Sunday, June 24, 2012

رئيس مصر القادم

علي جرادات
لا جديد في القول بأهمية مصر ووزنها في التأثير في بقية الأقطار العربية، فهي ليست الدولة الأكبر فحسب، بل هي أيضاً الدولة الأكثر رسوخاً لناحية بناء مؤسسات الدولة والاقتصاد والمواطنة، مع ما يتصل بذلك من تكوينات اجتماعية وثقافية تتجاوز التقسيمات العشائرية والمذهبية والطائفية، ما يفسر الإسقاطات الإيجابية لثورة يوليو 1952 بزعامة عبدالناصر على بقية الأقطار العربية، حيث دشنت، (بإنجازاتها الوطنية والقومية والاجتماعية)، مرحلة مدٍ قومي اكتسح الجزائر واليمن وسوريا والعراق وفلسطين، بينما دشن توقيع السادات على اتفاقات كامب ديفيد العام 1979 عهداً من التحولات الفكرية والسياسية والاجتماعية عمت الوطن العربي، تخللها احتلال بيروت العام 1982 وتشتيت البندقية الفلسطينية بما مهّد “لأوسلو”، واحتلال العراق العام ،2003 وصولاً إلى ما يعيشه أكثر من قطْرٍ عربي من إذكاء للمذهبية والطائفية الدموية واستنزاف الهوية الوطنية الجامعة .
وبالمثل، فإنه، ولئن أوحت الثورة التونسية للثورات العربية بطابعها السلمي، (الذي انحرفت عنه الثورتان الليبية والسورية وبنسبة أقل الثورة اليمنية)، فإن الثورة المصرية ماانفكت تصوغ الأنموذج الخاص لهذه الثورات، أنموذج جماهير تحتشد بالملايين في ثورة سلمية من دون قيادة تنظيمية، جماهير تلمست برنامجها الأولي، وما انفكت تطوره بممارسة ثورية أنجزت مهمات ومازالت تنتظرها مهمات أكبر، لكن، ولما كانت مقاربة أنموذج الثورة المصرية، (كأي أنموذج ثوري آخر)، ليست عملاً مزاجياً وإرادوياً، بل مستقاة من تجارب التاريخ، فإنها تسعى إلى إطاحة النظام السياسي القائم وقواه الاجتماعية، وإلى تشكيل نظام سياسي جديد بقوى اجتماعيه جديدة يولد ثقافة وسياسة وقيماً وأخلاقيات جديدة، إنما في إطار صراع بين قديم يتهاوى وجديد يولد، وتحكمه، (خط سيرٍ وصيرورة ونتائج)، تناقضات متداخلة، هي:
1 تناقض الثورة وقيادة الجيش التي، وإن كانت رفضت “توريث” السلطة، ونأت بنفسها عن إدماء الثورة، وأسهمت في إجبار رأس النظام على التنحي، إلا أنها انتهجت سياسة تلبية بقية مطالب الثورة ب”القطارة” وتبعاً لضغط “الميدان”، أي سياسة إصلاح النظام لا تغييره .
2 تناقض الثورة والنظام الذي، وإن أطيح رأسه وبعض رموزه، لكنّ ما له من مؤسسات حكومية ومحلية وثقافية وإعلامية وقاعدة اجتماعية ذات قدرات اقتصادية هائلة ظلت قائمة تحاول لملمة صفوفها، وهي، وإن أقرت بضرورة تلبية بعض مطالب الثورة، لكنها رفضت المس بأسس النظام، وواصلت الضغط على “المجلس العسكري” لمواجهة ما تمارسه عليه قوى الثورة من ضغط .
3 تناقض الثورة مع القوى الخارجية من الثورة المضادة بقيادة الولايات المتحدة التي حسمت بذهاب مبارك وبعض رموز نظامه، وبدوران عجلة الديمقراطية السياسية الليبرالية، إنما في إطار احتواء الثورة وإجهاض أبعادها القومية والاجتماعية والتنموية الوطنية المستقلة، أي بما يُبقي مصر ملحقة بالسياسة الأمريكية وملتزمة باتفاقية “كامب ديفيد” مع “إسرائيل” .
4 تناقضات الثورة ذاتها التي، وإن انطلقت شعبية وعارمة، ووحد “الميدان” مطالبها لمدة 18 يوماً، إلا أنها مكونة من تيارات فكرية وسياسية ومجتمعية متنوعة المشارب والأهداف والمرجعيات، بينها من ساوى بين الثورة ونفسه، وطابق بين برنامجها العام وبرنامجه الخاص، وأضمر التفرد في قطف ثمارها واستعمالها وسيلة للقفز إلى سدّة السلطة والسيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها كافة وتغيير هويتها، وقد تبدّى ذلك جلّياً في صفقة “الانتخابات لا الدستور أولاً” التي عقدها “الإخوان” و”السلفيون” مع “المجلس العسكري” ضد إرادة مشعلي الثورة، (“الشباب”)، ومن ساندهم بإخلاص من قوى سياسية ومجتمعية متنوعة المشارب، ما أسس لإدخال مصر الثورة في 16 شهراً من “شد الحبال” أفضت إلى ما تعيشه مصر الدولة اليوم من عدم استقرار وفراغات وتنازع واستقطاب حاد وتعقيدات لا تنبئ بقرب انتهاء “المرحلة الانتقالية”، أو بانطفاء جذوة الثورة، أو ببقاء ميزان القوى بين القوى السياسية المصرية على حاله، إذ ثمة قوى جديدة نشأت وأخرى قديمة تعززت الثقة الشعبية و”الشبابية” ببعضها وتراجعت عن أخرى، بينما ظل العنصر الشبابي الذي أطلق شرارة الثورة، وكل من تقاطع معه منذ البدء، الضمانة الأولى والأكثر صلابة للثورة، بل والمعبر، تقدّم الأمر أو تأخّر، عن مستقبلها، حتى، وإن تراءى أن القوى والتراكيب والأطروحات والرموز الشائخة سواء داخل النظام أو داخل قوى المعارضة، قادرة على إعادة العجلة إلى الوراء، فالعنصر الشبابي مازال هو الحلقة المركزية الناظمة لحلقات السلسلة والعمود الفقري لجسم الثورة، الذي ينتج، وإن ببطء، قيادته بدليل الفوارق النوعية بين نتائج جولتي الانتخابات الرئاسية ونتائج الانتخابات البرلمانية رغم قِصَرِ المدة الزمنية الفاصلة بينهما، ما يؤكد حقيقة أنه لا مجال لإنهاء المرحلة الانتقالية من دون وضع دستور جديد للدولة، حيث ثبت فشل خيار “الانتخابات أولاً” الذي حشر قوى الثورة وشبابها في ثنائيات صعبة، كان آخرها: إما اختيار الفريق شفيق بكل ما يحوم حوله من شبهة السعي إلى إعادة إنتاج النظام السابق، وإما اختيار الدكتور مرسي كممثل لطرف قرر الانفراد بالثورة وقطف ثمارها والسلطة الناشئة عنها بعيداً عن باقي الشركاء، بينما لا يعبر أي منهما عن شخصية مصر وهويتها المنشودة في مرحلة ما بعد الثورة . ما معنى هذا الكلام؟
الثورة المصرية، كأية ثورة، عملية تحويل معقدة للظروف والذات والناس، إنما هي تجسيد حي عالي المستوى لكيفية حضور العام في الخاص ضمن شروطه ومزاياه، وهذا يتطلب فهماً ملموساً لخبايا طورها الراهن وبواطنه عبر الانتقال من قشوره إلى عمقه، أي إلى حركة تناقضاته التي تشير، (برأي المرشح الرئاسي السابق، حمدين صباحي)، إلى أن “الرئيس المصري القادم، بمعزل عن هويته، سيكون ضعيفاً ومؤقتاً، إذ دون نص واضح في باب الأحكام الانتقالية بالدستور الجديد يؤكد استمرار الرئيس لحين انتهاء مدته، فإن الأرجح أن يعاد انتخاب رئيس جديد بعد إقرار الدستور وإجراء الانتخابات البرلمانية”، ما يعني أن التغيير في مصر عملية معقدة سيتخللها المزيد من الأزمات، لكن أحداً لا يستطيع إيقاف دوران عجلتها، أو الانفراد بنتائجها .