Sunday, June 24, 2012

العرب والحكمة من الانتخاب

الحسين الزاوي
شهدت معظم الدول العربية مواعيد انتخابية عديدة دُعي خلالها المواطنون إلى اختيار ممثليهم، من قاعدة الهرم التمثيلي إلى قمته، ممثلاً في انتخابات الرئاسة المصرية الأخيرة، وبصرف النظر عن هوية الفائزين أو عن انتماءاتهم السياسية والأيديولوجية، فإن هناك سمات مشتركة ودروساً متقاربة يتوجب استخلاصها من هذه المواعيد السياسية المختلفة التي استطاعت أن تستقطب اهتمام قطاعات واسعة من الرأي العام العربي .
وقبل إجراء أي تقييم لهذه العمليات السياسية، علينا إعطاء التوضيحات الكافية المتعلقة بدلالات هذا الفعل الانتخابي الذي أضحى أمراً ممكناً بفضل الوعي النسبي الذي بلغته المجتمعات العربية المعاصرة، فالانتخاب يقصد منه - في اللحظة نفسها- السيرورة والفعل، ومن ثمة النتيجة الناجمة عن اختيار أو تعيين شخص أو خيار ما بوساطة عملية الانتخاب، لأن الدلالة الأصلية للكلمة تفيد معنى الاختيار، وبالتالي فإن الممارسة المترتبة عن الفعل الانتخابي، تعبر عن رغبة لدى الفاعلين السياسيين المختلفين من أجل تأسيس مجتمع تعددي، من منطلق وجود قناعة جماعية من أجل الحسم ما بين خيارات مختلفة وأحياناً متناقضة، الأمر الذي يطرح بحدة جملة من الأسئلة المتعلقة بآليات اتخاذ القرار، من مثل: من الذي يملك الكفاءة الضرورية من أجل المشاركة في اتخاذ القرار؟ ما القيمة أو “الوزن” الذي يمكن أن نمنحه لكل واحد من أصحاب القرار من بين الذين تم الاعتراف لهم بهذه الكفاءة؟ . . لكن علينا أن نُقِرّ أنه ورغم أن الممارسة الانتخابية تعود بأصولها إلى اليونان القديمة، خاصة في أثينا مع بركليس، فإن الانتخاب اصطبغ- في البداية- بالممارسة اللاهوتية في القرون الوسطى، وكان يشير إلى الطقوس المتعلقة بمراسيم الاختبار والتثبت من إيمان الآخرين أو بالقبول الرباني للمختارين . ومع بداية الأزمنة الحديثة بدأت عملية الانتخاب تأخذ صبغة دنيوية ومدنية، وأضحت ترمز إلى رغبة مختلف الفاعلين في تحقيق أهدافهم وطموحاتهم بطرق سلمية وعقلانية في سياق عملية تقاسم منظم ومُشفّر لمواقع السلطة . ومع تأسيس الدول القومية المعاصرة أصبح الانتخاب مرادفاً لحرية الاختيار بالنسبة إلى أغلبية مؤسسات المجتمع الدولي . وبالرغم من أهمية هذه العناصر التي أتينا على ذكرها، فإنها لا ترقى إلى مستوى القواعد الكلية، ذلك أن الكثير من المفكرين المعاصرين بدأوا يشككون في البديهية التي تؤكد أن المعادلة الانتخابية تساوي نظاماً ديمقراطياً، لأن الانتخاب تحوّل في حالات عديدة إلى مجرد تكنولوجيا اجتماعية يتم التحكم في آلياتها بشكل مسبق، وخاصة أن الانتخاب ليس أمراً سهلاً أو بسيطاً، كما يمكن أن يتبادر إلى الأذهان، حتى وإن كانت كل الأطراف مقتنعة- بدرجات متفاوتة- أنه لا وجود حتى الآن لآلية ملائمة لتجسيد الديمقراطية بعيداً من الفعل الانتخابي .
ونستطيع أن نستثمر كل هذه المعطيات من أجل القول، إن الانتخابات العربية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن تجربتنا الديمقراطية يمكنها أن تغتني بالممارسة، وأنه لا يكفي أن نقوم بتطبيق الفعل الانتخابي من أجل الوصول إلى تحقيق مجتمع تعددي وديمقراطي، لأن ممارسة هذا الفعل والقبول بنتائجه يبدأ في سن مبكرة عندما يتعلم الأطفال كيفية انتخاب ممثليهم في الأقسام والمؤسسات التربوية، وبالتالي لا يمكن تحقيق الديمقراطية من خلال أحزاب ومجتمع مدني وتنظيمات مهنية لا تمارس هي نفسها معايير الانتخاب بكل حرية وشفافية . وهذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج أن ما يحدث عندنا، من حالات تتعلق بتزكية القيادات الحزبية والمهنية، لا يشكل فعلاً انتخابياً، بقدر ما يمثل سطواً على إرادة مناضلي القاعدة، ومن ثمة فإن الفعل الانتخابي الصحيح لا يعني فقط العمل من أجل الحصول على أعلى نسبة من أصوات الناخبين، ولكن يفيد أن المرشح يقبل بجميع قواعد اللعبة، وأنه بقدر ما هو مرشح للفوز، فإنه مرشح للهزيمة أيضاً . فالانتخاب - كتقنية معاصرة - لا يكفي لبناء قواعد خاصة بنظام تعددي، والفعل الانتخابي لا يمكنه في كل الأحوال، أن يحقق لنفسه نوعاً من الاكتفاء الذاتي، إذ لا بد أن يقترن بثقافة سياسية مدعومة بقناعة ديمقراطية راسخة، حتى يتم التوصل بشكل تدريجي إلى تشكيل مجتمع منفتح يملك قابلية كبيرة من أجل الاعتراف بالرأي المخالف .
وعليه فإن الدرس الأساسي للانتخابات العربية، يوضح لنا، في سياق قراءة أولية، أننا بدأنا نتحكم ولو بشكل جنيني في الآليات التقنية للفعل الانتخابي، غير أننا ما زلنا بعيدين كل البعد عن الوعي الصحيح الناجم عن هذا الفعل . لأنه وقبل أن نلوم كل الذين يسعون إلى تشويه الممارسة الانتخابية من خلال محاولة استمالة الناخبين بطرق غير شرعية، وصولاً إلى شراء أصواتهم ودفعهم إلى اعتماد اختيارات انتخابية لا تعبر عن طبيعة قناعاتهم الحقيقية، علينا أن نتساءل لماذا يقبل الناخب العربي أن يبيع صوته؟ كما علينا أن نتساءل إن كان هذا الشخص الذي يُقْدِم على بيع صوته بدراهم معدودات، يمثل عنصراً حقيقياً وأصيلاً في المعادلة الانتخابية؟
الواقع أن الشرط الأساسي للعملية الانتخابية، يظل - في اعتقادنا - مرتبطاً بروح المواطنة، والحال أن مفهوم المواطن لا يعني الشخص العادي أو الفرد الذي يدخل ضمن التعداد الإجمالي للسكان أو الناخبين المسجلين في قوائم الاقتراع، فمن الشروط الطبيعية للإحساس المتعلق بقيمة المواطنة أن يكون هذا المواطن النموذج، مكتفياً من الناحية الغذائية وغير مهدد في قوت يومه، وأن يشعُر بالتالي بالأمن ليس فقط في وطنه، ولكن في محيطه الأسري والعشائري، لأن هناك من يبني خياراته الانتخابية على أسس تفتقد إلى عنصر حرية الإرادة الفردية التي تعني أن بإمكان المواطن ألا يتقاسم القناعات السياسية والأيديولوجية الخاصة به، مع محيطه المباشر .
كما أن من السمات الأساسية التي تشير إلى تهافت الفعل الانتخابي وإلى افتقاده لدلالاته الأصلية المؤسسة لهويته، تحوله إلى عنصر للفتنة والفُرقة والعنف، لأن اللجوء إلى الممارسة الانتخابية يعني بالضرورة، أن كل الأطراف قد قبلت بمبدأ سلمية الممارسة السياسية، حتى وإن لم تفضِ هذه الممارسة إلى تحقيق أهدافها، ذلك أن الهدف المتوخى منها يكمن في تحويلها إلى قاعدة للفعل السياسي، ما يعني أن من خانَهُ الحظ هذه المرة يظل متيقناً أن المعادلة مازالت قائمة وقواعدها مازالت سارية المفعول، ويمكنه أن يُحقق في الجولات المقبلة ما عجز عن تحقيقه في هذه الجولة . ونستطيع القول تأسيساً على ما سبق، إننا شرعنا، من خلال تجاربنا الانتخابية الحالية، في تعلّم أبجديات الانتخابات، ويمكننا أن نُعبر عن رضانا النسبي عن قيامنا بتجاوز هذه الخطوة التمهيدية الجريئة، بالرغم من كل الاعتراضات التي وُجهت إلى هذه المسارات الانتخابية، من منطلق أن الرهان الأساسي الذي سيظل مطروحاً في المواعيد المقبلة، سيتمثل في مدى قدرتنا على استيعاب الحكمة الكامنة والأبعاد الفلسفية العميقة للفعل الانتخابي، حتى تتحول الممارسة التقنية لفعل الانتخاب، إلى وعي جماعي يُسهم في ترسيخ التعددية وفي حماية مبدأ التداول السلمي على السلطة .