Friday, June 8, 2012

للفشل مراتبهُ أيضاً

خيري منصور
ما نَسمعُهُ في المواسم الانتخابية من المرشّحين سواء في وعودهم للمستقبل أو إداناتهم للماضي، لم يجرؤ عليه أفلاطون في جمهوريته، ولا الفارابي في مدينته المثالية، ولا حتى السخاوي في شروطه المعروفة التي يجبُ أن تتوفر في الحاكم.
وكلما ارتفع سَقْف الوعود وحَلّق المرشح عالياً، وبعيداً، كان توقع الصّدمات أكبر.
وقد حدث هذا مع عدد كبير من الرؤساء وآخرهم أوباما، الذي أوشكت ولايته الأولى على الانتهاء، ولا تزال الكتابات تتعاقب حول الوعود والخذلانات، بدءاً من وعد غوانتنامو وحتى الوعد بدولة فلسطينية.
ولا ندري لماذا يفرط المرشحون في هذه الوعود، وكأن ليس لديهم أداة تقاس بها المسافة بين الحلم والقدرة على ترجمته ميدانياً إلى واقع، وأحياناً يكون المتحمسون لحملة هذا المرشح أو ذاك ملكيّين أكثر من الملك، أو كما يقال كاثوليكيين أكثر من البابا، فيورطوه بما لا يطيق، وبالطبع يكون ذلك ضمن تنافس مع آخرين، لا يقلون ادعاء بأنهم كما يقول المثل الشعبي المصري، قادرون على تحويل الفسيخ إلى شربات، أو على حراثة البحر.
وكلما اقترب موعد الصناديق يكون انقطاع الوعود والشعارات عن الواقع أكبر وأشد، ومن بشّروا العالم باليوتوبيات أو المدن الفاضلة فإن مِن حُسن حظهم أنهم لم يحكموا بل توقفوا عند حدود الحلم، لأنهم لو مارسوا أقوالهم لربما سقطوا في كمائن تاريخية تُحوِّل اليوتوبيا إلى ديستوبيا أو المدينة الفاضلة إلى مدينة راذلة.
ولا بد أن يمر بعض الوقت وتتكرر التجارب الديمقراطية كي يعترف الحالمون بالسلطة بأن العزم يأتي على قدر أهله، وليس على قدر الكلام أو الشعارات والخطب.
وإذا كان النجاح سواء تعلق بالانتخابات أو بأي حقل آخر في حياتنا يأتي على درجات فإن الفشل أيضاً كذلك، إذ لا يمكن وضع مرشح في المرتبة الثالثة مع آخر في المرتبة العشرين في مركب واحد أو خانة واحدة، والمطلوب سياسياً وأخلاقياً من أي مرشح سواء لمجلس قروي أو لرئاسة دولة أن يَعرف قبل كل شيء قدر نفسه، لأنه لو عرف ذلك لما جازف، فخامل الذكر أحياناً أفضل من صاحب الذكر غير الحميد كما قال ابن المقفع.
عرف الواقع العربي مرشحين لبلديات ونقابات وأحزاب وعدوا بتحرير فلسطين كلّها، لكن ما إن حالف الحظ بعضهم في الصناديق حتى كان الحظّ التاريخي هو الأسوأ بحيث ضاع ما كان متبقياً من فلسطين.
إن للانتخابات على اختلاف مستوياتها ثقافة وأدبيات وأعرافاً تَفْرضُ نَفْسَها، ومنها عدم التورط بسوء التقدير، فالقوانين قد لا تَحْرم نصف شعب ما بأن يرشح نفسه لأي منصب رفيع، لكن الناس لا يفعلون ذلك، لأن لديهم حسابات، ولا يريدون من الآخرين أن يسخروا من فشلهم ويحولوه إلى أمثولات خصوصاً إذا كان فشلاً ذريعاً.
وإذا كانت الجمهوريات المُثلى والمدن الفاضلة على امتداد العصور بقيت حبراً على ورق، فإن تلك التي يعد بتحقيقها مرشحون يَسْقطون ضحايا للمسافة الهائلة بين الرّغبة والقدرة لا تبقى حتى على الورق، إذ سَرْعان ما تكنسهم الريح، لهذا وحده من يفوز هو ذلك الذي يطلب المستطاع، ويمتلك حاسوباً ذكياً لقياس المسافة بين ما يقول وما يمكنه أن يفعل، وإلى أن تترسخ مثل هذه الثقافة لا بد من المرور بمثل هذه المراحل من الثرثرة الانتخابية.