موقعها في الشرق الأوسط مرتبط بعلاقاتها مع النظام السوري ومع حزب الله وإيران، وكلها دوائر سوف تتداعى تباعا إذا ما سقط النظام، لأن الذي يتصرف في روسيا هم تلك النخبة السياسية التي تواصل تداول موقعها في الكرملين فهي لا تقيم وزنا لأي من الحسابات المستقبلية لعلاقة روسيا مع دول المنطقة، لأن تلك النخب مشغولة باللحظة السياسية الراهنة. التي يصبح فيها السياسي هو كل الدولة. في نموذج مشابه لما يحدث في طهران. لقد تحولت موسكو إلى محام دولي تصف بعض الدوائر الغربية بكثير من الوقاحة في دفاعه عن النظام السوري، والذي يكشف عن ورطة سياسية كبيرة تعيشها روسيا بدأت تظهر بوادرها في سيل الاحتجاجات والمظاهرات التي تشهدها المدن الروسية باستمرار.
الآن ثمة حالة من الانكشاف والحرج الروسي الشديد أمام المجتمع الدولي، وأما العالم العربي والإسلامي، خاصة بعد المذابح الأخيرة التي شهدتها سورية والتي مثلت حرجا بالغا لا يمكن لموسكو أن تتجاوزه بسهولة.
إن ما حدث من امتناع رجال الأعمال السعوديين عن استقبال وفد اقتصادي روسي ليس سوى نموذج على حالة الرفض التي تشتد يوميا في كل العالم العربي ضد كل ما هو روسي، بل وإشارة إلى أن المصالح الاقتصادية التي تسعى روسيا لحمايتها ستكون أول خسارة تتلقاها موسكو.
لقد كان موقفا مشرفا وعمليا، ورسالة واعية للسياسات الروسية، التي استنفدت كل قيمها غالبا وهي تواصل دفاعها عما يحدث في سورية من فظائع.